وقلت: هل كان هؤلاء القوم الذين أمروا بدخول القرية مع موسى مؤمنين، فقد كانوا قد آمنوا بموسى عليه السلام وصدقوه، ثم ضعفوا عن الدخول على الجبارين، ورغبوا في الدنيا، وخافوا القتل والفنا فصاروا بذلك من العاصين، ولما أمروا به من المخالفين، ولذلك حرم الله عليهم مصرا أربعين سنة، إذ كان امتناعهم من دخول القرية على الظالمين محبة للدنيا وميلا إلى الهوى وطلب الدعة ورغبة في العاجلة، فأقاموا عند ذلك يتيهون في الأرض أربعين سنة.
(1/425)
وقلت: لم جاهد بهم، وهم فاسقون منافقون، وفسقهم ونفاقهم، فإنما بان عندما أمروا بالجهاد وافترضه عليهم ذو العزة والأياد، ثم سأل موسى ربه عند مخالفتهم لأمره، وصدهم عن طاعته أن يفرق بينه وبينهم; إذ كانوا غير مطيعين له.
وقلت: ما معنى يتيهون، والتيه: فهو التحير عن القصد لما يطلب، وذلك أنه لما حرمت عليهم مصر أقبلوا يطلبونها وهم لا يهتدون لطريقها فحينا يذهبون يمينا وتارة يسعون شمالا، ومرة يرجعون على أعقابهم يتكمهون في حيرتهم يمعنون في تيههم يتكبدون بطون الأودية والفيافي والقفار، فلما أن لم يهتدوا ولم يعرفوا الطريق التي يؤمون في سيرهم، قيل: يتيهون لتحيرهم عما يريدون.
-وقلت: ما كان طعامهم وشرابهم، وقد تقدم تفسير ذلك في أول مسائلك. وقلت: ما كانت الحجة في الفترات على الأمم، والحجة عليهم فالتمسك بدين النبي الذي بعثه الله إلى أولهم والإقرار به فهو عليهم حجة إلى ظهور مرسل من بعده إليهم، فكان موسى عليه السلام في عصره حجة على أهل دهره، وكان القيام بدينه عليهم واجبا وفرضا من الله سبحانه لهم لازما، إلى أن بعث الله عيسى بن مريم عليه السلام، ثم كان عيسى حجة حتى بعث الله محمد صلى الله عليه، فختم به النبيين وبعثه إلى جميع العالمين، وجعل دينه أفضل الاديان مفروضا على جميع المربوبين إلى يوم الدين، وحشر العالمين وكانت بين المرسلين فترات قد فسرناها في أول كلامنا.
(1/426)
وقلت: هل كان للأنبياء أوصياء، وكذلك كان الأمر فيهم كانت الانبياء لم يزل لهم الأوصياء صلوات الله عليهم حتى لم يمت نبي إلا وله وصي يقوم بدينه وبتعليم أمته، ويأمر فيهم بالتقوى ويجنبهم عن الردا ويبين لهم طريق الهدى، فمنهم من يتبع أمره ومنهم من يصد عن سبيله، ويخالف حكمه، وذلك فعل الأشقياء الظلمة الجهلاء بالدين إخوان المنافقين. وأتباع الجايرين وأشباه أولئك الآن فموجودون في الأرض يجذون أفعالهم ويتبعون آثارهم عجل الله سريعا إهلاكهم.
وسألت: عن قول الله سبحانه: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، فقلت: ما معنى هذا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد الله عزوجل أنه من قتل نفسا مؤمنة ظلما وتعمدا أو تعديا فكأنما قتل الناس جميعا لأنه قد ظلم وتعدا واستوجب العقاب بفعله فيما اكتسبه من عظيم جرمه والعقوبة والهوان، والخلود بين طبقات النيران وكتبنا فمعناه حكمنا بالعقوبة عليهم والتعذيب لمن فعل ذلك منهم.
ومعنى: ومن أحياها، فهو بالتعليم للدين والتفهيم لأحكام رب العالمين، وأنجاها بذلك وإنجاها من اليم عقوبة الله عزوجل التي جعلها على أهل الجهل والغفلة عما افترض عليهم من تعليم الدين والنفقة فيما جاء به خاتم النبيين فكان إحياؤه للنفس هو بالتعليم والتفهيم لما افترض الله على جميع المسلمين، ومن إحياء النفس الدفع عن المسلمين والحقن لدماء المؤمنين والذب عن المستضعفين.
