وسألت: عن قول الله سبحانه وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم الله على إذ لم أكن معهم شهيدا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: لمن ليبطين هو يتخلف ويتثاقل عن الغزو والخروج فإن أصاب المسلمين مصيبة كما قال الله عزوجل والمصيبة فهي المحنة والنازلة، قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا والشهيد فهو الحاضر فهؤلاء ومثلهم المتربصون برسول الله صلى الله عليه وبالمؤمنين قد ذكرهم الله عزوجل، فقال: يتربصون بكم الدواير عليهم دايرة السؤ وإن ظفر المؤمنون بعدوهم وأصابوا غنايما وفضلا ونعمة من الله وخيرا كان منهم ما ذكر الله سبحانه عنهم، وأخبر به من قولهم يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.

وهذا الإبطا: الآن في الناس يفعلونه ونراه منهم عيانا في الغزوات والجهاد، وإنما يكون ذلك ممن لا دين له ولا معرفة يرى الجهاد مغرما والسير فيه تعبا لقلة العلم ورداؤة المعرفة، وقد يمكن أن يقولوا هذا في الآخرة عندما يرون من ثواب المؤمنين وعطائهم وإحسان الله إليهم على ما كان من جهادهم وسرعة نهوضهم في ما افترض الله عليهم، ثم يرى أهل التخلف والتثبط ما يصنع الله للمؤمنين فيندمون على ما كان منهم ويأسفون على تخلفهم ويقولون: يا ليتنا كنا معهم فنفوز فوزا عظيما، فيكون أسفهم على ما فاتهم من غنايم المؤمنين التي نالوا بجهاد الظالمين، فهذا وجه مما يصلح ويخرج في تفسيرها، والوجه الأول عندي هو مخرجها إلا أني استحب تخريج المسألة على وجهها، والشرح لما يخرج عليه من أبوابها.

وسألت: عن رجل كان له على رجل حق فجحده إياه، ومنعه منه، فقلت: هل يستعدي إلى السلطان الجاير، وفي هذه المسألة جواب أغفلناه إلى وقت يمكن فيه شرحه إن شاء الله.

(1/391)

وسألت: عن قول الله سبحانه: وحسن أولئك رفيقا، فقلت: ما معنى الرفيق?، قال محمد بن يحيى عليه السلام: ألا تسمع كيف يقول الله عزوجل في أول الآية فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين إلى آخر الآية، ومعنى قوله: رفيقا فالرفيق: هو الصاحب والمجالس والمحادث والمقارن فهذا هو الرفيق..

وسألت: عن قول الله سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شحر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما، قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى قوله: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم من مناظرتهم، وما اختلفوا فيه من أمورهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت والحرج فهو الشك والارتياب وضيق الصدر فإذا لم يجدوا ذلك في قلوبهم من حكمه ولم يراجعوه في شيء، من قوله وسلموا كذلك فقد صح لهم الإيمان وبعدت عنهم نزغات الشيطان، وهذا دليل على أنه قد كان مع رسول الله صلى الله عليه من إذا حكم عليه بحكم أو أنفذ شيئا من أمور الله فيه حرج صدره وضاقت نفسه فنبههم الله في ذلك وبين لهم به شريطة الإيمان ويتم عليهم فيه من الله النعمة والإحسان فهذا معنى الآية وتفسيرها.

(1/392)

وقلت: هل كتب الله عليهم أن يقتلوا أنفسهم، أو لا تسمع كيف يقول عزوجل ولو أنا كتبنا عليهم ولم يقل كتبنا فأخبر سبحانه أنه لو امتحنهم وأمرهم بشديد من الأمر ما قد روا على ذلك ولا أطاقوه، فهذا يوجب الشكر له عزوجل عليهم إذ لم يمتحنهم بمحنة تصعب ولا بفرض منه سبحانه يغلب ولم يكلفهم شيئا من الأمور المعضلات التي كلفها غيرهم من القرون الخالية والأمور السالفة فيجب عليهم بتركها اسم المعصية ويستوجبوا من الله فيها النقمة أو يحمدوا على فعله، ويثابوا في الآخرة على عمله بل خفف عليهم الامتحان وأوجب لهم على الطاعة المغفرة والرضوان، وقد ذكر عزوجل أنه قد امتحن قوم موسى بقتل أنفسهم، وقيل: أنهم امتحنوا بقتال عدوهم وحرم عليهم أن يزولوا من مصافهم حتى يفنوا عن آخرهم.

