(1/341)

وسألت: عن قول الله سبحانه: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فقلت: ما هذا الربا الذي يترك وما بقيته، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الربا فهو الذي نهى الله عنه وحرمه مما أنت به عارف من هذه المعاملات والزيادات في الإسلاف والديون والمشاراه فلما أن حرم الله عزوجل ذلك وحظره كانت بقايا للمسلمين من تلك الاسلاف والمبايعات قد بقيت من ديونهم وتخلفت على غرمائهم فكانون يظنون أنه ليس عليهم إثم في اقتضا ما بقي منها وأجروا أخرها كمجرى أولها فنهاهم الله عن ذلك وغفر لهم ما قد سلف من قبل التحريم وحظر عليهم ما بقي لهم فأمرهم بتركه ومنعهم من أخذه واقتضائه وهو بقية ديون الربا.

ثم قال سبحانه: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله، يقول: إن لم تتركوا بقية هذا الربا الحرام فأذنوا بحرب من الله ورسوله يريد القتل والقتال حتى يفيؤا إلى أمر الله ويرجعوا إلى حكمه وحكم عليهم بالقتل بعد إذ سماهم مؤمنين إن لم يقلعوا عن أخذ الربا والميل إلى الهوى وأوجب عليهم في ذلك أعظم بلا، فهذا معناها ومجراها.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولا يضار كاتب ولا شهيد، والكاتب فهو الذي يكتب الحق عليه، وقد يمكن أن يكون المكاتب الذي يكتب والشهيد: فهو الذي يشهد على الشهادة ثم يضار فيها ويكتمها فلا يحل له ذلك ولا يسعه بل عليه أن يؤدي شهادته ويحفظ في ذلك أمانته والشاهد أيضا إذا دعي إلى الشهادة، فنأبَّا فنهاه الله عن ذلك إذا كانت شهادته حقا ولاح مستحق.

وقلت: هل يحل إذا دعي رجل إلى الشهادة ليشهد عليها أن يمتنع وما نحب له إذا دعاه أخوه المسلم ليشهد له على شهادة حق أن يأبا لأن هذا من المعونة على التقوى وإن كان المستشهد له مبطلا غير محق فما أحب أن يشهد له على شيء، ولا يدخل معه في سبب من الأسباب ولا يعينه في باب من الأبواب لأن البعد من الفاسق فريضة والمجانبة له قربة.

(1/342)

وقلت: هل يأثم الرجل إذا نسي بعض شهادته، فلم يذكرها والتبس عليه الأمر فلم يدر كيف هو، فالقول في ذلك عندي أنه إذا نسي الشهادة ولم يدر ما كان شهد عليه أن الوقوف عما التبس أفضل وأصلح إلا أن يكون معه شهود عدول قد شهدوا على الشهادة التي شهد عليها، فيذكرونه ويوقفونه على الأمر حتى يفهمه فإذا كان ذلك جاز له أن يشهد.

وقوله: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل، وهذا في الرجل إذا كان مريضا وجب على وليه أن يسأله عما عليه ويكتبه، وقد يدخل في قوله: لا يستطيع أن يمل هو أن يكون ضعيف الفهم يغلب عليه العي والعجز، فيكون وليه يقوم لفظه ويثبت ما ألقا إليه من كلامه.

وقد قيل: إن معنى فليملل وليه: أي ولي الحق والمطالب به، يملي حقه ويذكر ماله على غريمه، وذلك وجه حسن جايز، وقد ذكر أن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وكان الكاتب فيهم قليلا فنهاهم الله أن يتضاروا كل هذه معاني مؤتلفة يشهد بعضها لبعض حسنة ليس فيها عن الحق مخرج، ولا عن الصواب معدل.

