ومن سورة الأنعام:

وسألت: عن قول الله سبحانه: ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين، فقلت: ما تأويل القرن وقلت إنه يقال عندكم ثمانون سنة قال محمد بن يحيى عليه السلام: القرن الخلف الذي يكون بعد الأول الفاني، فأما ما يقال به من ثمانين سنة فليس ذلك بشيء لأنا قد رأينا قوما يزيدون على الثمانين في عصر واحد، ولكن القرن ما خلف من قد مضا، ويقال القرن لأنهم غير الأولين فسبحان الله رب العالمين، وفي ذلك ما يقول الشاعر:

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم... وخلفت في قرن فأنت غريب

وسألت: متا يقسم مال المفقود، قال محمد بن يحيى عليه السلام يقسم مال المفقود إذا مضى عليه من السنين ما لا يجوز أن يبلغه أحد من أهل دهره فإذا مضت السنون التي لا يمكن أن يبلغها المفقود أقتسم ماله.

وسألت: عن قول الله سبحانه: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الذين أوتوا الكتاب فهم اليهود والنصارى وهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وآله ويثبتون صفته ويقفون على صحة أمره وما أمروا به من طاعته، كما يعرفون أبناءهم مشروح ذلك في كتبهم مبين لهم ولكن جحدوا ما عرفوا وأنكروا ما علموا فضلوا وخسروا ذلك هو الخسران المبين.

(1/450)

وسألت: عن قول الله سبحانه في سورة الزمر: قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين، قال محمد بن يحيى عليه السلام صدق الله العظيم إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة خسروا بتفريطهم فيما ينجيهم وتركهم النظر لأنفسهم في ما يحييها ومن عذاب ربها ينجيها حتى خسروا أنفسهم وصاروا إلى جهنم وبئس المصير، ومعنى: وأهليهم هو ما جعله الله سبحانه لهم على الطاعة من الحوريات والخلد والنعيم الذي جعله لجميع المخلوقين ثوابا على طاعتهم، فلما أن عصوا الله عزوجل وآثروا دنياهم واختاروا حلاوة فسقهم خسروا أنفسهم وأهليهم.

ثم قال سبحانه: ألا ذلك هو الخسران المبين، تأكيدا في الخسران، وتقريعا على التقصير، لأنه خسران لا يجتبر إذ كل خسران في الدنيا يستلحق ويدرك ويستعاض إلا من خسر بتقصيره نفسه فأوردها جهنم وترك ما أعد الله عزوجل على طاعته مما ذكر سبحانه للمطيعين من الجنان والرضى والرضوان، والحور الحسان، وذلك الفوز العظيم والمحل الكريم، ولمثل ذلك فليعمل العاملون، وله فليقصد الطالبون.

وقلت: إنه يقال: ما من مؤمن ولا كافر إلاَّوله، منزلة في الجنة، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أما الكافر فلا شيء له ولا كرامة ولا مرتبة عند الله سبحانه ولا سلامة والله سبحانه فإنما خلق الخلق جميعا ليعبدوه، فقال جل ذكره: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، فجعل الجنة للمطيعين والعقاب للعاصين، ولو قبلوا ما تعبدوا به كما قبله المؤمنون لكانوا من المثابين، وعند الله عزوجل من المكرمين، بل غلبت عليهم شقوتهم وتركوا أفضل المنازل لشرارتهم ورادوة أفهامهم وإنما هلكوا بنفوسهم ولم تأتهم الهلكة من ربهم بل أعذر إليهم وأنذر وأوضح وبين وكلف فسهل وبذل المغفرة وأمهل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم.

(1/451)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون، فقلت: ما معنى مسألة الله عزوجل لهم، قال محمد بن يحيى رضي الله عنه معنى قوله عزوجل: أين شركاؤكم تبكيت لهم، وتقريع وإذلال عند ما تنقطع بهم الأسباب ويعاينوا ما كذبوا به من أليم العذاب، لأنهم كانوا يساوون الله عزوجل بخلقه ويعبدون الأصنام ويوقدون النيران ويرون ذلك عندهم حسنا جايزا ومن الشرك أيضا طاعة الجبارين الظلمة المتمردين فيشركونهم ويجعلون لهم من الطاعة ما لله عزوجل ويتبعون منهم الرضا ويبتغون في ذلك الغي، والهوا ويتركون عيانا رشدهم مصدقون لهم في كفرهم مستمعون من كلامهم حتى ضلوا وهلكوا، وعن سبيل الحق يقينا عدلوا فأصبحوا من المعذبين، وعند الله سبحانه من الهالكين.

ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفا، فيقولون عندما يرون العذاب ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، وقالوا ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين، وكل ذلك ندم وأسف على ما فاتهم من التعلق بالحق، والميل في طريق الصدق بغرور ما كانوا يعبدون وخديعة ما كانوا يطيعون.

وأما قولهم: والله ربنا وما كنا مشركين، فإنما ذلك كذب منهم وكلام عند معاينة العذاب، يرجون به ما لا ينالون جهلا منهم وإيقانا بالعذاب وتقطعا من الاسباب لقبيح ما عاينوا في الآخرة، من المآب جهنم يصلونها فلبئس المهاد.

(1/452)

وسألت: عن قول الله سبحانه: وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الارض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية، قال محمد بن يحيى رضي الله عنه هذا تسهيل من الله سبحانه على نبيه صلى الله عليه لما علم من غمه بإعراض الخلق عن الله سبحانه ومعصيتهم له ومخالفتهم لحكمه، فلما كبر ذلك على رسول الله صلى الله عليه وعظم عنده إعراضهم عن الله سبحانه واشتد عليه ما يرا من شرارتهم، قال الله سبحانه: فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض.

والنفق: فهو المحتفر في الأرض أو سلما في السماء، يقول: ترقا في السماء فتأتيهم بآية، وهذا غابة الاجتهاد الذهاب في الأرض والسماء، فقال: إنك قد جيتهم من الآيات والعلامات والحجج الواضحات الباهرات بما في أقل منه يؤمن من كان له قلب أو معرفة، ولم تترك غاية في حرص ونصيحة واجتهاد وموعظة، فما تريد أن تعمل بهم بعد ذلك، أتذهب في الأرض أو في السماء، وليس تقدر على ذلك ليس عليك من الأمر إلا ما قد فعلت.

ألا تسمع كيف يقول مشركوا قريش أو ترقا في السماء ولن نؤمن لرقيك فذكروا أنه لورقا في السماء لم يؤمنوا به لشدة كفرهم وعظم عنادهم.

وسألت: عن قول الله سبحانه: وما من دابة في الأرض ولا طاير يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، وقد تقدم تفسيرها إليكم في مسائلكم الأولى والله سبحانه باعث جميع خلقه كما ذكر في كتابه، وقلت: هل في الجنة خيل وإبل، قال محمد بن يحيى رضي الله عنه: إن يكن لأهل الجنة فيها طرب وشهوة، فسيجعلها الله سبحانه لهم كما قال سبحانه لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فكلما أحبوا أحضره الله لهم أو وقع في نفوسهم تصور من ساعته لهم على قدر مرادهم كرامة منه سبحانه لهم وجزأ على فعلهم، فهذه المنزلة العظيمة والدار الكريمة التي يرغب فيها من عقل وينافس فيها من فهم، نسأل الله حسن الاستعداد ليوم الحساب، فإنما نحن له وبه.

(1/453)

وقلت: هل في النار عفاريت وحيات، وقد قيل: بذلك وروى أن الله سبحانه يجعلها عذابا لأهل النار وغير مستنكر أن يجعل الله ذلك لهم لأن في النار ما هو أشد منها عذابا وأشد تنكيلا من سلاسلها وأغلالها ومقامعها وإنطباق لهبها على من صار إليها، وفي ذلك عقاب أليم وعذاب عظيم فشرابهم الحميم وطعامهم الزقوم لا يشبع ولا يغني من جوع في الذل والهوان والذلة والصغار يدعون فلا يحابون ويسترحمون فلا يرحمون ويستقيلون، فلا يقالون قد تقطعت بهم الاسباب، وصاروا إلى شر محل ومآب الجمر، يفترشون واللهب يلتحفون وبألوان العذاب يعذبون: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما.