وكل ذلك فمحنة شديدة عظيمة، إذ لم يجعل لهم توبة، دون فعل ما أمرهم به، وذلك قوله عزوجل في كتابه يخبر عن موسى عليه السلام في قوله لهم: وإذ قال موسى لقومه: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم، وقد امتحن الله عزوجل الأمم من قبل أمة محمد صلى الله عليه بأمور شديدة وأسباب جليلة وتعبدهم بفرايض خفف ذلك كله عن أمة محمد صلى الله عليه رحمة منه لهم وإكمال حجة عليهم وكرامة لنبيهم صلى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم.

(1/393)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة إلى قوله: ولا يظلمون فتيلا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هؤلاء قوم ممن كان مع رسول الله صلى الله عليه من المنافقين ممن كان يظهر بلسانه ما ليس في قلبه وكانوا ينبزعون إلى الفتنة والقتال ويمدون أيديهم فيما لا يجوز من الأفعال فنهاهم الله عزوجل عن ذلك وكان فعلهم هذا من قبل أن يفترض الله عزوجل على النبي صلى الله عليه الجهاد، فأمرهم سبحانه بالجهاد وحكم به عليهم وأطلق لنبيه ولهم ثم نكلوا عما كانوا يقولون ورجعوا عما كانوا من أنفسهم يظهرون ثم أخبر أنهم يحشون الناس ويفزعون من قتالهم كخشية المؤمنين لله الذين لا ينكلون عن أمره ولا يرجعون عن حكمه.

فذكر عزوجل هؤلاء المنافقين أنهم يخشون الناس ويهابوهم كخشية الله وليس لهم خشية لله ولو كانت لهم خشية لله وهيبة ومعرفة ما نكلوا ولا رجعوا ولا ونوا ولا قصروا، ولكن الله عزوجل أخبر نبيه والمؤمنين أن هؤلاء المنافقين يخشون الناس كخشية الله التي في قلب نبيه وقلوب المؤمنين معه، فذم الله سبحانه أهل النفاق، والكفر والشقاق بفعلهم، وما ربك بظلام للعبيد.

وقولهم: لولا أخرتنا إلى أجل قريب، يقولون: إلى انقضاء المدة وحضور الموت فأخبرهم عزوجل أن متاع الدنيا قليل وأنهم لو بلغوا في المدة غاية الأمل والأرادة، لكان انصرام وذهاب وكل ما زال وذهب فليس بغبطة لمن كان له عقل ومعرفة والفتيل، فقد قيل: إنه الذي يكون وسط النواة، وقد قيل: إنه الذي يكون في شقها والفتيل عندي ما قل وحقر وصغر وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري.

(1/394)

وسألت: عن قول الله سبحانه: وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك، فقلت: مرة ينسبه إلى نفسك ومرة ينسبه إلى العبد، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا تفهيم من الله عزوجل وتبيين لمن كان مع محمد صلى الله عليه، وذلك أنه كان يعظهم إذا أصابتهم حسنة وغنيمة ونصر قالوا: هذا من الله عزوجل وإذا أصابتهم محنة نسبوها إلى نبيهم صلى الله عليه، وهذا كان من كلام بعضهم يوم أحد، وذلك أنهم لما أشتوروا في قتال المشركين أشار بعضهم بقتالهم في المدينة، وأشار بعضهم بالخروج إليهم، وقالوا: يا رسول الله نخشى أن يطمع العدو فينا إذا قاتلنا بين الأزقة وحول القرية ويظنوا أنا قد دخلنا منهم أو ضعفنا عن الخروج إليهم.