(1/427)
ووجه آخر من وجوهها أيضا أنه لما كان هذا الحكم من الله عزوجل في ابن آدم وجب أن يكون حكما خاصا في الأنبياء والأئمة أن من قتل منهم نبيا أو إماما كان كأنما قتل الناس جميعا إذ حكم الانبياء والأئمة سوا حكم الخلق وبهم يهتدى من الحيرة ويستضا من الظلمة وينصف المظلوم وينعش الضعيف وتقتسم الأموال وتحقن الدماء وتطهر من الله سبحانه على الخلق بهم النعما، فإذا قتلوا فقد قتل الخلق وأهلك العباد، وأفسدت البلاد فنعوذ بالله من الضلال بعد التقا ومن الحيرة بعد الهدى.
وسألت: عن رجل قتل قوما عمدا ثم أراد التوبة من جرمه والإقادة من نفسه، فقلت: كيف يصنع أيجمع الأولياء أم كيف يعمل، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إذا فعل ذلك فاعل فكان أولياء المقتولين في بلد واحد فليجمعهم ثم ليقدهم نفسه فيحكموا فيه بما رأوا فإن رأوا الصفح عنه، فذلك جاز وعليه لهم الديات، وإن صفح بعضهم وقتل بعض، فذلك جايز لأن هذا حكمه خلاف حكم من قتل وله أولياء كثيرون وهم فيه مستوون فإذا وهب أحدهم سقط القتل عن القاتل، ولم يكن للثانين أن يقتلوا، وهؤلاء فإنما هم أولياء القتلى متباعدون، وفي الأنساب غير مجتمعين، فلولي هذا أن يقتل وليولي هذا أن يعفوا، وإن كان قتل رجلا بالري وأولياءه فيها، وقتل آخر بجرجان، وقتل آخر بآمل وقتل آخر نورفوه كان هؤلاء في بلدان شاسعةٍ، ومواضع باينة رأيت له أن يكتب إلى كلهم يعلمهم بتوبته.
(1/428)
ورجعته إلى الله سبحانه وأنه خارج من خطيئة بإقادة نفسه لهم ويعلم أن كل أولياء المقتولين بمن يطلبه بالقتل، وأنه سيعرض نفسه للأول فالأول فمن صفح عنه وأخذ الدية أعطاه إياها، ومن قتله فبحقه وإن سلم صار إلى الآخر كمصيره إلى الأول، ونحب له إذا كتب إلى أوليائهم أن يذكر لهم أمر الدية، ويتوقف عن القود حتى تتصل به كتبهم فمن قبل الدية أرسل بها إليه، ومن أبا أقاد نفسه، فإذا فعل ذلك فقد خرج إلى الله من دَينه، وإن قتله واحد منهم دونهم كان أدا ما يجب عليه من بعد التوبة والاستغفار والاخلاص في العلانية والاسرار، والتأدي إلى من ظلم والخروج ممن أساء فيه إلى نفسه واجترم.
وسألت: عن قول الله سبحانه: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذه آية فيها أحكام من الله عزوجل حكم بها على الفاسقين، وألزمها من عند من جميع المفسدين فجعل على من حاربه سبحانه وسعى بالفساد في أرضه وأخاف عباده أحكاما على قدر جناياتهم وجعل عليهم حدودا تنفذ على ما يكون من أفعالهم فمن سعا في الأرض فسادا من جميع الناس، وقطع الطريق على المسلمين، وقتل المجتاز عليها كان حكمه إذا أخذ وظفر به أن يقتل ويصلب وإذا أخذ أموال المسلمين على الطريق ولم يقتل نفسا قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا عاد لقطع الطريق من بعد قطع اليد والرجل نفي من الأرض وأدب على قدر ما يرى الإمام.
وقد قيل: في النفي أنه يحبس، ومن النفي أيضا الطرد من البلد والإخراج منها، فيكون خروجهم نفيا من أرضها وإبعادا له من الفساد فيها، وهذه الأحكام فلا تكون إلا للأئمة الحكام على الأمة.