ومن سورة آل عمران:

(1/343)

وسألت: عن قول الله عزوجل: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل عن هذه الآية جدي القاسم صلوات الله عليه، فقال: المحكمات من كتاب الله هن كما قال الله أمهات، وهن البينات منه والواضحات التي لا اشتباه فيهن ولا فيما حكم به من حكمهن والمتشابه: فهو ما احتمل المعاني المختلفات ولم يدرك علمه إلا بالذكر والدلالات، وأقل ما يجب فيما أسسه من ذلك الله سبحانه على من سمعه التسليم والعلم بأنه تنزيل من الله الحكيم لا تناقض فيه ولا اختلاف ولا تقصير ولا إسراف، وفيه قول آخر، قوله: آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، فقال: المحكمات، كما قال سبحانه: هن أم الكتاب، والمحكمات فما صحت حجته في الألباب والأم من كل شيء فهو البين من علمه غير الخفي، والأم فأمهات العلوم كلها وأنور ما يكون من العلم عند أهله.

وكذلك الكتاب: فمحكماته هن غير الشك أمهاته التي لا يشتبه على عالمهن فيهن علم ولا يدخل في الاحاطة بهن شك ولا وهم، ولا يحتاج في البيان عنهن إلى إكثار ولا تطويل بل تنزيل الله كاف فيهن من التأويل كقوله سبحانه: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، و لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وقوله سبحانه: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وقوله سبحانه: إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.. فهذا وأشباهه من كتاب الله فهو المحكم الذي ليس فيه بمن الله شبهة ولا وهم.

(1/344)

وأما متشابه الآيات من الكتاب: فلا يكون أبدا إلا متشابها كما جعله رب الأرباب، فليس يحيط غيره بعلمه ولا يكلف أحدا العلم به وإنما كلف العلم بأنه من عند ربه، كما قال سبحانه: والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب، فجعل الإيمان به والعلم بأنه من عند الله فريضة عليهم في متشابه الكتاب، ولو كان من عند غير الله بالاستخراج معلوماً لما كان متشابها في نفسه ولا مكتوما ولزال عند علم الإخفاء والتشابه بما يوجد له من المخارج في العلم والتوجه، ولما قال الله سبحانه متشابها عند من كان به جاهلاً في تشابه كتاب الله وإخفائه وما أراد بذلك سبحانه من امتحان كل يحجوج وابتلائه أعلم العلم وأحكم الحكم عند أهل العلم والحكمة، وأدل الدلايل عند الله في الأشياء كلها من القدرة والعظمة.

وسألت: عن قول الله سبحانه: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد، فقلت: هل تقرأ بالتاء، أو بالياء، وهي تقرأ بالتاء.

وسألت: عن قول الله سبحانه: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، فقلت: ما الفئتان? قال محمد بن يحيى عليه السلام: هما الفئتان اللتان التقتا يوم بدر كان المشركون فيما يقارب الألف إلا أمرا يسير ا، وكان المسلمون في ثلاثمائة وثلاثة عشر فنصرهم الله على المشركين وأظهرهم عليهم ومنحهم إكتافهم، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه في هذه الجماعة اليسيرة يطمع بالعير التي فيها أبو سفيان وبلغ ذلك قريشا فخرجوا في لقاء العير فالتقتوا حيث ذكر الله عزوجل حين يقول: إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى، فكان نصر الله لنبيه وللمؤمنين على جمايع الكفرين يومئذ من أكبر الدلالات والأيات في النصر والعون لمحمد صلى الله عليه وكان ذلك مما يشهد له بالنبوة، واللطف من الله والكفاية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم.

(1/345)

وسألت: عن قول الله سبحانه: والقناطير المقنطرة، وعن قوله: من أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل، فقلت: ما معنى ذلك، وما أراد بالقنطار? قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد أجاب في هذه المسألة جدي القاسم صلوات الله عليه، فقال: تأويل ذلك أن من أهل الكتاب من يستحل كل مال المسلم، يهودي أو نصراني ويقول: إن الأرض وما فيها من الله طعمة وتفسير القنطار، فقد يقولون: إنه الجبل الكبير لا يصله جبل والقنطار أيضا ما يتعارف الناس بينهم من الوزن.