قد غلت أنفاسهم واشتدت زفراتهم ونضجت جلودهم واسودت وجوههم في الكربات دايبون وفي الخزي مقيمون ولهول البلا هم كالحون، قد أبسلوا بحسرة نفوسهم وأيقنوا بالخلود في عذاب ربهم فعظمت الحسرة واشتدت النقمة، وزاحت عنهم النعمة فلا يرون أبدا راحة ولا يذوقوه في عذابها قبدة أدمغتهم في رؤسهم تغلا والصديد في أبدانهم يجري لباسهم القطران تلهبه عليهم النيران مقرنون في الاصفاد معذبون بأنواع العذاب لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها لا يستريحون ساعة فيسئلون ولا يجدون نعمة فيلهون: يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ) وصاحبته وأخيه ) وفصيلته التي تؤيه ) ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه، كلا، أكسبهم ذلك شهوات غفلفتهم وتصنيع العمل في أيام مهلتهم والتكذيب بما أوعد به ربهم والطاعة للمتمردين الظلمة من أهل دهرهم آثروا أياما تفنا، وتزول ودنيا متغيرة تحول فصاروا في ذلك إلى طول البلا، ومقاساة الشقا الذي لا انقطاع له ولا فنا أولئك الذين خسروا أنفسهم وأخذوا بذنوبهم حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

(1/454)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضرا لعلهم يتضرعون، قال محمد بن يحيى رضي الله عنه الأمم الذين كانوا فيه عليه السلام فهو مثل ما كان من أمة إبراهيم وأمة إسماعيل وأمة موسى وعيسى ومن كان مثلهم من الأمم الخالية الذين أرسل الله سبحانه إليهم رسله معذرين ومنذرين ومعلمين من الجهالة ومنقذين من الهلكة، فلما كانت منهم القسوة والصدود عن الحق والميل والعنود أخذهم الله عزوجل بالبأسا والضراء..

والبأسا: فهو ما يكون من عقابه وانتقامه من أعدائه وما يحل بهم من خسف وقذف بالحجارة، وقتل بالسيف ومسخ وإهلاك فكان هذا من البأسا ومثله كثير، والضراء: فهو من جنس البأسا ومن الضرا أيضا نقص الأموال والانفس والثمرات والجوع والحسرات: فكل ذلك ليرجعوا إلى الله عزوجل ورسله عليهم السلام ويصدقوا بالحق ويؤمنوا به فمنهم من يؤمن فيحكم له بالنجاة، ومنهم من يستعظم في كفره ويدوم على شرته فينزل به البلاء، وتتراصف عليه النقم، فيكون ذلك عبرة لمن بعدهم وإهانة وتخويفا لهم وردعا للمتخلف ومانعا من الزيغ والتكلف فيكون في ما نبههم الله به وعرف به مسيهم نعمة وفلاحا وسلامة وصلاحا، وما ربك بظلام للعبيد.

(1/455)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد الله عزوجل نهيهم عن قتل أولادهم ومنعا لهم عن الظلم والتعدي عليهم، وذلك أن الجاهلية كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق والاملاق: فهو الفقر. ألا تسمع كيف يقول سبحانه: وإذا المؤدة سئلت بأي ذنب قتلت، وذلك أنهم يأدون أولادهم، والوأد: فهو الدفن، فكان أحدهم إذا ولد له إبنة وليس له مال خشي عليها الفقر،..... فأود ولده فنهاهم الله عزوجل عن ذلك فقال: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم، فأخبرهم سبحانه أنه الرزاق لهم ولأولادهم ونهاهم عن قتلهم، ثم قال: إن قتلهم كان خطأ كبيرا يقول: خطأ وفعلا عظيما أنتم به مأثومون وعليه معاقبون.