(1/429)
وسألت: عن قول الله سبحانه: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا الحكم من الله عزوجل في السارق خلاف حكمه أولا في المفسدين في الأرض لأن الله عزوجل جعل عقاب مخيف الطريق وقاطعها قطع اليد والرجل، وعلى السارق في المدن والحوانيت والبيوت قطع اليد لا غير لأن قاطع الطريق مجاهر لله بالمعصية معلن بالجرأة مفتخر بالمخالفة مخيف للمسلمين في طرقهم ذا عرلهم في اختلافهم فجعل الله عليه في ذلك قطع اليد والرجل جزاء على فعله، وتشريدا لأهل البغي من خلقه وتحذيرا لأشكاله من المردة المفسدين فيما كان من مجاهرته بالفعل العظيم، والجرأة بذلك على رب العالمين.
وسارق الحانوت والبيت ذليل غير مخيف لطريق ولا قاطع لسبيل ولا ذاعر للمسلمين، ولا معلن بمعصية على رب العالمين، فجعل عليه في سرقته الغبية الخفيه للحانوت والبيت قطع اليد، فلما نزلت الآية بقطع اليد لم يدر المسلمون، أي يديه يقطعون لولا أن رسول الله صلى الله عليه بين ذلك وشرحه عن الله فقال صلى الله عليه: ؛هي اليد اليمنى لسارق البيت وما كان في الحرز «، وقال في الذي يأخذ على طريق اليد اليمنى والرجل اليسرى فكان تبيين ما يقطع من الأعضاء، باسمه عن الله سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه كما كان تبيين الصلاة بعد ذكرها مجملة في الكتاب على لسان نبيه عليه السلام سوا سوا لا شك في ذلك ولا امتراء.
(1/430)
وقد قال بعض الناس: إن القاطع إذا قطع الطريق قطعت يده ورجله، ثم عاد الثانية، فنهب ساير الطريق قطعت رجله الأخرى ويده أو سرق من بيت أو حرز قطعت يده الأخرى، وهذا قول فاحش لا يحكم به عدل في نفسه ولا حاكم بكتاب ربه لأن ذلك من الميل وعينُ القتل، والله سبحانه فإنما جعل عليه القطع لم يجعل عليه القتل لأنه إذا قطعت يداه ورجلاه فقد قتل إذ لا يقدر يأكل ولا يشرب ولا يقوم ولا يتحرك إلا تحريكا ضعيفا ولا يصلي ولا يتوضى للصلاة ولا يغسل عن يديه دنسا ولا يميط درنا ولا يدفع عن نفسه بلا ولا يجر إليها ساعة رخا، ولكن إذا كان ذلك ممن قطعت يده ورجله أدب ونفي، وفي ذلك ما بلغنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أنه قال: لا بد له من يد يأكل بها ويميط بها الأذا أو يقيم بها الفرض، ورجل يمشي بها في ما لا بد له منه.
وقلت: هل تكون يده، ورجله إذا تاب معذبتين، وإنما حال يده ورجله كحال ساير ما بقي من يده إذا مات العبد وهو مؤمن تايب حشر ورد إليه ما قطع منه، وخرج على حال السلامة، والكمال وليس لليد عقوبة في الآخرة دون البدن ولا للبدن عقوبة دون البصر ولا للرأس عقوبة دون الرجلين بل الإنسان وجميع جوارحه مشتركون في العذاب، أرأيت إن كان القياس كما ذكرت لو أن ظالما قطع يدي مؤمن وأذنيه وأنفه ثم أقام مدة من الدهر حيا ثم نكص عن دينه وخدعه الشيطان في أمره حتى مات على ضلال وصار بذلك إلى شر حال، أمثابة يداه وأذناه وأنفه إذ بِنَّ منه، وهو مؤمن، والله سبحانه فقد حكم في الخلق بردهم في الآخرة على أكمل صورهم وليسوا بمنقوصين من خلقهم بل هم خارجون على أكمل أحوالهم بذلك حكم فيهم ربهم.