وأشاروا بالخروج فلما لبس صلى الله عليه درعه، وتقلد سيفه وخرج وسار ساعة، قال له بعض من كان معه: يا رسول الله لو رجعت إلى المدينة فقاتلنا بين أزقتها فهو أنصر لنا فقال صلى الله عليه: قد أبيتم ذلك، وما كان لنبي إذا لبس لآمته أن يضعها حتى تنقضي الحرب فسار عليه السلام ومن كان معه من المؤمنين حتى قاتل أهل الشرك والنفاق فلما عبأ العسكر جعل الرماة على جبلين من ورائه، وأمرهم أن لا يبرحوا من الموضع خوفا منه صلى الله عليه أن يقتحم العدو عليهم من خلفهم ويأتوا الطرق التي جعل فيها الرماة مقابلة لهم فلما أن هزم عليه السلام المشركين ووقع المسلمون في غنايمهم خلاَّ الرماة الموضع الذي كانوا فيه واستغاروا في طلب الغنيمة فاستدارت خيل المشركين، ومن كان معهم فدخلها على النبي صلى الله عليه من ورائه من حيث كانت الرماة.

(1/395)

فقتل من المسلمين ما قد علمت وامتحنوا بمحنة عظيمة جنتها عليهم أنفسهم بما كان من مخالفتهم فلما أن رجعوا إلى المدينة قال بعضهم: هذا منك يا محمد، قد كنا أدر باك على القتال في المدينة فغسلت فأخبر الله سبحانه عزوجل أنه ما أصاب من النعمة والفتح في أول ذلك النهار فمن الله وما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم إذ خلَّوا مواقفهم وراحوا عن مواضعهم وتركوا ما أمرهم به نبيهم صلى الله عليه حتى وجد العدو مدخلا عليهم من بعد أن أراهم الله ما يحبون.

وأما قوله سبحانه: قل كل من عند الله، فإنما ذلك معنى سوى هذا يخبر عزوجل عن الحسنة والنعمة منه عليهم والسيئة التي ينزل بهم فهو ما يكافيهم الله به من فعلهم وما أوجب عليهم من الحد والعقوبة وما جعل في ذلك من الأحكام الشديدة، وقد يخرج في هذا وجه أخر بما يصيبهم من التقل والجراح فإنما ذلك لفرض الله عليهم، إذ تعبدهم به وأمرهم بالقيام فيه فهذا وجه المسألة، وتفسيرها والله أعلم سبحانه وتعالى علوا كبير ا.

وقد قال بعض المفسرين: إن معنى وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قالوا في ذلك أنه ما كان من مطر وخصب فهو من عند الله وما كان من قحط وجدب فهو منك، فقال الله عزوجل: قل كل من عند الله، وليس التفسير عندي كما فسروا والقول الأول الذي قلنا به هو الصواب عندنا، والله الموفق لكل خير وسداد.

وسألت: عن قول الله سبحانه: فإذا برزوا إلى عندك بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول، فقلت: ما معنى التبييت، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا إخبار من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه بفعل أهل النفاق والشك والارتياب كانوا إذ دخلوا على النبي صلى الله عليه وسمعوا الحكمة، وما أنزل الله من الموعظة ثم خرجوا من عنده فأبوا في ليلتهم يبيتون تحريف كلامه والكذب في قولهم عليه مدبرون لصد الحكمة التي يسمعون متبعون لغير ما به يوعظون.

(1/396)

وقد قيل: إن معنى بيت طايفة منهم غير الذي تقول أي بيتوا غير ما أعطوك من أنفسهم وليس ذلك كذلك ولا القول فيه إلا ما قلنا به أو لا.

