وسألت: عن عالم حكم بحكم فأخطأ فيه ثم علم بعد ذلك فعليه أن يرجع عن حكمه، ولا ينفذ على خطائه، فإن ذلك أقرب إلى الرشاد، والحق والسداد، وقلت: إن فات الأمر في ما حكم به ولم يقدر على استرجاعه، فإن كان مثل والٍ أو حاكم للإمام أخطأ في قتل إنسان أو إقامة حد لم يتعمد فيه ظلما ولا جورا مثل رجل شهد عليه أربعة شهود بالزنا، وكان فيهم ذمي فأمضى الحاكم عليه الحد، ثم نظر فإذا في الشهود ذمي فهذا من خطأ الولاة، لأنه كان ينبغي أن يسأل عن دينهم وعن عقولهم فدية هذا المقتول من بيت مال المسلمين، أو مثل سارق فقطعه وكان مجنونا ولم يعلم الحاكم حتى أنفذ الحكم فهذا خطأ منه لأنه كان يجب عليه أن يسأل عن عقله وأمره شيئا شيئا حتى يقف منه على الصحة فدية من بيت مال المسلمين.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها الآية، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا أمر من الله سبحانه للمؤمنين في إتيان البيوت من أبوابها وتأديب لهم، وذلك لما أمرهم الله عزوجل بالاستئذان على أهل البيوت قبل دخولها، وقبل فتح أبوابها كانوا يرون أن إتيانها من ظهورها أقرب لهم إلى الله فطلبوا بذلك الفضل فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بإتيانها من أبوابها، من بعد أن يستأنسوا ويسلموا على أهلها.

(1/328)

وسألت: عن قول الله سبحانه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم الآية، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا أمر من الله عزوجل للمؤمنين بترك الظلم والاعتداء والاخذ بالحق في جميع الاشياء وأن يفعلوا ما أطلق لهم سبحانه فعله ولا يتعدوا إلى غيره، مثل ذلك ظالم تعدا فقطع يد رجل، فقد جار عليه وظلمه وله أن يفعل به مثل ما فعل سواء، وليس له أن يقطع يديه ولا يقتله كما يفعل سفهاء من الناس فقد رأيناهم ربما جرح أحدهم جرحا فيقتل فيه من جرحه.

ومن التعدي أيضا: أن يجرح إنسان إنسانا فيستوفي من غيره من ابن عمه أو إبنه أو قرابته كما تفعل البادية والاعراب، وهذا من الظلم البين، ولذلك قال سبحانه: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، فأراد عزوجل أن يؤخذ من الظالم القصاص ويكافأ بعينه لا يؤخذ بجرمه غيره، وفي ذلك ما يقول سبحانه: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصور ا، فأراد عزوجل بقوله: فقد جعلنا لوليه سلطانا الإذن والحكم منه لولي المقتول أن يقتل قاتل قريبه.

(1/329)

ومعنى: فلا يسرف في القتل، فهو: أن لا يقتل نفسين بنفس ولا يقتل من لم يقتله ولم يتعد عليه فقد أسرف في القتل وصار ظالما بتعديه محكوما بالقتل عليه، ومن قتل من أولياء المقتول قاتل قريبه فهو مصيب وعند الله غير مذموم وذلك قوله سبحانه: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، يريد عزوجل ألا تتعدوا بفعل لم يفعل بكم مثله، وهذه الآية التي استشهدناها فإنما نزلت في أمر حمزة رحمة الله عليه، وذلك أنه لما مثلت به قريش قال رسول الله صلى الله عليه: ؛لئن أمكنني الله من قريش لأمثلن بسبعين رجلا منهم « فأنزل الله سبحانه: وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين، وطلب ما عند الله من الأجر والثواب، ومعنى ما سألت عنه من قول الله عزوجل: وجزاء سيئة سيئة مثلها فهو ما تقدم إليكم شرحه.

