فيقال لهم:  فأخبرونا عن السنن ما هي عندكم ؟.

فمن قولهم: مثل: مواقيت صلاة الظهر إذا زالت الشمس، والمغرب إذا غربت الشمس، ومثل: الفطر([219])  يوم الفطر، والوتر بالليل.

 فيقال لهم: هل يجوز لأحد أن يحول هذه السنن عن جهاتها فيجعل الوتر بالنهار ووقت الظهر لوقت المغرب، وصلاة النهار بالليل، وزكاة الفطر في الأضحى ؟.

 فمن قولنا وقولهم: لا يجوز.

فإذا أقروا أنه لا يجوز تغيير شيء من سنن الله، كما لا يجوز تغيير شيء من الفرائض التي ذكرنا، قلنا([220])  لهم: وكلنا نقول: إن هذا لا يجوز.

قيل لهم: فما تقولون في التطوع؟.

قالوا: الناس كلهم في التطوع مخيرون، إن شاءوا فعلوا، وإن شاءوا تركوا، وكذلك قال الله تبارك وتعالى:{فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ} [البقرة:184]، وقال: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 158].

[بحث نفيس في الإمامية]

 يقال لهم عند ذلك: ما تقولون في الإمامة أمن دين الله هي، أم من غير دينه؟.

فإن قالوا: من غير دين الله، لزمهم في اجتماع من اجتمع في إمامة أبي بكر أنهم لم يكونوا على دين الله.

وإن قالوا هي من دين الله، قيل: ومن أي دين الله هي ؟ أمن الفرائض هي، أم من السنة أم من التطوع ؟، فقد زعمتم أن الدين لا يخلوا من أحد هذه الثلاثة الوجوه.

فإن قالوا: من الفرائض.

قيل لهم: كيف فرض رسول الله الإمامة وأهمل الأمة، وقد زعمتم أن الإمامة معلومة مفهومة مفروضة ؟.

وإن قالوا: إنه يجوز أن يخالفوا رسول الله في فريضة واحدة جاز أن يخالف في الفرائض كلها؛ لأن الإمامة أفرض الفرائض؛ لأن جميع الفرائض لا تقام إلاّ بها، ولا يجوز تبديل فريضة الإمامة بوجه من الوجوه.

ودليل ذلك أن الإمامة موضع حاجة الخلق، وإذا بطلت الحاجة فسد التدبير، ودخل الوهن في التوحيد والرسالة؛ لأنه لا غنى بالناس عنها؛ لقول الله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}([221])[النساء:59]، فأمر سبحانه بثلاث طاعات([222])        على الخلق ترجع إلى طاعة واحدة، وهي طاعة الله عز وجل، وأنه لا غنى بالناس بعد النبي من الإمام، وإلاّ سفكوا الدماء، وانتهكوا المحارم، وغلب القوي الضعيف، وبطلت الأحكام والحدود، وحقوق اليتامى والمساكين، ورجع الدين جاهلية.

والإمامة لا تكون ولا توجد إلاّ في موضع معروف في أرفع المواضع، وهي معدن الرسالة؛ إذ هي مقرونة بالرسالة؛ لأن الإمامة إذا خرجت من معدن الرسالة انقطعت الحجة، وادعت كل فرقة من الأمة، ووقع الاختلاف، وفي الاختلاف إبطال الدين، فلذلك أجمعت الأمة كلها على إمامة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم([223])؛ لأن أهل الصلاة عندنا خمس فرق: الشيعة، والمعتزلة، والخوارج، والعامة، والمرجئة.

 فقالت المعتزلة والخوارج: الإمامة جائزة في الناس([224])   ما صلحوا بأنفسهم، وكانوا عالمين بكتاب الله وسنة رسوله([225]).

وقالت العامة والمرجئة: إن الإمامة جائزة في قريش.

 وقالت الشيعة: هي جائزة في آل محمد محظورة عن غيرهم، وفي ذلك إجماع من الفرق، لأن من أجازها في الناس كلهم فقد أجازها في آل محمد؛ إذ هم أفضل الناس، وكذلك من أجازها في قريش فقد أجازها فيهم؛ إذ هم خيار قريش، وأوسطهم داراً، فالحق ما أجمعت عليه الأمة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأمَّا الإمامية فقد خالفوا الأمة كلها بإدعائهم النبوة بعد محمد خاتم النبيين؛ لأن هذا تكذيب لكتاب الله، وقول رسول الله مصرح، إذ يقول سبحانه: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وقال رسول الله بإجماع الأمة: ((علي مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي))([226]).