(1/431)
فإن قلت: ترد إليه يداه وأذناه وأنفه فقد عذب معه جزء بان منه، وهو مؤمن، وإن قلت: يجعل له سواء ذلك فقد عذب من لم يعص ولم يطع ولابد أن يكون لهذه اليد المقطوعة التي ذكرت أنها تعذب أو تثاب، وهي منفصلة من صاحبها باينة على حيالها أن يكون فيها روح وتمييز للنعيم، فقد جعلت يداً تميز وتعقل وتألم وتنعم وهي باينة من مركبها منفصلة من جثة صاحبها ولم يسمع بذلك في خبر ولا في كتاب ولا نقله ذو عقل ومعرفة وتمييز وبصيرة لأنا رأينا اليد إذا بانت من صاحبها تحرق بالنار، وهو لا يجد لها ألما ولا تجد هي لذلك وجعا ولا يشاهد منها عند احتراقها جزعا، وهذا من المقال عجيب ما سمعنا بأحد تكلم به، ولا قامت له فيه حجة، فافهم ما به قلنا في ذلك.
وسألت: هل تقطع يد السارق بإقراره على نفسه، وهل يلزمه رد السرقة، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إذا أقر السارق على نفسه بالسرقة مرتين من غير إفزاع ولا بلا لأن رسول الله صلى الله عليه قال: لاحد على معترف بعد بلا، فإذا لم يخف ولم ير سوءا سئل عن عقله فإن كان صحيح العقل سئل أحر أم مملوك، فإذا شهد على حريته قطع الإمام يده، وما حال اعترافه بالسرقة إلا كحال اعترافه بالزنا وإن رجع السارق عن إقراره من قبل أن ينفذ فيه الحكم لم يقطع لأن حاله كحال شاهدين شهدا على رجل بالسرقة فلما قرب إلى القطع نكل أحدهما أو كلاهما فلا قطع عليه عند نكولهما.
(1/432)
وأما السرقة: فإن وجدت معه أخذت بعينها، وإن لم توجد معه، وكان قد استهلكها لم يحكم عليه بغرمها لأنه قد استهلكها ونفذ الحكم عليه من الله فيها فحاله كحال من اغتصب إمرأة بكرا على نفسها فأقيم الحد عليه فلا عقر لها لأن الحد قد نفذ فيه فلا يجتمع حد وعقر، كذلك لا يجتمع قطع وغرامة وإنما ذهب من قال بعقر المكرهة إلى أن للإمام أن يحسن النظر في أمرها وله أن يفعل في ذلك ما يوفقه الله له ويرى من طريق نظر العلماء، واستحسانهم لا من طريق فرض مؤكد كغيره مما هو مشدد.
وسألت: عن قول الله سبحانه: وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد الله عزوجل بقوله: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، أي تتبعون وتحكمون بما أنزل الله فيه من الامر بطاعة محمد صلى الله عليه وآله والدلالة والبشارة به فإن حكموا بذلك فسيؤمنون برسوله ويقرون بنبوته وما أمروا به من اتباعه وإن حرفوا ولم يحكموا على أنفسهم وعلى من تحت أيديهم بما أنزل الله في الإنجيل من الإتباع لمحمد صلى الله عليه فقد كفروا بالانجيل وجحدوه وخالفوا حكمه ونبذوه فهذا معنى الآية ومخرجها.
وسألت: عن قول الله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا من يرتدد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد عزوجل أنه من رجع من المؤمنين عما عاهد الله عليه وعقده في رقبته فإن ذلك عليه وبال، وله مهلك ولن يضر الله سبحانه بشيء من فعله ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ثم قال سبحانه: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.
