ثم قال: ونقول: ذوقوا عذاب الحريق يخبر عزوجل بما يصيرون إليه ويجازون به في الآخرة من عذاب الحريق والبلاء الشديد جزاء على فعلهم ومكافاة على أعمالهم.
وسألت: عن قول الله عزوجل: الذين قالوا: إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا قول أهل الكتاب كذبوا فيه على الله عزوجل وقالوا زورا وبهتانا عظيما فأكذبهم الله سبحانه في آخر الآية، فقال لنبيه عليه السلام: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين في قولكم إن الله عهد إليكم فيما سألتم فلم قتلتم من جاءكم بالبينات وبالقربان الذي طلبتم فأوقفهم الله سبحانه على كذبهم وقرعهم بما كان من فعلهم.
وقلت: ما القربان فهو شيء كان يقربه الأولون من طريق البر والطاعة لله سبحانه مثل الكباش وغيرها من الاطعمات فتخرج نار فتأخذ قربان أزكاهم عملا وأقربهم عند الله عزوجل محلا وتدع ما ليس بزكي ولا مقرِّبُة بمؤمن رضي كما فعل أبناء آدم في قربانهما، فتقبل الله من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
(1/379)
وقد قيل: إن الكبش الذي فدا الله به إسماعيل عليه السلام هو قربان ابن آدم أنزله الله على إبراهيم صلى الله عليه، والله أعلم، كيف كان ذلك، فسبحانه العادل في حكمه المنصف لخلقه المتعطف عليهم المنعم بالإحسان إليهم، ولكن الخلق في فعلهم كما ذكر عنهم حين يقول: وقليل من عبادي الشكور.
وسألت: عن قول الله سبحانه: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، فقلت: هل ذلك متعلق لمن يزعم أن أهل النار يخرجون منها ثم يدخلون الجنة، قال محمد بن يحيى عليه السلام: وأي تعلق يرحمك الله في ذلك لأحد أو ما فيه من الدليل على خروجهم من النار إلى الجنة، وكيف يزحزح منها من كان من أهلها فصار بحكم الله فيها ووصل بقبيح فعله إليها، ووقع في أليم العذاب، وصار بذلك إلى شر مآب..
وإنما المعنى في قوله فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فهو أبعد من النار وأزيح عنها وأزلف الجنة وأدخل فيها، فأصبح من الآمنين وعند الله سبحانه من المقربين، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، بعدين من الراحة والسرور والنعمة والحبور، أهل الآثام والشرور المتقحمون في المعصية التاركون للطاعة الكفرة الأشزار المصيرون إلى أسوأ دار جهنم يصلونها فبئس القرار.
قال سبحانه: لا بثين فيها أحقابا، وقال: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض، وقال سبحانه: وما هم منها بمخرجين، وقال ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال: إنكم ماكثون، فأين يرحمك الله ما ذكرت من خلاصهم مع ما ذكر الله سبحانه وأخبر من دوام حسرتهم وطول مقامهم في طبقات النيران ما كثون في الخزي والهوان لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور، غير خارجين من أليم العذاب ماكثون فيه طول الأبد إلى غاية لا تبيد ولا تنفد.
(1/380)
وسألت: عن قول الله سبحانه وجل عن كل شأن شأنه: لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى يفرحون بما أتوا فهو فرحهم بما ارتكبوا وأتوا، من الجرأة على خاتم النبيين والطعن على المؤمنين مع قبيح فعلهم ومستسمج سيرتهم فكانوا يستحسنون من ذلك من أنفسهم ويرونه جايزاً عندهم لشرارتهم وشدة كفرهم، وبعدهم من الله وعنادهم والفرح منهم، فهو أشر وازدها وتبع للمعصية والهوى كفرح قارون إذ يقول له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وإنما كان فرحه جرأة وأشرا ومعصية لله وتمردا.
وهذه الآية فنزلت في اليهود ذماً لهم فيما كانوا يأتون من الجرأة على الله سبحانه وعلى أوليائه، ثم قال عزوجل: ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فهو ما كانوا يتوسمون ويذكرونه عن أنفسهم من الفضل والطاعة لله والمدح لأمر ربهم فأكذ بهم الله عزوجل في قولهم وبين للمسلمين كفرهم ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فأخبر أنهم غير فاعلين لما ذكروا ولا صادقين، فيما انتحلوا بل هم كاذبون وعند الله معذبون، ثم قال: فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب، والمفازة: فهي البعد فذكر سبحانه أنهم من العذاب قريب غير بعيد فحكم عليهم بأليم العذاب، وأوجب لهم الخزي والعقاب وصاروا بذلك إلى شر مآب جهنم يصلونها وبئس المهاد.