وسألت: عن قول الله سبحانه: فلو لا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فقلت: هل كان ينفعهم التضرع إذا رأوا البأس، قال محمد بن يحيى عليه السلام: لو لا أن الله سبحانه قد علم أن تضرعهم ينفعهم ما قال تضرعوا فأعلمهم بقسوة قلوبهم ولو تضرعوا وتابوا لقبل توبتهم ورفع العذاب عنهم، ولكن قست قلوبهم فلم يتضرعوا ولا إلى الله سبحانه من ذنوبهم رجعوا بل مضوا في خطاياهم وأصروا على كفرهم، حتى أنزل الله سبحانه العذاب بهم، وكان ذلك من تزيين الشيطان لهم فاستحقوا من الله عزوجل الخذلان، وقد نفع قوم يونس التضرع حين أقبل العذاب وعاينوه فأخلصوا عند ذلك لله عزوجل قلوبهم، وعلم الله سبحانه صحة التوبة منهم فرفعه عنهم.

وسألت: عن قول الله سبحانه: قل يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم ينظرون، قال محمد بن يحيى رضي الله عنه: كذلك حكم الله عزوجل في أعدائه إذا جاء الفتح عليهم والنصر منه فيهم لم تنفعهم عند العلو منه عليهم توبة ولم يقالوا زلة.

(1/456)

ألا تسمع كيف يذكر الله سبحانه عنهم في ما كانوا يقولون إذا أخبرهم رسول الله صلى الله عليه بفتح متى هذا الفتح إن كنتم صادقين، يقولون ذلك للنبي عليه السلام وللمؤمنين استبطا منهم وتكذيبا به، فأخبرهم عزوجل أن يوم الفتح لا ينفع الذين كفروا إيمانهم عند الظهور عليهم، وهو فتح مكة الذي وعد الله عزوجل نبيه به عليه السلام.

وقد قيل: إن يوم الفتح يوم هلاك الله عزوجل لهم وإنزاله الموت بهم، وقد قيل: إنه يوم القيامة، والقول الأول أصوب وأصح لأنه إنما تقبل التوبة من قبل المقدرة. ألا تسمع كيف يقول سبحانه: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فجعل التوبة لهم من قبل المقدرة ولم يجعلها عند المقدرة عليهم، بعد رد الحق والصدق عنه، فلما كان السيف قايما والحرب ثابتة فليس إلا القتل لأعداء الله فأما إذا وقعوا في الأسر فليس يحل قتلهم، ولا يسع عند الله سبحانه إهلاكهم، إلا أن يقاتلوا وهم مأسورون فتحل بذلك دماؤهم وفي قتل الظالمين سير مذكورة وأخبار صحيحة، فمنهم من يقتل أسيره ومنهم من لا يقتل، وكل ذلك بين عند أهل العلم والفهم واضح عند من شرح الله صدره ونور بالحكمة قلبه.

وقلت: إن خرج أهل القرية المحاصرون مستأمنين إلى الإمام من قبل أن يدخل عليهم قريتهم وتعلوا بالسيف رؤسهم وإذا خرجوا إليه قَبِل ذلك منهم ووجب عليه الأمان لهم والحقن لدمائهم لا يجوز له غير ذلك ولا يسعه عند الله عزوجل إلا فعله فإن قتلهم بعد أن خرجوا إليه من مدينتهم تائبين مستأمنين فقد ظلم وتعدا وخرج من الصواب وصار من الجهل إلى شر مآب.

(1/457)

وقلت: فإن أعطاهم بعض من معه الأمان، هل يجوز له بعد ذلك قتالهم وقتلهم وأخذ أموالهم وهذا لا يجوز ولا يحل ومن فعل ذلك من الأئمة فهو ظالم لأن المؤمنين كما قال رسول الله صلى الله عليه تتكافأ دماؤهم ويسعا بذمتهم أدناهم، فإذا أمن أهل دار الحرب رجل من قواد الإمام أو من أصحابه فقد حقنت دماؤهم ولا قتل عليهم فإن قتلهم بعد أمان قايد الإمام أو أحد من أصحابه قاتل، وقد علم بأمانه لهم قتل من قتلهم وإن لم يعلم القاتل أنهم أومنوا وجب على الإمام أن يخرج دياتهم لا يجوز له إلا ذلك، ولا يسعه غيره وسير الحرب دقيق علمها غامض تفسيرها لا يخلصها ولا يقوم بها ولا بما أوجب الله سبحانه فيها إلا أهل العلم والمعرفة والديانة، والبصيرة فيكون يعمل بمعرفة ويسير على أوضح طريقة وأبعدها من لبسه.

