وسألت: عن قول الله سبحانه: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك، وقال في موضع آخر، فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا، فقلت: ذكر في موضع ملائكة وفي موضع ملكا واحد ا.

(1/353)

قال محمد بن يحيى عليه السلام: إعلم هداك الله أن قول الملائكة إن الله يبشرك هو والله أعلم من بعد حملها من بعد حملها به بشرتها الملائكة بفضله وبنبوته وما جعل الله فيه، وخصه به.

والروح الذي لقيها، وأعلمها بتكوين الله له وما قضا من حملها به فهو جبريل صلوات الله عليه، فكان معلما مبتدئا أو لا بما حكم الله به من خلق عيسى في بطنها، وما قدر الله من ذلك فيها ولها وكانت الملائكة أخرا مهنون لها معلمون بما جعل الله في ولدها من البركات والآيات المعجزات والاكمه، الذي سألت عنه فهو الاعمى الذي لا يبصر شيئا فكان صلى الله عليه يبرئه من عماه بقدرة الله وأمره وإتيان الملائكة إلى مريم، فإنما هم رسل من قبل الله سبحانه أمروا بذلك غير متكلفين ولا بقول مبتدين ولا عما أمر الله سبحانه زايغين بل له مطيعين ولأمره منفذين.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولأ حل لكم بعض الذي حرم عليكم، فقلت: ما الذي كان حرم قبله فأحله هو وهل يجوز للأنبياء عليهم السلام، أن يخالف بعضهم بعضا فيحل هذا ما حرم هذا ويحرم هذا ما أحل هذا. قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى ولأ حل لكم بعض الذي حرم عليكم فذلك بفضل من الله عليهم وتخفيف من المحنة، والتكليف لهم لأن الله عزوجل تعبد أهل الكتاب بأسباب وامتحنهم بها خففها عن أمة عيسى عليه السلام، وتعبد أمة عيسى بأشياء وامتحنهم بها خففها عن أمة محمد صلى الله عليه رحمة منه بهم وتسهيلا في الفرض عليهم، وإقامة حجة واختيارا وإعذارا وإنذارا لتجري الذين أساؤا بما عملوا ويخزي الذين أحسنوا بالحسنى.

(1/354)

وأما ما ذكرت من اختلاف الأنبياء عليهم السلام فالانبياء غير مختلفة ولا متضادة بل هم مؤتلفون ولله سبحانه مطيعون ولحكمه مسلمون وإنما هم مأمورون مرسلون فما أمروا به أنفذوه وما نهوا عنه تركوه، وإنما ينسخ الله التعبد مع الأنبياء عليهم السلام لينظر طاعة الخلق فهم ينقلون من طاعة إلى طاعة فكلما نقلوا فيه من أمر الله وفرضه فهو رضى له.

ألا ترى أنه لو كان لك عبيد فأمرتهم ببناء دار ففعلوا ذلك كانوا مطيعين لك ثم حولتهم من بناء الدار إلى حرث زرع ففعلوا ذلك كانوا أيضا مطيعين ولم تكن أنت في صرفك إياهم من عمل إلى عمل بمستجهل ولا مخطي لصواب.

وكذلك الله عزوجل وله: وله المثل الأعلى إنما ينقلهم من طاعة إلى طاعة ليثيب المطيع على عمله ويجزي العاصي بفعله، ولو لا ما كان من تعبد الله سبحانه لخلقه بالأمر والنهي لما عرف مطيع من عاص إذ الطاعة والمعصية لا يكونان إلا بأمر الله سبحانه يتعبد أو معصية له فيما نهى عنه ترتكب وإنما صار الحرام حراما بتحريم الله له وصار الحلال حلالا بتحليل له.

ألا ترى أن عبيدك الذين أمرتهم بالتحول من البناء إلى الحرث لو امتنعوا من التحول عن ذلك، وقالوا: لن نتحول من البناء إلى الحرث لكانوا بقولهم ذلك عاصين، ومن الخلق للأدب مستوجبين إذ المملوك لا يصدف عن أمر سيده ولا يخالفه في شيء من حكمه إلا وقع عليه اسم المعصية واستوجب العقوبة، فكذلك ذو العزة والسلطان والجبروت والبرهان، وله المثل الأعلى، فإنما يتعبد الخلق بشريعة بعد شريعة وزيادة في الفرض ونقص من التكليف رحمة واختبارا ونعمة وإعذار فمن عارض حكمه فقد أنكر أمره ومن خالف أمره فقد استوجب عذابه.