[إصطفاء الله لرسوله وأهل بيته قبل خلق آدم]

إعلم يا أخي أرشدك الله وهداك، أن تثبيت الإمامة في الإمام من الله عز وجل، كتثبيت النبوة في النبي سواء سواء، وذلك لا يكون من الله عز وجل إليهم إلاّ باستحقاق منهم لذلك المقام؛ لعلمه به فيهم قبل خلقه إياهم، كما ذكر أنه سبحانه لما خلق آدم قال له قل: ((لا إله إلاّ الله محمد رسول الله)).

 قال له آدم: من هذا يا رب ؟.

قال: رجل من ولدك به أختم الأنبياء، فكان اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم مشهوراً عند الأنبياء، ومن تبعهم من المؤمنين إلى أن أظهره الله وبعثه، كما قال سبحانه فيه: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ(156)الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ(157)قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:156ـ159].

 فلما ظهر صلى الله عليه وآله وسلم دعا الناس كلهم إلى طاعة الله، آمن به قوم، وصدَّ عنه قوم، فكان ممن آمن به من قوم موسى عليه السلام، كما قال سبحانه: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}[الأعراف:159]، تكذيباً لليهود عندما هم يزعمون أن محمداً لم يرسل إليهم ـ عليهم لعنة الله ـ.

 ثم قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}...إلى قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:6ـ9]، وكذلك آمن به من قوم عيسى نفرٌ، وكرهه آخرون، بعد معرفتهم بأنه رسول الله إليهم، وإلى غيرهم من الناس.

وكذلك عرَّف الله   ([227]) محمداً بأنه يظهر المهدي من ولده، وأنه يختم به الأئمة الطاهرين من ولده صلى الله عليه وآله وسلم، وكل ذلك لعلمه سبحانه أنهم سيبلغون رسالته إلى جميع خلقه، ويؤدون أمانته إلى عباده، فكانوا كما علمهم الله، ولذلك اصطفاهم، واختارهم واجتباهم، وقلدهم أمر عبيده، ومكنهم في أرضه، وأجاز لهم قبض خراج بلاده، وقسمه على أوليائه، كما ذكر الله في كتابه حين يقول لرسوله:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]، وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ}، إلى قوله: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60].

الأمر كله لله عز وجل، كما قال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

 صدق الله عز وجل، لقد خاب، وخسر وكذب وافترى من اختار غير خيرته، واتبع غير صفوته، ومال عن طريق رشده، وحكم بغير حكمه، كما قال عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، قال الله تبارك وتعالى لرسوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].

ثم بين سبحانه هؤلاء الذين آتاهم الملك من هم ؟ والذين نزعه([228])  منهم مَنْ هم ؟ فقال سبحانه:{أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا(53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا(54)} [النساء:53ـ54].

 ذكر سبحانه أنه أعطى ملكه هذا خليله إبراهيم، وآله المصطفين، ونزعه من أعدائهم الفراعنة الجبَّارين، إذ لكل نبي فرعون يحاربه ويعاديه، كما قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ}[الفرقان:31]، ومع كل فرعون سامريّ، يموه على أهل عصره أن الذي أوتي الملك هو صاحبه، وأنه العزيز القاهر، إذ قتل نبي الله وأتباعه فيجير([229])  عليهم كذبه، حتى يقع عندهم أنه صادق في قوله، مصيب في كلامه، وذلك لقلة تمييزهم، واتباع هوى أنفسهم، وتقليدهم إياه أديانهم، كأن لم يسمعوا قول الله([230]) حين يقول عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[المنافقون:8].

والمنافقون إلى وقتنا هذا يقولون بقول إخوانهم؛ إذ يزعمون ويموهون، ويقولون أن العزيز([231]) يسفك دماء المسلمين، ويهتك حريمهم، ويأخذ أموالهم، فهذا عند خالقهم ذليل، كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة:20].

[العزة والغلبة لله ولرسوله]

 ثم بين سبحانه [أن] العزة والغلبة له، ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا والآخرة، وذلك قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، فمن زعم أن رسل الله وأولياءه غُلِبوا في هذه الدنيا، فقد خالف الله في قوله، لأن أولياءه سبحانه لا يغلبون أبداً، كما لا يغلب هو أبداً، عز وجل، لأن الآية شهدت له ولرسوله بالغلبة والعزة والقهر، وشهدت على أعدائه وأعداء رسله بالذل والهوان، والخزي والخسران، كما قال سبحانه: {أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19].