وقلت: إن خدعهم بالأمان بالقول واللسان، وليس له في ذلك اعتقاد ليخرجوا إليه من الحصار هل يجوز له سفك دمائهم، وليس يفعل ذلك الخُلُق إلا كافر ظالم غاشم لأن ضمير أهل العدل وكلامهم سواء، وإذا قال بلسانه شيئا فلا بد له من إمضائه وتنفيذه على ما تكلم به لأن الخدع والكذب من أفعال الظالمين المردة الجايرين، وهذا ما لا يجوز فيه التأويل لأنه إذا قال لكم الأمان فهو الأمان لا نكث له في وقت ولا أوان.

(1/458)

وقلت: إن قتلهم هل يكون ظالما لهم، قال محمد بن يحيى رضي الله عنه: إن قتلهم من بعد ذلك فقد ظلمهم وسار بسيرة الباطل فيهم وحكم بغير ما أنزل الله عزوجل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، ولقد سمعت أبي الهادي عليه السلام ونحن في الحرب، وقد خرج رجل من أصحابه فدعا رجلا من العدو، وقال له: هلم إلي، فليس عليك بأس فناداه الهادي عليه السلام فلما جاءه قال له: ما أردت بالرجل حين دعوته، وقلت: لا بأس عليك، قال: أردت أن أمكر به، فقال: والذي نفسي بيده لو قتلته، بعد هذا أو مكرت به لضربت رقبتك ولألحقنك به أتغدر به بعد أن توهمه، ألا بأس عليك حتى يسترسل إليك.

وكان عليه السلام: إذا أعطا أمانا قوما محاربين له زالت الجبال من قبل أن يزول بل يحفظهم في أموالهم ويحوطهم في غفلاتهم ويفي بذمته لهم، ولقد رأيته عليه السلام وقد دخل ظالم، يقال له ابن كبالة، أحد عبيد أهل اليمن، وكان قد استأمن إليه ليغدر به وصح له ذلك وأيقن به فلما علم ذلك منه حذره عليه السلام فأدخله وقد ملاء الدار رجالا، فلما أن قعد ابن كباله بين يديه عليه السلام أقبل يرتعد وأيقن بأن الهادي عليه السلام قد عرف أمره وصح له خبره وأيقن بالقتل وهو قاعد بين يدي الهادي عليه السلام قد أدخله منفردا من أصحابه وترك عسكره على الباب فكتب رجل من قواد الهادي إلى الحق عليه السلام رقعة ودفعها إليه يشاوره في قتل العبد إذا خرج من عنده فكتب عليه السلام في الرقعة قد صح لي ما هو عليه من الغدر وأيقنت بما قدم فيه كما أيقنتم ولكن لا أيداه حتى يبدني ولا أستحل ذلك في ديني، فإن مد أحد يده إليه قتلته.

(1/459)

ثم أذن للكلب فخرج، فلما أن صارخار جامع أصحابه أقبل علينا بالحرب فكان من الأمر ما لا أشك أنه قد بلغكم وكفى الله شره، وما استحل عليه السلام أن بيداه من بعد أن أيقن بغدره إن للأئمة عليهم السلام أزمة من الحق تزمهم عن معاصي الله عزوجل وتردهم إلى طاعته لا يغيرون عن الحق في رضا ولا سخط ولا خوف ولا أمن فرحمة الله وصلواته على الهادي إلى الحق ورضوانه ومغفرته فقد عظمت علينا مصيبته وجلت لدينا رزيته.

وقد سألت: عن أشياء كثيرة في الحرب بينا لك بعضها وبعضها أنت عنها مستغني فإن يظهر الله عز وجل حقاً فسوف يبدوا لك من سنن المحقين في قتال الظالمين ما يبين به الحق ويشهد لصاحبه بالصدق، نسأل الله العون والهداية، بمنه ورأفته ولكل مسألة جواب، ولو علمنا أن بك فاقة أو يلزمك إليه حاجة لأجنباك في مسائلك غضب من غضب ورضي من رضي ولبينا لك على شرحك ولكن أنت بمعزل عن ذلك في وقتك هذا، ولم نحب أن نجيبك على كل ما سألت لعلل وأسباب.