(1/355)

فإن قال: قائل: لم نقضت هذه الشريعة الأولى، قيل له: الحكم لله سبحانه والأمر يحكم في عباده ولا معصب لحكمه، وإنما ينقل عبيده في طاعته ويأمرهم في ما شاء من إرادته، وحال من نقلهم من الشريعة إليه آخرا كحال ما أمرهم به من الشريعة أولا سواء سواء فإن جاز أن يقول قايل لم نقل الحق من الشريعة الأولى كان حاله كحال من قال لم تعبدنا أولا فإذا قال ذلك قايل فقد أبطل أمر الله ونهيه وما افترضه على خلقه من العمل بطاعته إذ الطاعة لا تبين إلا عند الأمر والنهي وكان مذهب من قال بذلك كمذهب من لم يرا التعبد، وإذا قائل بذلك قال فقد خرج من الإسلام، وصار بذلك من أهل الوزر والآثام فالتارك لما أمر به متقحم في معصية ربه خارج مما حكم به عليه خالقه.

وقلت: هل يجوز للأئمة الاختلاف في الديانة والمقالة كما جاز للأنبياء الاختلاف في الشريعة واعلم أعزك الله أن الأئمة متبعة لا مبتدعة محتذية لا مخترعة في نفوسها ولا متقحمة بذلك على خالقها والانبياء، فإنما اختلفوا في الشريعة لأمر الله سبحانه لهم بذلك وهم مؤتلفون جميعا على العدل والتوحيد والوعد والوعيد والطاعة للواحد الحميد لا يختلفون في ذلك ولا يتضادون فيه بل كلهم عليه مجتمعون، وإليه داعون، وبه مأمورون وعليه محاربون أهل دين لا ينسخ وشريعة ثابتة لا تفسخ، وإنما الذي ينسخ بعض الشريعة بزيادة ونقصان، وذلك فضل من الله ذي المن والاحسان والأئمة فإنما هم يحتذون بالكتاب والسنة ليسوا بأهل باطل، ولا بدعه وكيف يجوز لمن كان أصل دينهم وتعبدهم واحد آ لا يقبل لهم عمل إلا به، ولا يزكوا لهم فعل إلا عليه، أن يختلفوا فيه، ولو اختلفوا في الحلال والحرام.

(1/356)

والمنصوص في الكتاب لكانوا من المبتدعين وعن كتب الله من الصادين ولسنة نبيه يقينا من التاركين ولما وجبت لهم طاعة ولا حكم لهم بولاية ساعة لأن الذي حكم لهم فيه بالإمامة من الكتاب والسنة قد خالفهم، وإذا خالفهم وخالفوه فلسيوا ممن حكم الله لهم فيه بالإمامة ولا أوجب لهم طاعة، فالأئمة في الحلال والحرام مؤتلفون وعليه مجتمعون لا يحرم هذا حرامه فيحله الآخر، ولا يحل هذا حلاله فيحرمه الآخر، وإنما يقع ذلك في مثل مسألة ومسألتين من طريق غفلة أو سهوا وشغل قلب فيستخلفونه بالنظر فيه، ويعودون إلى الحق والصواب والأخذ بما نزل به الكتاب وإنما تكون الزيادة والنقصان لمن نزل عليه الوحي من الله عزوجل فيكون ذلك أمرا من الله لهم، لا باختراع من أنفسهم.

ألا ترى أن الله سبحانه إذا بعث نبيا فنسخ بعض شريعة نبي جعل له آيات ودلالات تشهد له بالنبوة والرسالة وتوجب له الطاعة كما أوجبت للأول على الأمة، ولولا هذه الآيات لو قعت ثم الشبهات، ولكن لما أن قامت الآيات للأول ثبتت له النبوة ووجبت له على الخلق الطاعة، ولما أن دعا الآخر إلى نفسه، وأعلمهم بنبوته لم يجب له من الطاعة ما وجب للأول إلا أن يأتي بمعجزة يعجز عنها الخلق تشهد له أنه من الله مرسل كما شهدت الآيات للأول بذلك سواء سواء فإذا ثبت الآيات وبانت الدلالات وجبت الطاعة والتسليم للحكم، ولما جاء به المرسل من الأمر.