وأما قول صفيِّه نوح عليه السلام حين قال: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}، لم يقل إنهم أدحضوا حجته، ولا قدروا أن يزيلوا عليه([232])  نعمة الله، التي أنعم بها عليه، ولا أنهم أبطلوا نبوته، إنما قال لربه: إنهم يا رب أدبروا عني ولم يقبلوا قولي، كما قال: {وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح:7]، لا تذر([233]) يا رب منهم على الأرض ديَّاراً، فاستجاب الله عز وجل دعاءه وأغرق أعداءه، وأنجاه وأولياءه، وأورثه أرضه، وكذلك أعز الله نبيه يحيى عليه السلام، وإن قتلوه، فقد أخرجوه من دار التعب إلى دار الراحة والكرامة، فيحيى منصور من ربه([234]) مخذول من قومه، مخذول من قتله من أعداء الله، فنصر الله دائم لنبيه، وخذلان الناس له فقد تصرم ذلك وانقضى، ووبال ذلك عليهم لا على رسول الله:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63)لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(64)وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(65)} [يونس:62ـ65].

ميز يا أخي بين أولياء الله وأعدائه واعرفهم، فإنك إذا عرفتهم على الحقيقة، رغبت إلى أولياء الله وزهدت عن أعداء الله، واعتزلتهم، ثم علمت أنك إذا صرت في حزب خالقك، كانت الغلبة لك في دنياك وآخرتك.

[الملك هو النبوءة والإمامة]

وتصديق ما قلت لك أن الملك هو النبوة والإمامة، قول الله عز وجل لرسوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إسرائيل مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]، قال لهم نبيهم عليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247].

 بين سبحانه أن الملك هو العلم والبر، والتقى والقوة والأمانة، لا المال والخدم والحشم، ثم زاد بين رسوله لهم حقيقة الملك حين قال لهم: {إِنَّ ءَايَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ ءَالُ مُوسَى وَءَالُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:248].

 ألا ترى أنه من قام مقام النبي في أمته، وسار فيهم بسيرته، وحكم بحكمه، وجب له من الملك والإمامة والأمر والنهي ما وجب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

 ثم قال سبحانه في آخر قصة طالوت عليه السلام: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].

ذكر سبحانه أن الملك الذي كان في طالوت آتاه خليفتة داود عليه السلام بعد طالوت، ثم قال سبحانه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ ءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258]، يعني: إبراهيم، لقول الله سبحانه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:83]، ليس نمرود بن كنعان، أخزاه الله.

 ثم قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَءَاتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:20].

 ثم قال سبحانه في وليّه ذي القرنين عليه السلام: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَءَاتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا(84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا(85)} [الكهف:84ـ85].

أفضى هذا الملك من خليل الله إبراهيم عليه السلام الأواه الحليم، إلى ذبيحه إسماعيل الحليم، ثم إلى ابنه إسحاق العليم، ثم إلى صفيِّه يعقوب إسرائيل الله، ثم إلى نبيه يوسف الصديق، ثم إلى الأسباط، ثم إلى كليم الله موسى وأخيه هارون المصطفين.

وقال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلم:((أول نبي من بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى بينهما ألف نبي على جميعهم السلام([235]))).

ثم حول الله عز وجل هذا الملك إلى نبيه وصفيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، السراج المنير، فحسده إياه قوم من أهل الكتاب، فقالوا: كانت النبوة في ولد إسحاق، فكيف صارت إلى العرب، إلى ولد إسماعيل ؟لأن إسماعيل أول من نطق بالعربية، أنطقه الله بها، فمحمد نسبه إلى إسماعيل، ولذلك قال النبي [صلى الله عليه وآله وسلم] لسلمان الفارسي([236])[رضي الله عنه]: ((أحبب العرب يا سلمان لثلاث: نبيك عربي، وكتاب ربي عربي، ولسانك  في الجنة عربي([237])))، وكذلك إذا أعجبه شيء  ([238])  يقول: أنا ابن الذبيح([239]) .

فحسد أهل الكتاب لمحمدٍ، كحسد([240]) إبليس لأبيه آدم، إلاّ أن إبليس من غير جنس آدم، كما قال الملعون: أنا خير منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين، فإسماعيل وإسحاق وأولادهما من جنس واحد، كما قال سبحانه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ(5)خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ(6)يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ(7)} [الطارق:5ـ7]، ثم قال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ(27)} [الحجر:26ـ27]، وقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1] الآية، فهذا نسب آدم وأولاده، لا فضل لواحد على الآخر، إلاّ بتقوى الله، كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، ثم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60].

 فأكثر ما مع هؤلاء الحشوية في مقالتهم، قول اليهود والنصارى في التشبيه والتجوير، وتكذيب الرسل فيما جاءت به، وذلك بإدبارهم عن الرسول وأهل بيته، ومعاداتهم، فسحقاً لهم.

وقالت اليهود ـ عليهم لعنة الله ـ: إن محمداً هو ابن إسماعيل، وإسماعيل هو ابن جاريتنا هاجر، فصدقتهم الحشوية فيها، وفي أن الذبيح هو إسحاق.

10 / 44
ع
En
A+
A-