ثم الجزء الثالث: ومن سورة النساء:
وسألت: عن قول الله سبحانه: الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا، فقلت: هل خلقت حواء من نفس آدم من الطين الذي خلق منه آدم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إعلم هداك الله وأعانك أن الناس قد اختلفوا في هذه الآية وتفسير خلق حواء من آدم، فقال: فيها قوم خلقها الله من ضلعه الأصغر، وهو الأسفل من الأضلاع..
(1/381)
وقال آخرون: خلقت من بعض لحمه وتكلموا في ذلك ورووا روايات قد سمعتها إن كانت وصلت بك ووقفت على شرحهم فيها ونظرته وكل عندي لم يصب المعنى ولم يقع فيه على باب حق ولا هدى والقول فيها، والله أعلم وهو الموفق للصواب أن الله سبحانه لما أن خلق آدم من الطين أقام مطروحا من طين على هيئة إنسان في الذراع والعضد والرأس والأنف والاصابع فكان على ذلك تبصرهُ الملائكة لا روح فيه وخلق الله سبحانه حواء من تلك الطينة من قبل أن ينفخ فيها الروح، ثم نفخ فيه الروح فصلى الله عليه فإذا هو يسمع ويبصر ويتحرك وينطق ويقوم ويقعد، فهذا معنى خلق منها زوجها وهو صواب إن شاء الله، وقد قيل: إن معنى خلق منها زوجها أي خلقها من جنسه وأنشأها مما أنشأه منه، وليس ذلك عندي بقول، والقول الأول أحب إلينا وهو إن شاء الله الصواب.
وسألت: من قراءة آخر الآية، فقد أجتزيت بماصار اليك من القراءة الصحيحة، وقلت: هل يجوز لوصي اليتيم إذا خاف ألا يقسط في مال اليتيم ولا يقوم بما يجب فيه عليه وخاف تضييعه أن يدفعه إلى اليتيم وإن كان صغير ا، واعلم حاطك الله أنه لا يحل للوصي تضييع مال اليتيم المؤتمن عليه الموثوق به فيه بل يجب عليه القيام به والايثار له والعمارة لخرابه والاجتهاد في صلاحه، فهو أمانة في رقبته يجب عليه القيام بها، والتخلص إلى الله من تضييعها.
(1/382)
فأما دفعه إلى الصبي فلا يجوز لأنه إذا دفعه إليه فقد أذهبه كله عليه إذ الصبي لا يميز فعله ولا يعقل فيعمر ماله ويقوم لشآنه ويحرص في جميع أموره ولكن يجب على وصيه القيام بأمره فإن أيقن بإتلاف ماله وتضييعه فيه لأمانته ولم يكن عنده من الخير ما أمل منه ورجى فيه وظن به الموصي أطلع ذلك على الإمام إن كان ظاهرا ليقيم الإمام له رجلا مسلما يقوم بماله ويحوطه فيه لأن الإمام والد الايتام متعطف على ضعفة الأنام، حافظ لما أمر به فيهم، وفي جميع المسلمين وما حوت يده من ضعفة المؤمنين فيكون إذ ذلك المتولي لأمره والقايم بشأنه إلى بلوغ أشده أو الاستيناس لرشده.
والرشد: فهو العقل والفهم والدين فإذا رأى ذلك ولي اليتيم من بعد بلوغه سلم إليه ما في يده من ماله وأشهد على ذلك ولا يجوز له دفعه إليه حتى يرى الرشد فيه ويوفق بالصلاح لديه، وأما ما سألت عنه من المعروف الذي أبيح للوصي الفقير أن يأكله فقد تقدم تفسير ذلك إليكم.
وسألت: عن قول الله سبحانه: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل عن هذه الآية جدي القاسم صلوات الله عليه معنى لا تؤتوا هو لا تعطوا السفهاء أموالكم، فإن كانوا لكم أبناء وآباء يجب عليكم رزقهم وكسوتهم فيها وأمرهم أن ينفقوا عليهم ويكسوهم منهم، وقولوا لهم قولا معروفا من القول معروفه وحسنه، وسهل القول ولينه ونهاهم أن يعطوا سفهائهم أموالهم التي جعل الله لهم قياما.