وسألت: عن قول الله سبحانه: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل جدي القاسم صلوات الله عليه عن هذه المسألة، فقال: شهد الله أنه لا إله إلا هو وسؤال الملحدين فيها هل شهد الأسم أم المسمى، فقال: الشاهد هو الله المسما، والاسم فاسم الله وما لله فليس هو بالله وله الاسماء الحسنى والأسماء فعدد كثير غير واحد، والله المسما فواحد صمد لم يلد ولم يولد.

وسألت: عن قول الله سحبانه: وتقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس، فقلت: هل تقرأ يقاتلون، وقد قرأ بها حمزة وغيره والذي نراه ونقرأ به فهو ويقتلون.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة، فقلت: ما معنى هذا وهل يجوز للرجل إذا أكره أن يقتل إنسانا أو يشرب خمرا أو يأكل ميتة أو يركب فاحشة أو أن يفعل ذلك إذا خاف على نفسه، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا أحاطك الله نهي من الله عزوجل للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين والموالاة فهي المحابة والموادة والطاعة والمؤازرة فنهاهم الله عن ذلك وحظره عليهم.

(1/346)

ألا تسمع كيف يقول سبحانه: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، فإذا كان عزوجل قد حظر على المؤمنين ومنع الصالحين من موادة الأقربين إذا كانوا لله من العاصين فكيف لا يحظر ذلك على المؤمنين في من كان سواء هؤلاء الأقارب من العالمين فنهاه الله عن موادة الكافرين ومخالة الظالمين أهل الفسق من المتمردين الضالين المبعدين حطب جهنم هم لها واردون، ثم قال عزوجل: إلا أن تتقوا منهم تقاة يقول: إلا أن تخشوا من بلائهم وتوقنوا بإهلاكهم فتاقوهم بالألسن، وتداحوهم بالقول لا بيقين ولا اعتقاد ولا صحة ضمير ولا اعتداد فيكون اللسان مداحيا، ولضررهم دافعا، وتكون القلوب لهم مبغضة وعنهم متباعدة ولفعلهم قالية المتاقاة بالألسن لا بالفعال.

فأما إ أمر ظالم محقا بقتل رجل مسلم فحرام عليه أن يفعل أو إمرأة بزنا فذلك أيضا لا يجوز له فعله ولا يسعه عند خالقه ولا يحل له إتيانه فكلما كان مما يضطر إليه أهل الظلم والعصيان من قتل أو أكل ميتة أو شرب خمرا أو ارتكاب لمعصية بفرج أو يد فلا يجوز لمسلم أن يجيبه إلى ذلك وكل ما كان باللسان مما في القلب غيره، فجايز عند البلاء، ومكنه الأعداء ليدفع بذلك ما يحاذر من الردا.

وسألت: عن قول الله سبحانه: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين، فقلت: ما معنى الإصطفا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الإصطفاء يرحمك الله فهو الإختيار والتفضيل على غيرهم، بما اختصهم به من الرسالة والإبلاغ والقيام بالحجة والإجتهاد مع فضلهم وطاعتهم لله وإيثارهم لأمره وبعدهم عن معصيته صلوات الله عليهم ورحمته وبركاته.

ثم الجزء الثاني:

(1/347)

وسألت: عن قول الله سبحانه في ما يخبر عن إمرأة عمران في قولها: رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم، قال محمد بن يحيى عليه السلام معنا قولها: إني نذرت لك ما بطني محررا إني أسلمت وخلصت ذلك لك وفي عبادتك لا أشغله بشيء من خدمتي ولا أدخله في شيء من أعمالي، وذلك أن هذه الكلمة كان يقولها الصالحون وينذرونها أن يسلموا أولادهم ويفردوهم لطاعة ربهم ولا يشغلوهم بشيء من خدمتهم إذ الوالد لا يستغنى عن خدمة ولده وقيامه فأرادت بذلك إني أسلمته وأفردته لعبادتك ولا أشغله بشيء من أمري، فهذا معنا قولها: إني نذرت لك ما بطني محررا.