وقلت: ما معنى قوله سبحانه: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، فقلت: قد نجد فيه الفاظا مختلفة حتى كأنه ينقض بعضها بعضا..

واعلم هداك الله أن هذا شيء لا يطلق في الكتاب ولا يتكلم به أهل المعرفة والألباب، قد بعد منه الاختلاف والتناقض بل هو المؤتلف الواضح يشهد بعضه لبعض ويؤكد بعضه بعضا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، شفأ من الأدوا ونور لمن اهتدى منجي من الهلكة قايد في كل ظلمة لا يضل من تعلق به ولا يهلك أبدا من تمسك بحبله فيه شفاء الصدور، وموضح ما التبس من الأمور، ولو كان في نسقه ورصين كلامه ومحكم تأليفه وعزيز مطرد وصفه اختلاف وتناقض أو تفاوت لما قال سحبانه: فأتوا بسورة من مثله.

فلما أن كان معناه واحدا وتنزيله محكما عز على الخلق أن يأتوا بمثله ويقدروا على سورة من شكله فانقطع عند ذلك كلام المتكلمين وانقطعت لديه حجج المخالفين فالج من خصمه وقاهر من حاوره وناضل من ناضله إليه يرجع الصادون ويتحاكم المتحاكمون مزيح الشبهات وكاشف الظلمات فكل كلام سواه مختلف، وفي معانيه غير مؤتلف، فهو كما قال العلي الأعلى: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.

وسألت: عن قول الله سبحانه: فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون، وقوله: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، وقوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فمرة يقول: لا يسألون ومرة يقول: يسألون، فهذا مما يقع في الشك عند من لا يعرف التفسير، وقلت: بين لي ذلك وأوقفني منه على معنى يذهب الشك والارتياب.

(1/397)

قال محمد بن يحيى عليه السلام: إعلم هداك الله ووفقك أن هذه الآيات بينات واضحات لاشك فيهن ولا ارتياب وسنفسر لك إن شاء الله ما عنه سألت ونوقفك فيه على ما له قصدت، أما معنى قوله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: فوربك لنسألنهم أجمعين، فسؤاله لهم عزوجل فهو لغير استفادة أمر مجهول ولا غايب مستور، وإنما يسأل سبحانه للتقريع، والتبكيت والاذلال للظالمين، لا على حاجة منه عزوجل إلى علم شيء من الأشياء مستتر عنه.

وأما قوله: فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان، فإنما أراد سبحانه أنهم لا يسألون مسألة استخبار ولا استفهام بل هو العالم بجميع الأسرار، ومعنى قوله تبارك وتعالى: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فكذلك الله سبحانه لا يسأل عن فعله ولا راد لحكمه إذ هو المالك لخلقه والقادر على عباده العادل في جميع أفعاله الذي أوجد خلقه من بعد العدم، وفطرهم على ما شاء من صورهم واختلاف خلقهم والوانهم حكمة وتدبيرا وصنعا متقنا وتقديرا فلا معقب لحكمه ولا راد لأمره، وهو العزيز الحكيم، الذي أمات وأحيا وخلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وهو الذي سبحانه أغنا وأقنا ورزق وأعطى وتعبد خلقه بما افترض في كتابه المنزل مع نبيه المرسل ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم، فكل ذلك من فعله والخلق فيسألون عن أفعالهم وعما يكون من ظلمهم وإحسانهم وكل سيكشف عمله ويجازى على فعله ويوقف على قصده، فهذا معنى ما عنه سألت: فافهم هديت وميزيبن لك الصواب، ويذهب عنك بعون الله الإرتياب.

(1/398)

وسألت: عن قول الله سبحانه: من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها، فقلت: ما معنى الشفاعة، فمعنى ذلك أنه من عمل عملا أو شفع شفاعة يقول رضيً وعند الله سبحانه مقبول زكي كان له من ذلك نصيب، ومعنى النصيب: أي حظ وأجر وثواب وعطا على فعله ومجازاة على المرضي من فعله لأن الله لا يضيع أجر المحسنين.