(1/383)
والقيم: هو المعاش واللباس الذي به يبقى ويقوم الناس فيهبوها لهم أو يأمنوهم فيها ويجعلوا لهم سبيلا إليها فيفسدوا معاشهم منها عليهم ونهاهم أن يعطوهم إياها ويسلموها إليهم وأمرهم أن لا يؤتوا الابناء من أموالهم إلا أن يؤنسوا و معنى أن يونسوا أن يروا منهم رشدا فيدفعوها إليهم، وكيف يجوز أن يؤتي أحد ماله أحدا إذا كان في أرض الله لنفسه مفسد ا، وقد نهى الله عن ذلك نظرا منه لعباده وحياطة منه برحمته لأرضه وخلقه من الفساد.
وقلت: هل يجوز لرجل أن يقيم إمرأته مقام الوصي فيوصي إليها، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إذا وثق بدينها وأيقن بأمانتها ورصانة عقلها فجايزة إليها.
وسألت: عن رجل حلف بصدقة ماله فحنث، ثم حلف فحنث حتى فعل ذلك مرارا ولم يكفر فقلت: ما يلزمه؟، قال محمد بن يحيى عليه السلام: يلزم في ذلك إذا حلف في شيء بصدقة ماله ثم حنث فيه أن يخرج ثلث ماله للمساكين كما حلف، وهذا ما كان يقول به القاسم بن إبراهيم ثم الهادي إلى الحق صلوات الله عليهما، ثم نحن بعدهما، وقلت: فإن اكتسب مالا من بعد الحنث في المال الأول، فهل يدخل المال المكتسب فيما حنث فيه، قال: إعلم أن كل ما حنث فيه الحالف فلازم له تنفيذ ما لزمه الحنث فيه وكل ما اكتسب من بعد الحنث فليس بداخل فيه وما حاله في اكتسابه من بعد الحنث إلا كحال من حنث ثم كفر ثم اكتسب مالا فلا يلزمه فيه شيء، وإنما يلزمه في ما ملك يوم حنث.
(1/384)
وسألت: عن قول الله سبحانه: وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا تأديب من الله عزوجل لمن عرفه من المؤمنين وسلم لحكمه من الصالحين، ألا يأخذوا مما آتوا النساء من مهورهن شيئا، وهذا فعل يفعله من لا معرفة له ولا تمييز وهم الآن كثير إذا أبغض الرجل المرأة ضيق عليها وأقبح في المعاشرة لها واضربها واضطرها بسوء فعله وسده تعيبه إلى أن يفتدي منه بمهرها فيأخذه ظلما وتعديا ثم يتزوج به النساء فيأكله حراما وسحتا فنهى الله عزوجل من استبدل زوجة مكان زوجة ألا يضر بالأولى ويسيء إليها، ولا يتجرم بظلم عليها حتي يأخذ ما أعطاها.
ألا تسمع كيف يقول سبحانه: وكيف يأخذونه، وقد أفضا بعضكم إلى بعض، والإفضاء فهو الدخول عليها والكشف لمحاسنها ولما استتر من غيره من بدنها مع الدنو منها فقد أفضى منها إلى أشياء أوجبت عليه مهرها وحظرت عليه بحكم الله أخذه منها، فنهاهم الله من بعد ذلك عن الظلم والاعتداء والتحيل بالباطل لطلب الفدا منهن أو الاخذ لمهورهن، وما أوجبه الله سبحانه بحكمه لهن، ولا يجوز ولا يحل في حكم الله ذي الطول والإحسان أن يأخذ المسلم مهر إمرأته إلا أن تكون كما قال الله سبحانه إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإذا كان منهما جميعا الظلم، والتعدي ولم يكونا متناصفين ولا بما فرض الله عليهما في الصحبة بعاملين جاز حنيئذ الفدا والقبول.
وقلت: في رجل عنين دخل بمرة وأقام معها مدة لم يمسها هل لها نصف المهر أم المهر كاملا عند طلاقها، ولها يرحمك الله المهر كاملا لأنه قد دخل بها وأرخا ستره وأغلق بابه عليها، وقلبها ونظر إلى المستتر منها فالعجز كان منه، والمهر عليه يحكم الله سبحانه لها به.
(1/385)
وقلت: فإن رجلا دخل بمرة وأرخا الستر وأغلق الباب ولم يمسها ثم طلقها، فقلت: هل لها نصف الصداق أم الصداق كله، وقلت: إن كان الرجل ثقة في قوله مأمونا هل يصدق في كلامه، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إعلم أحاطك الله وهداك أن كل إمرأة دخل بها أن لها الصداق كاملا وعليها العدة كاملة، لأنه قد خلا ولعل أن يكون دنا منها دون فرجها ولصق بدنه ببدنها وربما وقع الحمل من ذلك والمرأة عابق فلا بد لها من العدة إذا دخل بها وإذا لزمت العدة وجب المهر فاعلم ذلك وقس عليه ما أتاك من هذا الباب فهو بعون الله الحق والصواب.