(1/357)

والأئمة: فإنما هي تعمل وتقتدى بكتاب الله وسنة نبيه لا يزلون منهما ولا يعدلون ساعة عنهما فإذا قاموا بذلك فهم الأئمة المفروضة طاعتهم، وإذا خالفوا ذلك فليسوا ممن حكم له بطاعة ولا ثبت لهم من الله سبحانه ولاية، وإنما تختلف الأئمة في غير الحلال والحرام في الشرح والكلام ولكل إمام في عصره نوازل تنزل به وعليه فيحكم فيها بما يوفقه الله له فيستنبطها من كتاب الله وسنة نبيه، أو حجة العقل التي يستدل بها على غامض الكتاب ويستخرج بها الحق والصواب، ولو نزلت هذه المسألة بالأول يستخرجها الآخر، والأئمة مؤتمنة على الخلق قد أمرهم الله بحسن السيرة فيهم والنصح لهم فلعلها أن تجري في عصر الإمام بسبب من أسباب الرعية يحكم فيه بالصواب الذي يشهد له به الكتاب، ثم تنزل تلك النازلة في عصر آخر من الأئمة لا يمكنه من إنفاذ الحكم فيه ما أمكن الأول فيكون بذلك عند الله معذور ا، كما فعل النبي صلى الله عليه في غنايم حنين، فكان في ذلك صلاح للإسلام والمسلمين، ففعل صلى الله عليه ما كان أفضل وأصلح عند رب العالمين، إذ كان الإسلام ضعيفا، والعرب في أول إسلامها على يقين من نياتها.

ثم كان من بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه ثبوت الدعوة ورسوخ الملة وكثرة المؤمنين فلم يكن عليه السلام يفعل من ذلك شيئا بل ألحق كلا سهمه وأمضى فيه ما حكم الله له به حتى غضب في ذلك طلحة والزبير، وقال: أتجعلنا ومولانا سوا فقال عليه السلام: ما وجدت لكما في حكم الله فضلا عليه فقالا له فأين سابقتنا وإبلائنا مع رسول الله صلى الله عليه فقال رحمة الله عليه: أنتما أسبق أم أنا، قال: لا، بل أنت فقال، والله ما أخذت إلا كما أخذتما فلم يستحل لهما زيادة وإنما الإمام مؤتمن على من تحت يده حاله كحال ولي اليتيم عليه أن ينظر لليتيم الذي معه، فما رأى أن له فيه صلاحا فعله في ماله.

(1/358)

ألا ترى: أن يتيما لوكان في يد رجل ولليتيم قطعة عنب تغل عليه وترفقه لم يجز لوليه أن يغيرها أبد إلا أن يزيد في صلاحها فإن تغيرت القطعة وتعسرت على اليتيم، واخلفت سنينا ولم تأته بمنفعة ولم تعد عليه بعايدة فرأى الولي أن يقطع عبنها ويردها حرثا يزرعها له ويعود يزرعها عليه كان له أن يقطع عنبها ويردها للزرع وكان ذلك عليه واجبا وكان عند الله فيه مأجورا إذ هو مؤتمن يطلب لليتيم صلاحه ويدبر بجهده معايشه ولكل دهر نازلة، ولكل نازلة، جواب حق يشهد له الكتاب إذا استنطق مع توفيق الله للأئمة وتسديدهم لما تحتاج إليه الأمة، وذلك قوله سبحانه: والذين اهتدوا زادهم هدى وأتاهم تقواهم، فالواجب على الرعية إذا وثقت بعدالة إمامها، وصحت عندهم إمامته أن يعلموا أن علمهم يقصر عن علمه، ولا يقعون من الغامض على ما يقع عليه، فإذا علموا ذلك وجب عليهم التسليم كما قال ذو الجلال والإكرام، فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.