وسألت: عن قول الله سبحانه في يحيى صلوات الله عليه، فقلت: ما معنا الحصور حين يقول: وسيدا وحصور ا، قال محمد بن يحيى عليه السلام الحصور، فهو الذي حصر نفسه عن النساء فكان صلى الله عليه هو الذي قد حصر نفسه عن ذلك، وقد يروى عن النبي صلى الله عليه أنه قال: لا حصر بعد يحي ولا سياحة بعد عيسى، ومن رغب عن سنتي فليس مني عليكم بالمساجد«.

وسألت: عن قول زكريا: رب اجعل لي آية يقول عند الحمل بيحي والخلق له فجعل الله عزوجل آية ذلك سكوته وانقطاع الكلام منه ثلاثة أيام إلا رمزا والرمز: فهو الإشارة والإيما، إلى ما أراد فلما قر يحيى صلوات الله عليه في بطن أمه امتنع الكلام من زكريا فكانت هذه آية ودلالة عند خلقه وتكوينه ليحيى صلوات الله عليهما.

(1/348)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ويكلم الناس في المهد وكهلا، فقلت: هل كان متكلما صغيرا وقد كان صلوات الله عليه يتكلم في مهده فكان من كلامه في مهده آيتان عجيبتان أحداهما إثبات لنبوته ومعجزة ظهرت له إذ الاطفال لا يتكلمون في المهد فعلم الخلق جميعا أن الكلام لم يكن من عيسى عليه السلام إلا بإنطاق الله له، وأن تلك حال لا ينالها أحد إلا بعون الله له فيها وإقداره عليها، والثانية: فيرائه لأمه الطاهرة المطهرة من قول اللبس وما تكلم به فيها أهل البغي والرجس.

وسألت: عن الخبر الذي بلغكم عن يحيى صلوات الله عليه، أن اليهود لما أن طلبوه دخل في الشجرة فلحقوه فنشروه بالمنشار، وقد كثرت في ذلك الأخبار، واختلف فيه المحدثون، فأما الذي نوقن به ونصححه فإنه صلى الله عليه، لما أن وصل إلى الاكانع يدعوهم إلى الله سبحانه كان فيهم ملك جبار عنيد، فلما أن كان ذات يوم وهو يدعو الخلق إلى الله ويحضهم على طاعته ويقيم عليهم حجج ربه إذ جازت عليه مرة على فرس ذات جمال وهيئة قاصدة إلى الملك فقيل ليحيى عليه السلام: إن هذه إمرأة يفسق بها هذا الظالم، وهي تختلف إليه للفجور فوثب إليها صلوات الله عليه فرماها بالحصا، قال: يا عدوة الله تجاهرين بمعصية الله فوعظها مع كلام طرحه عليه السلام لها، فلما أن دخلت على ملكهم دخلت غضبانة. فسألها عن خبرها فأخبرته بفعله وامتنعت عن الوقوف عنده والانبساط إليه حتى يقتل لها يحيى صلوات الله عليه فأرسل الطاغية فنشره بالمنشار طلبا لرضائها وتغييرا لما كان من فعله بها ولإنكاره الفاحشة عليها فلم يمنع الطاغية أجد من أهل ذلك الدهر منه.

(1/349)

ولم ينكر فعله عليه فأقام دمه عليه السلام يغلى على الأرض دهراً فلما أن ثار بختنصر وظهر على البلد، قال: ما بال هذا الدم الذي يغلي، فقيل له: إنه على ما تعاين منذ دهراً وحين فاعلموه بالسبب، فقال: إن لهذا الدم لأمرا وشأنا فلأقتلن جميع أهل البلد به، فأقبل يقتلهم على الدم، والدم يطفح على دمائهم ويغلي حتى قتل مائة ألف إلا واحدا والدم على حاله يعلوا على الدماء ويغلي على حاله، فقال: اطلبوا فقيل له لم يبق أحد من القوم فأمر بالطلب فلم يزالوا يطلبون حتى وجدوا رجلا مندجحرا في غار فضربوا عنقه على الدم، فلما أن قتل سكن الدم، عند كمال مائة ألف، فهذا ما صح بن خبره صلى الله عليه.