وسألت: عن قول الله سبحانه: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الموالي فهم القرابة والعصبة، ألا تسمع كيف يخبر الله عزوجل عن زكريا عليه السلام حين يقول: وإني خفت الموالي من ورائي يعني العصبة، وقوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم، فقلت: فما نصيبهم، وهذه آية منسوخة، وذلك أن قريشا والعرب في جاهليتهم كان يتعاقد الرجالان منهم والقبيلان ويتحالفون على الموازرة والمناصرة والمحابة ما بقوا، وعلى أنه من مات منهم ورث الآخرون مع ورثته، وربما لا يكون له قريب لاصق فيرثه حَليفه دون عصبته فكانوا يتعاملون بذلك فلما أنزل الله عزوجل: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله، ثم أنزل الله سبحانه: فرض المواريث وقسمها فزاح ما كان بينهم ورد المال إلى أهله، وقسمت على ما حكم الله بها له وأمضاها فيه.
وسألت: عن قول الله سبحانه: والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل، وقد مضى تفسيرها بشرح بين إليكم في مسائلكم التي سألتم عنها، وفيما وصل بكم كفاية والجواب واحد.
(1/386)
وسألت: عن قول الله عزوجل: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول ولو تسوى بهم الارض ولا يكتمون الله حديثا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: يومئذ هو يوم القيامة، يوم الدين وحشر العالمين، والموقف بين يدي أحكم الحاكمين، يود الكفرة يومئذ عند معاينة العذاب والإيقان بشر مآب أن الأرض تسوي بهم وتسويها فهو انخسافها وذهابهم فيها من شدة ما يرون، ثم قال: ولا يكتمون الله حديثا، فهم يوم القيامة لا يكتمون حديثا من أفعالهم ولا شيئا مما سلف من زمان حياتهم وأيام لهولهم.
ألا تسمع كيف يقول سبحانه: اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فأي خشية أو فضيحة أو عظيمة أشد من كلام الجوارح وشهادتها على العبد بما كان من فعله وما ارتكب من معصيته في أيام مهلته وأوان غفلته فنعوذ بالله من شر المنقلب وموقف الجزا، وقبح الهول والجزا إنه ولينا وغاية قصدنا.
وسألت: عن قول الله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، وقد مضى تفسيرها إليك، وقلت: في آخر كلامك دليل على أن الله عزوجل، قد أجاز شرب الخمر، ومعاذ الله ما في هذا دليل على ترخيص في المسكر، وكيف يرخص في ذلك وهو يقول تبارك وتعالى: إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون، مع ما نزل فيه من الجد وشدد فيه الرسول عليه السلام.
(1/387)
ولكن السكر الذي نهى الله عن الصلاة فيه سكر النوم، وذلك أن المسلمين كانوا يأتون من أعمالهم وهم تعبون فيحضرون الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه فإذا صلوا المغرب وانتظروا العشاء مالت بهم أعينهم فإذا نهض النبي صلى الله عليه إلى الصلاة قاموا نَسْخُ النوم ووسَنُه وشدته يصلون، فلا يسمعون قرأه ويختلط عليهم كثير من حدود صلاتهم لغلبة النوم فناهم الله عزوجل عن ذلك، ولو كان هذا السكر سكر الخمر، كما قلت لكان مطلقا لهم ترك الصلاة لأنه نهاهم ألا يقربوا الصلاة وهم سكارى، فقد أحل الخمر لهم.
فإذا كان كذلك فقد جاز لهم ترك الصلاة أبدا حتى يصحوا إلا أنه أمرهم لا يقربوا وهم سكارى فصار تركهم لها عند سكرهم فرضا من الله عزوجل عليهم بأمره سبحانه لهم بذلك وإطلاقه لهم فهم غير معذبين ولا مأثومين في تركها، والله برئ من ذلك متعال عنه بل حظره عليهم ومنعهم أشد المنع منه وعذبهم على فعله، وإنما السكر الذي نهاهم الله عنه سكر النوم وأمرهم عند الصلاة بالتيقظ والانتباه وإعادة الوضوء فهذا تفسير الآية ومعناها.