وسألت: عن قول الله سبحانه: وكان الله على كل شيء مقيتا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى مقيتا فهو مقتدرا، وذلك في لغة العرب فموجود أن المقيت هو المقتدر، ألا تسمع كيف يقول الشاعر:

وذو حنق كففت النفس عنه... وكنت على سوأته مقيتا

ويقول: مقتدراً، وقد قال بعض المفسرين: إن معنى مقيتا هو شهيد ا، وليس هذا عندي بصواب، والقول الأول أوضح للحق وأبعد من الشك.

وسألت: عن قول الله سبحانه: فمالكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى قوله: فما لكم في المنافقين هو مالكم فيهم حزبين تتحاجون، وفي أمرهم تحاورون وهذا القول، فكان من المؤمنين في أهل النفاق والكفر والشقاق، فأخبر عزوجل أنه أركسهم بما كسبوا أي خذلهم وتركهم من التوفيق لشرارتهم وبعدهم من طاعة ربهم، فهلكوا بذلك وصاروا من المعذبين وعند الله من المقبوحين وذلك أن هؤلاء القوم الذين ذكر الله اختلاف المؤمنين فيهم رجعوا إلى مكة من بعد إيمانهم، فقال قوم: هم مؤمنون..

وقال آخرون: هم منافقون، قد أرتدوا عن الإسلام، وذلك أنهم عند خروجهم إلى مكة كتبوا من طريقهم إلى رسول الله صلى الله عليه إنا على عهدك والتصديق بدينك إلا أنا نزعنا إلى وطننا فوهموا بذلك على المؤمنين فبين الله نفاقهم وما كان في ضميرهم من الرجوع عن الدين وأوضح أمرهم لجميع المؤمنين، ومعنى حصرت صدورهم، فالحصر: هو الضيق والحرج، وقلت: كيف تقرأ حصرت صدورهم بتسكين التاء.

(1/399)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة، ثم قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد عزوجل بتحرير رقبة تكفيرا للخطية ومحوا للسيئة فجعل فيه تحرير رقية بعد الدية، ثم قال في آخر الآية: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله فأوجب الصيام لشهرين متتابعين فمن لم يجد الرقبة ولم يطق أن يصوم فعليه أن يطلب الرقبة ويجتهد فيها، وتكون في رقبته دينا حتى يفيدها أو يمكنه الصيام من قبل المقدرة على الرقبة فيصوم إن كان تركه أولا لعلة عرضت عليه.

وقلت: هل يحكم على العاقلة بالدية، وكذلك يفعل بهم والدية عليهم، وقلت: فإن لم يكن له عاقلة، وله مال هل يخرج من ماله، فقد قيل: إن عاقلته إذ لا عاقلة له المسلمون لأنهم ورثته إذ لا ورثة له وإن كان الإمام ظاهراً وداه من بيت مال المسلمين لأنهم ورثته إذ لا ورثة له.

وسألت: عن رجل قتل مسلما عمدا، هل يجب عليه عتق رقبة، ولم يذكر الله في كتابه وإنما يلزمه القتل فإن عفي عنه وقبلت الدية فقد أحسن في ذلك إليه، ومنوا بنفسه عليه، وعليه أن يؤديها كما قال الله سبحانه: فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ويستحب له أن يكفر بعتق رقبة فهو أفضل له.

فأما أن يكون محكوما به عليه فليس ذلك يلازم له، وقلت: فإن قتل قوم رجلا خطأ هل تجزيهم كفارة واحدة مثل قوم دفعوا جدارا ليطرحوه، ولم يعلموا بما خلفه فقتلوا رجلا فعلي كل واحد منهم كفارة.