(1/433)
وإيتائه بهم فهو إيجاده نبيه صلى الله عليه من خلقه قوما راغبين وإلى الله سبحانه من ذنوبهم متنصلين، ولدعوة رسوله صلى الله عليه مجيبين فيشرح صدورهم ويعينهم على أمورهم فنسبتهم لنبيه محبهم ويحبونه صحيحة مودتهم لله ولرسوله أذلة على المؤمنين يريد رحماء بالمؤمنين مطيعين لهم غير متكبرين عليهم ولا متطاولين، بل هم خاضعون لله يتذللون ليسوا بجبارين ولا فراعنة شياطين، ومعنى أذلة على المؤمنين فإنما هي للمؤمنين فقامت على مقام اللام، ولم يذكر عزوجل ارتدوا ولا كفروا وإنما قال: من يرتدد منكم فكان ذلك تنبيها للمؤمنين وتعريفا وموعظة وزجر ا، وقد يقال: إن هذه نزلت في قوم كرهوا الجهاد وهم الذين قالوا: ربنا لم كتبت علينا لولا أخرتنا إلى أجل قريب، وقد تقدم تفسير أمرهم في وسط مسائلك.
وسألت: عن قول الله سبحانه: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذه آية نزلت في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيقال: إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه، وهو في منزله، فقال: لقد نزلت علي آية عجيب أمرها فانظروا من ذا الذي أدا الزكاة وهو راكع، فإذا بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قد جاءته مسكينة وهو راكع فسألته المنفعة فمد يده إليها، فأخذت خاتمه من يده فوجده معها تقلبه في يدها فكان صلى الله عليه المتزكي في صلاته والمتصدق في ركوعه دون جميع أهل دهره.
(1/434)
وسألت: لم جاء الوحي لجماعة وإنما هو واحد، وهذا من لغة العرب صحيح جيد لأن الواحد من العرب يقول فعلنا وضعنا وإنما يريد نفسه والله سبحانه يقول إنما نحن نحي ونميت وليس أحد يحيي ويميت إلا الله تبارك وتعالى فجاز أن يقول: إنا نحن وإن كان واحدا كما قال إنا أنزلنا الكتاب، وهذا فصيح في اللغة حسن، وكما قال سليمان صلى الله عليه: يا أيها الناس علمنا منطق الطير، فقال: علمنا منطق الطير فخرج لفظه يدل على أنهم جماعة علموا ذلك ولم يكن أحد في عصره علم ذلك إلا هو وحده فهذا حجة فيما سألت عنه ومبين لذلك إن شاء الله.
وسألت: عن قول الله سبحانه: وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، فقلت: ما معنى ذلك؟ قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل جدي القاسم صلوات الله عليه عن هذه المسألة فقال: جعلهم فهو تبديله لهم تبارك وتعالى، وقوله: وعبد الطاغوت فإنما هو نسق وتمام لما تقدم من الأول ولحق من قوله سبحانه: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله يريد منزلة ومرتبة عند الله من غضب الله عليه ولعنه وجعل منهم القردة والخنازير، وعبد الطاغوت والمسخ المقدوره الممقوته تقديما وتأخيرا وتعريفا ولست تحتاج والله محمود إلى تفسير فيما يجوز في بيان القرآن من التقديم والتأخير.
وسألت: عن قول الله سبحانه: ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد عزوجل أن أهل التوراة والإنجيل لو أقاموا ما أنزل إليهم من ربهم لدرت أرزاقهم وكثرت نعمهم وأكلوا كما قال من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولأنزل الله عليهم من السماء البركات والأرض النعم السابغات كما قال عزوجل: وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا، وقال: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.
(1/435)
فلما أن كانت البركات تأتي من السماء والأرض قال: من فوقهم ومن تحت أرجلهم فكان هذا دليلا وشاهدا على كفر أهل الكتاب وتحريفهم للتوراة والإنجيل وتركهم ما فيهما من أمر الله ونهيه وأحكامه، وفي مثل ما ذكرت في الآية ما يروى عن عيسى بن مريم صلوات الله عليه أنه قال بحق أقول لكم يابني إسرائيل أن لو اتقيتم الله حق تقاته لأكلتم من فوقكم ومن تحت أرجلكم وعن أيمانكم وعن شمائلكم.
فإن قلتم: كيف ذلك فانظروا إلى الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا فإن قلتم نحن أكبر أجوافا فانظروا إلى بقر الوحش والظبا والسباع تعدوا خماصا وتروح بطانا لا تحرث ولا تزرع الله يرزقها وإياكم في كتاب الله عزوجل الشاهد لذلك قوله سبحانه: ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
وسألت: عن القسيسين، فقلت: ما معنى هذا الاسم، وأنه يقال: النجاشي وأصحابه والقسيسون فهم كتاب النصارى يصلون بهم ويقدمونهم ويعظموهم.