(1/359)

وكم من سائل عن مسألة يُسأل عنها الإمام فيجيبه فيها بالحق والصواب فيكل ذهنُه عن معرفة ذلك والإحاطة به في وقته وعند مناظرته ويكون ذلك من السائل لنقص علم أو بطوِّ ذهن وبالادة أو تعنتا وأذية فلا يحل له الطعن على الأئمة بما الحجة عليه فيه قايمة بمكابرة لمناظرة أو جهل منه، وقلة معرفة، لأن العلم يشهد بعضه لبعض ويبين بعضه بعضا، وإذا لم يكن مع السائل مامع الإمام من العلم، ولن يكون معه أجابه الإمام بما قد وقف عليه واستنبطه من حكم الله دق على السامع إذ لا معرفة له بالموضع الذي استشهده الإمام عليه منه فمن هاهنا وجب التسليم والطاعة فسلم عند ذلك العبد من الخطل، والدخول في الوزر والآثام والزلل، فيكون مستفيدا طالبا لما عزب عن فهمه قاصدا إلى الله سبحانه في تفهمه ويصير عند الله بذلك من أهل الدين والإيمان والبر والإحسان، فهذا معنى ما عنه سألت.

وقد اختصرنا لك في ذلك ولو استقصينا فيه الجواب لكثر الخطاب لأن هذه المسألة كمثل البحر لا يلحق قعره، ومن لم ينفعه المختصر المصيب من الحجج لم ينتفع بالكثير لدا اللجج، وبالله نستعين على صلاح النية ونرغب إليه في الإتمام لكل عطية، وهو حسبنا ونعم الوكيل عليه توكلنا وهو رب العرش العظيم.

وسألت: عن قول الله سبحانه: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذه نزلت في نصارى نجران أيام وفدوا إلى النبي صلى الله عليه فلما أن تبين لهم الحق وأوضح لهم الصدق وكابروه وجاحدوه من بعد أن قام الحق عليهم وثبتت الحجة في رقابهم حتى كان من قولهم أن أخر واذكر المباهلة، وذلك أن المباهلة كانت في سالف الدهر.

(1/360)

وعند اختلاف أهل الباطل والحق، فكانوا إذا تباهل الحزبان أنزل الله العذاب على الكاذب منهما، فأنزل الله سبحانه على محمد صلى الله عليه أن قال لهم: تعالوا: ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين، فلما أن وعدهم النبي صلى الله عليه المباهلة وغدَّوا إليه لذلك فيقال إن الشيطان تشبه لهم أوناداهم بصوت أسمعهم، فقال: إن باهلكم محمد بأصحابه كافة فباهلوه وإن باهلكم بنفسه وابن عمه وولده فلا تباهلوه فتهلكوا فلما أن خرج صلى الله عليه لمباهلتهم خرج معه علي والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام، فلما رأوهم معه خصوصا منفردين من غيرهم جنبوا عن مباهلته ورجعوا خائبين وبالذلة والصغار معترفين فضرب رسول الله صلى الله عليه عليهم الجزية، وهي ما بلغكم من الأواق والحلل.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، قلت: ما معنى ذلك، وقد سئل جدي القاسم صلوات الله عليه عن هذه المسألة فقال: أما مكر الله واستهزاؤه، فهو استدراج الله وإملائه ومكر من كفر بالله ربه، فإنما هو احتيال من الذين كذبوا وحيه واستهزاء من كفر بالحق والمحقين فيشبه كذبا في القول والفعال بالمحقين فكل ما قيل أبدا للمبطلين خادعوا ومكروا فإنما يراد به فيهم كذبوا وكفوا وأظهروا خلاف ما أبطنوا وأسروا ومتى ما قيل استهزؤا وسخروا فإنما يراد به يَلْعَنوا وبَطِروا.

وفي ذلك ما يقول سبحانه لنبيه عليه السلام: وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم، وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما الفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم.

(1/361)

ويقول سبحانه: وإن يريدوا أن يخدعوك فيمكروا بالكذب فيما أعطوك معطوك المسالمة كذبا ويكذبونك بالمخادعة تلعبا فحسبك في ذلك تأييد الله ونصره وبما ألف بين قلوب المؤمنين على دينه وأمره، وإذا كان استهزاؤهم ومكرهم إنما هو إخفاؤهم ما يخفون وسترهم من أمرهم ما يسترون فأمور الله استروأ بطن وأخفاء عنهم، وأكن وذلك فقد يكون مكرا من الله بهم استهزاء واختداعا من الله لهم صاغرين فلذلك كان الله سبحانه خادعا لمن خدعه لا مخادعا ولا مخدوعا وكان قلب من خادعه سبحانه عن العلم بمكر الله مقفلا مطبوعا ليس لله فيه جذار ولا لهم عن مكره ازدجار حتى يدهاه من أخذ الله دواهيه وهو لا يوقن بأن شيئا منها يأتيه كما قال الله سبحانه فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون.