وقلت: لم لم ينجه الله كما نجا عيسى، واعلم حاطك الله أن الله عزوجل كان قادرا على أن ينجيه وغيره ممن قتل من الأنبياء والصالحين، ولكن جعل ذلك سبحانه لنبيه محنة ليكافئه بها ويجزيه عليها ويعطيه فيها الثواب العظيم والمحل الكريم، وكان ذلك على فاعله به وزرا وعذابا وهلكة ودمارا فعوض الله نبيه جنانه وأعظم له الأجر في ما ناله وانتقم له ممن قتله بالإهلاك لهم في الدنيا والآخرة، فهذا غاية ما يكون من النصفة والنعمة والعطية.

وأما عيسى عليه السلام فإن الله عزوجل قد جعل له مدة وحكم له ببلوغها فمنع الخلق من اخترامه دونها والله سبحانه يمتحن ويتيب ويعطي كلا على قدر ما امتحنه به، وذلك فأبين العدل، وقلت: هل كان يحيى بعد موسى عليهما السلام أم قبله ولم يكن إلا من بعد موسى صلوات الله عليهما، وذلك موجود في كتاب الله عزوجل إذ يقول: وكفلها زكريا، ويقول: هنالك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء، فوهب له يحيى ومريم عند زكريا، كافل لها وعيسى فإنما كان من بعد موسى بأربعمائة سنة صلى الله عليهما.

(1/350)

وسألت: عن القراءة في قصة مريم عليها السلام في قول الله سبحانه في قوله: فانتبذت، فقلت: هل تقرأ بالذال، وهي تقرأ بالذال فانتبذت وقوله: إن الله يبشرك، فقلت: هل تقرأ بالتشديد أم بالتخفيف وهي تقرأ بالتشديد، وقد نفذ إليكم مصحف على القراءة الصحيحة فما شككتم من هذه وشبهه اعتمدتم على ما تجدون في المصحف بحول الله وقوته، وقد رأيت أكرم الله عن النار وجهك في كتاب مسائلك الأولى مسائلا لك تسأل فيها عن اختلافنا فأعلمتك بالوجه كيف هو وأن ليس ثم اختلاف بل الأمر على غاية الائتلاف لأن الأصول واحدة متفقة حلالها واحد وحرامها واحد، وقد يقع الاختلاف في الشرح والتبيين وكل يأتلف إلى أصل ويجتمع إلى كلمة حق والشرح، فيزيد وينقص ويكثر ويقل.

وقد فسرت لك ذلك تفسيرا جيداً شافياً فيمسائلك الأولى ظننت أنكقد اجتزيت به فرددت في كتابك مسائلك هذا من ذلك أطرافا فدل ذلك على أنك لم تستجز بما شرحت لك وبينت والعربية أكرمك الله متسعة ومثل الإختلاف في الشرح، والتبيين وكل بأتلف إلى أصل ومجتمع إلى كلمة حق والشرح فيريد وينقص ويكثر ويقل.

وقد فسرت لك ذلك تفسيرا جيدا شافيا في مسائلك الأولى ظننت أنك قد اجتزيت به فرددت في كتاب مسائلك هذا من ذلك أطرافا فدل ذلك على أنك لم تستجز بما شرحت لك وبينت والعربية أكرمك الله متسعة ومثل الاختلاف في الشرح والاصل واحد كمثل الجمل، فقايل: يقول اشتر جملا وآخر يقول: بازلا، وآخر يقول: بعيرا والمرجع كله إلى جمل لا يختلفون فيه، وإن اختلفت الاسماء والصفات، وكذلك أصلنا واحد في الحلال والحرام، واللفظ والكلام يختلف والمرجع إلى أصل وثيق فلما رأيتك تكثر في هذا ولا تجتزي حسبت أن يقع في قلبك ما يحيرك وتأثم فيه عند ربك لأن الظن بأهل الحق لا يجوز فرأيت أن أكتب لك كل ماوجدنا في مسائلك مما قد أجاب عليه القاسم رحمة الله عليه بلفظه مستوفا.