وسألت: عن قول الله سبحانه: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: اللغو، فهو ما لا تعتمد فيه اليمين، ولا يقصد به جرأة على رب العالمين، وإنما يقع من طريق الغفلة والسهو واللغو ما لا يكون له حقيقة ولا قصد، ولا ضمير، وقد قيل في اللغو: إنه الرجل يحلف على الشيء ما فعله، وقد فعله وليس هو عندي كذلك.
وسألت: هل يجوز أن يحلف على الحقوق بالقرآن، والطلاق، قال محمد بن يحيى عليه السلام ذلك جايز، وقد قيل: إن رسول الله صلى الله عليه كان يستحلف على القرآن وأمير المؤمنين عليه السلام من بعده.
وأما الطلاق فلا يدخل في ذلك لأن الله يقول عزوجل: ألا بذكر الله تطمئن القلوب، وفي اليمين بالله كفاية لمن عرفه، والطلاق فقد يستحْلف به بعض من لا معرفة له بالقرآن فيكون هيبته للطلاق، والعتاق أشد عليه من اليمين على الكتاب، وفي كتاب الله المقنع والكفاية فافهم هديت.
(1/436)
وسألت: عن من حلف فحنث وهو لا يقدر على كفارة، فقلت: كيف يعمل?، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إن الله سبحانه جعل الكفارة أربعة أشياء رأفة بعباده ورحمة لخلقه فسح بذلك عليهم وجعله على قدر ما يمكن من طاقتهم إطعام أو كسوة أو عتق أو صيام فإذا لم يقدر على إطعام ولا كسوة ولا عتق ولا صيام، كان ذلك عليه دينا حتى يقوي على الصيام فيصوم عند صحته إن كان به مرض أو يرزق فيكفر أو يستعين إمام حق إن كان في عصره فيعينه أو يحمل كفارته عنه.
وقلت: فإن كفر برزأ يعطيه بقشره، ونحن نعطيك في هذا أصلا، تعتمد عليه والذي نحب في الاطعام من رزأ وذرة أو بر أوشعير أن يطعم كل مسكين ما يشبعه ويكيفه بأدمه يومه فإذا فعل ذلك فقد أداَّ ما عليه.
وقلت: أيما أفضل إعطا المساكين حبا أو يسويه لهم خبزا، والخبر لهم والإشباع والتقديم إليهم، ما قد فرغ من تعبه وعن شغله أفضل وإن دفع من الحب ما يكفي خبزاً و إدما أجزأه وخلصه وكفاه.
وقلت: إن أوصى رجل عند موته للمساكين بالف رغيف ولم يسم من أي طعام هو، قال: ينظر إلى ما كان يأكل ويجريه على عياله ويستنفقه الناس في البلد لهم منه، وإن كان مختلفا كان أفضلها أحب إلي، وأما قوله: الف رغيف فهذا شيء مجهول لأن الخبر يتفاضل فرغيف فيه مدور رغيف فيه مدين ورغيف فيه ربع مد وثلث مد وأقل وأكثر وأصلح ما يفعل في مثل هذا أجد وجهين ينظر إلى خبز هذا الرجل الذي كان يعمل في منزله فيعطا المساكين على ضربه لأنه لم يأمر إلا بما يعرف من أرغفته التي لو نذر في حياته أن يطعم عشرة أرغفة لم يطعم إلا من خبزه الذي في بيته لأن اعتقاده لم يكن إلا ذلك، ولم يعتقد خبز غيره.
(1/437)
والوجه الثاني: وهو أحبها إلي أن يختر لهم الف رغيف من أوسط ما يعرف من خبز أوسط أهل البلد، وشكل ذلك الرجل ثم يعطا المساكين من طريق نظر عدل من المسلمين يتحرا ذلك ويعدل فيه، وقد قيل: إن هذه وصية مجهولة إذ لم يحد فيها حد كيل أو وزن فلا يجاز فيها شيء، والذي أراه أصلح في الدين وأسلم عند رب العالمين ما شرحت لك فاعلم ذلك.