نسأل الله التوفيق للصواب، ولكل سيرة ومذهب والقليل الظاهر يدل على الكثير الغامض والشقي من أهلك نفسه بالتقحم في ما لا ينفعه عند ربه ولا ينقذه منه فالزم بيتك ومن كان مثلك ولا تتفرق بكم السبل فإن الحق أبلج، والباطل لجلج وما بقي لأحد من شك، ولله الحمد.

وسألت: عن قول الله سبحانه: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون، فقلت: كيف أخذهم بفرحهم بما أتاهم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: لم يأخذهم عزوجل بما توهمت ولكن أخذهم سبحانه وجل عن كل شأن شأنه بذنوبهم.

(1/460)

ألا تسمع كيف يقول عزوجل: فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء، يقول: لما نسوا ما أمروا به وبعثت الأنبياء عليهم السلام فيه، ومعنى نسوا فإنما هو تركوا وغفلوا وسهوا فلما تركوا ما أمرهم الله عزوجل به وأعرضوا عنه ونسوه فتح عليهم سبحانه كما قال أبواب كل شيء يحبون لإقامة الحجة عليهم، فكان ذلك إملا لهم وتأخيرا لعقوبتهم كما قال سبحانه: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما، فكان ذلك إملا لهم وما فتح الله سبحانه عليهم أوكد في الحجة، وأشد للأخذ وآلم للعقوبة والله سبحانه فلا يخشى فوتا ولا يعجل، وإنما يعجل من يخشى الفوت أو يضره شيء فيتقيه والله عزوجل فلا يضره شيء من معصيتهم ولا تنفعه طاعتهم بل هم ضارون في ذلك لأنفسهم فلما أن فرحوا بما أوتوا وجعلوه في معاصي الله عزوجل ونسوا ما أمرهم به أخذهم سبحانه بغتة، وذلك أشد حسرة يكون الأخذ على الغفلة فإذا هم مبلسون، فانقطع عنهم اللهو والعبث واليسارة والغنا وصاروا إلى الآخرة مبلسين، وعند الله عزوجل مهلكين.

والمبلس: فهو الذي ليس له ولا في يده شيء العادم لما كان معه، ألآ يس مما كان يؤمله فدامت حسراتهم وحصلوا بذنوبهم حيث لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في أيمانها خيرا.

(1/461)

وسألت: عن قول الله سبحانه: وانذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، فقلت: كيف أمر أن ينذر به الخايف دون الآخر?، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الإنذار فهو التحذير: مما أعد الله عزوجل للعاصي وحكم به على المخالفين، فقد أمره سبحانه أن ينذر خلقه أجمعين، فلما قبل قوم وأنكر آخرون، قال عزوجل: أنذر به الخايف إذ قد غلب العاصي فكان المنتفع به المصدق الخايف لله سبحانه فيه، وذلك موجود في اللغة إذا وعظ رجل جماعة، وكان فيها من لا يقبل عظته، قال: أعظ بها من يؤمن بالله سبحانه يريد إن لم يستمع هؤلاء المعرضون أنتفع به من كان من المؤمنين، فلما أن كان المعرضون عن الله عزوجل لا يذكرون حشرا ولا يخافون وعيدا.

وكان المؤمنون يخافون الله عزوجل ويخشونه، قال: أتذر به الذين يحشرون لما أن كان أولئك لا يحذرونه ولا يقبلونه، وقد كان إلى جميع الخلق كافة، وقد قال الله سبحانه: يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخاشها، فقال: منذر من يخشاها فأما من لا يخشاها فليس له في إنذاره حيلة، لقلة قبوله ومن لم يقبل الإنذار، فلم ينتفع به وإذا لم ينتفع به فهو مقيم على غفلته غير حذر ولا نذر لما ينذر به فلم تبق التذكرة والتفهيم إلا لمن قبلها وأخذ بحظه منها.

(1/462)

44 / 47
ع
En
A+
A-