وسألت: عن قول الله سبحانه: من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه، وما معنى تحريفهم له، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هل يكون يرحمك الله تحريف هو أشد من تحريفهم لما أنزل الله في التوراة من ذكر محمد صلى الله عليه وما كان فيها من صفته والأمر بطاعته والدلالة عليه فحرفوا كلام الله فيه وبدلوا وغيروا وكتموه فهذا أشد تحريف وأصح ما يعرف من الحيف ومن التحريف أيضا الكذب على المؤمنين وتغيير كلامهم وادخال الفساد في ذلك بالظلم لهم، ومن التحريف.
(1/388)
ألا يسمعوا شيئا من ذكر الله سبحانه ولا من كلام نبيه صلى الله عليه إلا حرفوه على غير معناه، ووهموا الناس فيه غير ما أنزله لأن اليهود أشرار الخلق وأعداهم لله ولرسوله وأقساهم قلوبا وأشدهم كفرا وحقدا على المؤمنين لاتخشع قلوبهم لذكر الله إلا اليسير من الكثير، وذلك قول الله سبحانه: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون.
وسألت: عن قول الله سبحانه: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فيزدها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، فقال: آمنوا بما نزلنا مصدقا لها معكم أراد سبحانه من أهل الكتاب الإيمان به وبكتابه ورسله ومعنى مصدقا لما معكم لما في توراتكم من ذكر محمد صلى الله عليه وصفته والأمر بطاعته لأن الله عزوجل قد ذكره لهم في كتابه وأخبرهم أنه سيرسله وأمرهم بطاعته، وبين لهم صفته فإذا لم يؤمنوا بما قد ذكر لهم في كتابهم فلم يصدقوا بشيء مما.......كان في توراتهم، وكذلك لو لم يرسل محمدا صلى الله عليه تصديقا لما ذكر في التوراة نبوته، وكذلك يلزمهم إذا كذبوا بما في التوراة من بعد إتيانه وتبيينه فقد كذبوا بكل ما في التوراة من وحي وأمر ونهي ووعد ووعيد وإذا كذبوا بذلك فقد باينوا بالكفر وجاهروا به وسواء جحدوا شيئا واحدا مما أمروا به أو جحدوا جميع ما أنزل عليهم وما حكم الله به وأمر فيهم.
ومعنى: من قبل أن نطمس وجوها فهو الخذلان لهم والاذلال والهوان وإنزال المصايب بهم، والمسخ لهم والتغيير لخلقهم أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت واللعنة من الله عزوجل فهي العقوبة والعذاب، وأراد سحبانه ينزل بهم كما أنزل بأصحاب السبت من المسخ لهم والتغيير لخلقهم وأصحاب السبت فهم الذين خالفوا أمره في الحيتان فمسخهم قردة وخنازير.
(1/389)
وسألت: عن قول الله سبحانه: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل جدي عن هذه المسألة فقال: تأويل ذلك أن الله عزوجل قادر على ما يشاء من مغفرة أو تعذيب لمن خلق وأنشا وليس في خبر من الأخبار أنه غير معذب لمن أوعده بالنار لأنه جل ثناؤه لو لم يعذب من أوعده بالعذاب من أهل الكبائر لكان في ذلك خلف وإكذاب لما وعد به في ذلك الميعاد، وفيما ذكر سبحانه من وفاء ميعاده ووعده ما يقول تبارك وتعالى: ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد وليس بين قوله سبحانه: يغفر وبين يعذب فرق لأن من لم يغفر له فقد عذبه ومن عذبه فلم يغفر له.
وسألت: عن قول الله سبحانه: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هؤلاء المذكورون في الحسد هم أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى الله عليه ما خصه الله به وأعطاه وحسدوا المؤمنين ومن تبعه من المسلمين، فقال الله سبحانه: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد أتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما.
فأخبر عزوجل بما آتا الأنبياء، وهذا دليل على أنهم أرادوا النبوة فيهم وحسدوا رسول الله صلى الله عليه ما خصه الله به من الملك وأنزل عليه من الوحي، ألا تسمع كيف يقول فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وأتيناهم ملكا عظيما فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه فلم ينتفعوا إذ كان ذلك في داود وسليمان حتى صدوا عنه وأبعدوه وكرهوه ونابذوه، ثم ذكر ربه إبراهيم، فقال: ومن ذريته داود وسليمان، وقد كان أعطى داود ملكا عظيما، فاختلفوا عليهما كاختلافهم على محمد صلى الله عليه وسلم وزعموا أن ملك سليمان كان بالسحر فلم ينتفعوا بذلك.
(1/390)
وأما ما قلت: إنهم حسدوا محمدا النسا فهذا شيء لم يكن ولكن حسدوه في النبوة، وفي الملك الذي أتاه الله إياه.