(1/400)

وقلت: إن قتل قوم رجلا مؤمنا عمدا، فالجواب في ذلك أنهم كلهم يقتلون به وأنه إذا عفي عن بعضهم أن القتل قد زاح عن كلهم ولا قتل عليهم لأن جميعهم بمنزلة رجل واحد، وإذا صفح عنه أحد الأولياء لم يجز قتله للآخرين، ويجب على كل هؤلاء القاتلين إذا عفي عن بعضهم وسقط القتل عنهم دية دية يخرجونها لأولياء المقتول فإن كانوا خمسة أخرجوا خمسة ألاف وإن كانوا عشرة أخرجوا عشرة آلاف، وإن كانوا أقل أو أكثر فعلى حساب ذلك، وقد قال قوم ممن لا علم عندهم ولا تمييز لهم: إنه إذا قتل جماعة رجلا عمدا ساهم بينهم الولي فقتل منهم واحد ا، وهذا عين الظلم والمحال، وأقبح شيء من الحكم والأفعال أن يكونوا كلهم قائلين معا ثم يقتل ولي المقتول منهم واحدا فيجمع ذنوبهم كلها في رقبة ويخرجوا سالمين مما دخلوا فيه معه، هذا قول مدخول لا يقبله إلا كل عقل فاسد مخبول.

وقد سئل: عن هذه المسألة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فقال: ؛نعم، لو قتله أهل صنعاء كلهم لقتلتهم به«، وقد يروى أن المسألة وردت عليه من صنعاء، ويذكر أنه قال: لو قتله أهل منى لقتلتهم به.

وسألت: عن قول الله سبحانه: إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى توفاهم الملائكة فهو عند حضور الأجل وانقطاع الأمل وخروج نفس المتوفا وما ينزل من الموت لجميع الأحياء ثم قال ظالمي أنفسهم يقول عز وجل يتوفا أنفسهم وهم ظالمون لها بما اجترموه من أفعالهم، وكانوا فيه من المخالفة لربهم فأهلكوا أنفسهم، وقد كانوا قادرين على إيصالها إلى الثواب والنجاة لها من أليم العقاب فلم يفعلوا و اتبعوا الهوى وارتكبوا الردا، فكانوا بذلك ظالمين، وبتقصيرهم في أمر الله من الهالكين.

(1/401)

ثم أخبر عزوجل عما يعتذرون به في الآخرة من قولهم: كنا مستضعفين في الأرض، قالوا: ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فلم يجعل الله فيما احتجوا به من ذلك لهم حجة، ولا عذرا بل كان ذلك عليهم نقمة وإلى العذاب ذريعة فهذه الآية فجوابها يطول، ولها معاني يوفق الله لها من قصده من عباده وهي توجب على الخلق أسبابا لا يقوم بها إلا من امتحن الله قلبه وشرح بالإيمان صدره والقليل المجزي لمن قبله خير من الكثير الغزير لمن لا ينتفع به، وقد أعطيناك فيها جملة، وهي للهجرة ملزمة وعن دار الفسق والكفر للعزلة موجبة، فنسأل الله التوفيق لما يرضيه ويقرب من الأمور إليه.

وذكرت السكنا مع الظالمين والكينونة بينهم، وقد أجبنا في هذا بجواب شاف، عندك في كتاب الإيضاح والقول واحد لا يختلف ومعاشرة الظالمين فحرام ومكاونتهم من أعظا الاثام.

وسألت: عن الظالم يغشى البلد ولا يقدر أهلها أن يمنعوه منها فيقيموا في البلد معه هل يسعهم ذلك أو يجوز لهم أن يساكنوه فيها، قال: إن أمكنهم الانتقال منه فلينتقلوا إلى أطراف البلدان حيث لا يلحقه لهم حكم، ولا يجوز له عليهم أمر وإن أضر بهم وحال بينهم وبين الخروج من بلدهم كانت حالهم كحال من حبسه ظالم لا حيلة لهم في ذلك فيجب عليهم أن يعادوه بقلوبهم ولا يدخلوا عليه بشيء من أرفاقهم وهم معذورون عند الله بحصرهم.

39 / 47
ع
En
A+
A-