وسألت: عن قول الله سبحانه: وإذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل عن هذه المسألة جدي القاسم صلوات الله عليه، فقال: معي متوفيك إلي فهو متوفيك إلي صحيحا غير مكلوم ورافعك إلي من الأرض التي هي مأوا كل أثيم ظلوم غشوم فرفعه الله لا شريك له كما قال إلي سمائه غير مقتول ولا مجروح يُجرح عضو من أعضائه، كما قال الله سبحانه: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه، ثم قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ممن يدرك عيسى.

وقوله: قبل موته يقول: قبل موت عيسى ووفاته وهو صلى الله عليه حي في السماء لم يمت بعد، وهذه خاصة له من الله لم يدركها قبله ولا بد بعد أحد ولا بديعه أحد ولا يريعه طول بقايه من أن يعيش إلى ما وعد الله به غير من فنائه كما قال سبحانه: كل من عليها فان ويبقا وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

(1/362)

وسألت: عن قول الله سبحانه: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا قول من أهل الكتاب أهل الكفر والارتياب يأمر بذلك بعضهم بعضا أن آمنوا وجه النهار واكفروا آخره استهزاءً بالدين وجرأة على المؤمنين أراد بذلك أن يراهم الناس والجهال وأهل الكفر والضلال يؤمنون به حينا ويقبلونه ويكفرون به وقتا ويجحدونه ويوهمون بذلك أنما هم عليه باطل، وأنهم بعد أن دخلوا في الإيمان خرجوا منه تمردا وعصيانا وتنهيدا لمن لا دين له، ولا حقيقة معه على الكفر، قال بعض المفسرين: إنهم كانوا يؤمنون ضحى ويكفرون عشيا.

وسألت: عن القراءة في قول الله سبحانه بما كنتم تعلمون الكتاب، فقلت: هل تقرأ بتشديد اللام أم بتخفيفها والقراءة بتخفيف اللام يقول: بما كنتم تعلمون، وقوله: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم برفع الميم كلاهما جميعا، وقوله: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيناكم من كتاب وحكمة، فقلت: كيف تقرأ لما وهي تقرأ بنصب اللام وتخفيف الميم لما أتيناكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم..

فقلت: من الرسول المذكور هاهنا ولمن الخطاب، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الرسول فهو محمد صلى الله عليه المخاطبون فهم أهل الكتاب، ومعنى مصدق لما معكم فهو مصدق لما كان في كتابكم من ذكر محمد عليه السلام ونبوته وإرسال الله له إلى الخلق كافة بوحيه، فكان معهم في كتبهم مذكورا موصوفا، فلما أن كان ذكره وصفته في كتبهم ثم بعثه الله عزوجل على الصفة والحال التي أعلمهم بها ووعدهم إياها كان ذلك تصديقا من الله لما وعدهم به ولما أخبرهم بعلمه.

(1/363)

وسألت: عن قول الله عزوجل: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم أزدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا إخبار من الله عزوجل بحال من عصاه وصد عن أمره وعاداه أنه لا يقبل منه التوبة على ما هو عليه من المعصية والمناواه.

ألا تسمع كيف يقول عزوجل: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا، فأخبر سبحانه أنهم كفروا ثم ازدادوا ولم يتوبوا بإخلاص ولا نية ولم يرجعوا بإقلاع ولا حقيقة، ولم يخبر عزوجل لهم بتوبة وإخلاص وإنما أخبر بتماديهم في ضلالهم وتزايدهم في كفرهم وعنادهم، ولو كانت توبتهم بصحة ونية وعزيمة وبصيرة لقبل الله توبتهم وغفر خطيئتهم.

ألا تسمع كيف يقول تبارك وتعالى: إنما يتقبل الله من المتقين، وقد يمكن ويكون أيضا، وينتظم تفسير هذه الآية، ويدخل فيها رجل مقر بأمر الله غير مشرك وهو كافر لنعمه مرتكب لمعاصيه وهو يتوب بقوله: ويخالف بفعله فهذا كافر نعمة لن يقبل منه إلا إخلاص التوبة والرفض لما هو عليه من الخطيئة وليس ذلك كما قالت المرجئة أن التوبة نافعة مع الإصرار على الخطيئة إذكان قولهم واعتقادهم أن الإسلام قول بلا عمل فضلوا في قولهم وخسروا في مذهبهم وهلكوا بذلك عند خالقهم.