(1/351)

وكذلك ما أجاب عليه الهادي إلى الحق صلوات الله عليه أجبتك عليه بلفظه مستوفا ليكون أسلم لقلبك من الحيرة والشك إلا أن تنسا مسألة أو تسهو فيها فيكون ذلك نسيانا لا تتعمده وإنا لنعلم أن في المسائل التي نسخنا لك عنهما مما لم يجيبا به واجتزينا باليسير المقيم للحجة عن الكثير المفرع دقايقاً وزيادة في الشرح لم يقع في الكتب حفظناها من لفظ الهادي إلى الحق صلوات الله عليه وأداها إلينا عن القاسم عليه السلام من لحقنا من ولده فدعانا إلى ترك شرحها لك معرفتنا بأن ذلك الشرح ليس عندكم ولم يصل في الكتب إليكم فخشينا عند ذلك إن شرحناه لكم أن تنسبونا إلى الاختلاف تارة أخرى.

وقد أعلمتك في مسائلك الأولى أنه لا يحل ولا يجوز لمن أراد الفايدة والعلم أن يسيء الظن ولا ينسب إلى المخالفة، فلكل مسألة جواب وشرح وأوقات يظهر ذلك فيها وأوقات يغمض إلا ما لابد منه ودهر يعمل فيه بالقليل لشره أهله والخوف لظلمهم والتعدي منهم لقلة معرفتهم، وعلى قدر الإمكان والقدرة يجب إقامة الحجة وفي دون ما ذكرنا لك كفاية غير أنه قد يحدث في الكتب من الكتَّاب فساد بالزيادة والنقصان والتصحيف فكل ما وجدتم في كتبنا مما هو يتفاوت في أصول الحق فنعوذ بالله أن يكون منا وإنما ذلك مزيد، ومكذوب علينا.

ولقد وجدت في كتب الأحكام التي وضع الهادي إلى الحق صلوات الله عليه بابا مزيدا عليه منسوبا إليه ما وضعه قط ووجد هو أيضا رحمة الله عليه كثير، فما وجدتم من ذلك فليس منالانا جميعا متبعون لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وليس في ذلك تناقض ولا تفاوت ولا نقصان بل ذلك مؤتلف بأحق الحقائق وأبين البيان فعلى ما قد فرعت لك فليكن عملك.

(1/352)

وأعلم أن الله عزوجل يقول في كتابه والذين اهتدوا زادهم هدا وآتاهم تقواهم وأن الله يوفق أهل هذا المقام لأسباب غامضة وأمور على غيرهم مزيحة ويشرح صدورهم ويعطيهم من التأييد والعون والتسديد مالم يعطه أحدا غيرهم، وذلك على نحو ما كلفهم وجعل من حاجة الناس إليهم أو لست ترا أنك إذا كان لك عبدان فوجهت أحدهما في حوائج، وحملته رسائلا وأقمته مخاطبا احتاج منك إليهم والتعليم إلى ما لا يحتاج إليه الآخر الذي لم توجهه، ولا يجوز إلا ذلك وإلا كنت قد ضيعت إذا أرسلت عبدك في أسباب لم توقفه عليها، ولم تبين له بالشرح أمرها كذلك الله سبحانه عزوجل إذا أقام عبدا من عبيده وأمره في خلقه خصه بالتوفيق ومنحه منه الفايدة والتسديد مع شرحه صدره وتقويم أمره بأشياء لم يعطها غيره لحال قيامه وعلمه عزوجل بحاجة الناس إليه.

والله سبحانه الموفق لمن قصده والمعتز لمن أطاعه إن الله لا يضيع أجر المحسنين، قال الله سبحانه: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما.

والتسليم: للحق وقبول الصدق من أعظم الديانة، نسأل الله لنا ولكم الثبات على طاعته والتوفيق لمرضاته وأن يشرح صدرك ويثبت على الحق أمرك وله وبه يهدي قلبك وأنت والحمد لله ولي واحد في الله نرجوا أن يهدي الله بعنايتك جماعة من الخلق حتى ما يأتلفوا بعون الله على الحق فليكن ذلك أكثر همك فهو أفضل الأشياء، وأقربها عند الله لك فقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه أنه قال لأمير المؤمنين: ؛يا علي لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم«.

35 / 47
ع
En
A+
A-