وقد قيل: في تفسير هذه الآية أنهم جماعة رجعوا إلى مكة عن الإسلام منهم الحارث بن سويد، فلما بعثوا إلى النبي صلى الله عليه ويطلبون منه الإقالة والمتوبة، لم يقبل ذلك منهم صلى الله عليه، فلما نزل من الله سبحانه قبول التوبة بلغهم ذلك، فرجع الحارث بن سويد إلى النبي صلى الله عليه فقبل منه، وقال الآخرون: نحن نتربص بمكة بمحمد ريب المنون، فإن يظهر يقبل منا كما قبل من صاحبنا وإلا كنا فيما نحن فيه من التمتع بماله رجعنا، وله قصدنا.

(1/364)

وسألت: عن قول الله سبحانه: وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون، قال محمد بن يحيى عليه السلام معنى أسلم فهو استسلم لأمره وانقاد لما قضا به من حكمه، ومعنى طوعا وكرها فقد يخرج على ثلاثة وجوه:

أحدها: أن يكونوا أطاعوا أمره مسرعين كطاعة الملائكة المقربين الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وكطاعة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، وقد يكون معنى كرها كمثل من كان لله عاصيا ولطاعته مجانبا فيرجع إلى طاعته بما حكم الله به عليه وأمر به أوليائه فيه من قتله وقتاله حتى يفي إلى حكم الله صاغرا وينقاد إلى ما أمر به راغما، وقد يمكن أن يكون معنى قوله أسلم طوعا وكرها يخرج على ما أراد الله سبحانه من خلق الأشياء وهو الوجه الثالث، إذ كان لا يمتنع على الله شيء مما فطر من السماء والأرض وما بينهما وما خلق وجعل فيهما فإذا أراد الله سبحانه إيجاد شيء أوجده وكونه وعلى أي صورة شاء جعله وركبه لا يمتنع عليه من مفطوراتها ممتنع فهو الموجد سبحانه للخلق من بعد العدم الفاطر لهم المكون الجاعل لأرواحهم المركبة في أجسادهم المقدر الخالق لأ لو انهم الجابر لهم علي ذلك سبحانه وتعالى، فعلى هذا المعنى يخرج ما سألت عنه.

(1/365)

ألا تسمع كيف يقول سبحانه في كتابه: ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض اتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، والأرض فليس تكلم ولا السماء، وإنما أخبر الله عزوجل بكون ما أرد من إنفاذ أمره وأنه لا يمتنع عليه شيء خلقه لأن العرب تعرف في لغتها أن كل ما لابد من إيتائه طوعا أو كرها أنه شيء لا حيلة فيه ولا مرد له، وهو حتم نافذ فجاز أن يقول طوعا أو كرها إذ هو جايز في اللغة موجود في الكلام والمخاطبة والمعنيان الأولان جواب مسألتك إلا أنا نحب إذا وقع للمسألة وجوه يخرج عليها شرحها، جميعا ليكون ذلك مغنيا للسائل في جوابه، إلا أنا نحب الشرح والتبيين ليكون أشفا لصدور السامعين، وحسبنا الله ذو القوة المتين.

وسألت: عن قول الله سبحانه: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد ذكر أن إسرائيل أصابته علة من عرق النساء، وقد قيل: إنها عروق خرجت به فحرم على نفسه، ألا يأكل عرقا ولا يأكل لحوم الإبل، فهذا الذي حرم إسرائيل فكانوا إذا ذبحوا الذبيحة أخرجوا عروقها جميعا، فهذا تفسير الآية ومعناها.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذه آية محكمة لا تحتاج إلى تفسير في نفس الحج وهو من الله فرض على جميع الخلق.

وأما السبيل فهو وجود الراحلة والزاد و الأمن فإذا كان ذلك وجب على كل مسلم الحج فإن تركه تارك استخفافا وإطراحا فقد ترك فريضة من فرائض الله ولزمه اسم الكفر، وإن كان تأخره لعلة مانعة أو فقر مجحف أو خوف متلف فهو عند الله معذور فمتى استراح من علله وجب عليه أن يخرج إلى طاعة ربه وينهض حاجا إلى بيته.

36 / 47
ع
En
A+
A-