وسألت: عن رجل يحرق بيت رجل، فقلت: هل يجوز له أن يحرق بيته، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إن كان بيته مثل بيته فكافأه فذلك له، وإن كان في بيته من المتاع والآلات أكثر مما كان في بيت الأول فلا ينبغي له أن يتعدا وأحب إلي من مكافأته بالاحراق، وأقرب إلى الحق والسداد أن يأخذ قيمة بيته، وما أفسد عليه من أثاثه، وقد يكون من الأفعال ما لا يجوز فيها مكافأة مثل ظالم يشي برجل ويكذب عليه عند سلطان جاير، فلا يحل لمسلم أن يكذب عليه ولا يشي به، ومثل فاسق يفضح حرمة رجل ويهتك سترها فلا يحل له أن يهتك حرمته ولا يعصي الله كما عصاه الفاسق، ولكن إن قدر عليه كافأه في نفسه بما جعل الله عليه من الحكم في ما فعل وليس ينبغي لأحد أن يكافي بمعصية الله ولا يدخل فيها إن كان عارفا بالله، وإنما يفعل ذلك الكافرون ويتقحم فيه المتمردون الذين حقت عليهم كلمة العذاب وصاروا بفعلهم إلى شر مآب جهنم يصلونها وبئس المهاد.

(1/330)

وقد سألني: رجل من إخوانك عن قول الله سبحانه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، فقال: هل يجوز لمن ظلم أن يجهر بالسوء وأن يفعله فقد فسر بعض المفسرين أن ذلك جايز له فكان جوابي له أنه ليس الأمر في الآية، ولا التفسير لها إلى حيث ذهبت ولا إلى ما ذهب إليه المفسر لها على ما شرحت بل ذلك منه خطأ. وعند الله سبحانه غير صواب، وإنما معنى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم فهو إن الله سبحانه لا يحب الجهر بالسؤ من القول ولا يجيزه لفاعله بل يعاقبه عليه، ويأخذه فيه إلا من ظلم، ومعنى إلا من ظلم، فهو مثل ما كان من مردة قريش وفعلهم بأصحاب النبي صلى الله عليه حين كانوا يعذبونهم ويضربونهم ويأمرونهم بشتم النبي صلى الله عليه كما فعل بعمار وصاحبه حين أخذا وأمرا بشتم النبي صلى الله عليه والبراءة منه، ومن دينه ففعل عمار وكره الآخر فخلوا عمارا وقتلوا صاحبه فكان هذا جهرا بالسوء من القول.

ثم عذر الله فاعله، فقال: إلا من ظلم بالتعدي عليه بالضرب والهوان والعرض على القتل فقد أطلق له عند ذلك أن يتكلم بلسانه ما ليس في قلبه ولا اعتقاده وفيهما يقول الله سبحانه: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم.

فأخبر الله عزوجل أنه من كفر به معتقدا لذلك، فعليه غضب من الله ومن تكلم بظاهر من الأمر خوفا على نفسه وقلبه مطمئن بالإيمان غير كافر، بالرحمن فهو غير مشرك ولا عاص فكانت هذه الآية مبينة لما في ضمير عمار من الشح على الإيمان والصدق في المثال، فلم يجز لأحد أن يتكلم بقبيح إلا أن يظلم فيتكلم بلسانه ما يدفع عن نفسه مما ليس من اعتقاده ولا من مذهبه.

(1/331)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولا تقربوهن حتى يطهرن، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا أمر من الله عزوجل للمؤمنين ودلالة على ما هو رشد لهم وإزكا عنده، ومعنى: قوله: لا تقربوهن حتى يطهرن فهو لا تدنوا منهن، والدنو: فهو الجماع حتى يطهرن، ومعنى يطهرن فهو يتطهرن بالماء، من دنس الحيض وأوساخه، وقلت: هل أراد بالتطهير إنقطاع الدم أم قال محمد بن يحيى عليه السلام والذي أراد به عزوجل انقطاع الدم والغسل لأنه لا يقع طهارة إلا بعد الغسل لما كان من الدرن والإنقا بالماء لما كان غير طاهر.

وقلت: إنه روي عن جدي القاسم صلوات الله عليه أنه فسر ذلك وأجاز للرجل أن يغشى زوجته إذا نقيت من الدم وإن لم تغتسل وهذا مما قد زيد على القاسم عليه السلام، ومثله: كثير قد كذب عليه، وقد شرحت لك ذلك في المسائل المتقدمة كيف أمر الزيادة، والنقصان وكيف يقع ومن أين أتا، وفي ذلك غنا والقول فيه عندنا وما نرويه عن سلفنا صلوات الله عليهم أنه لا يحل جماع الحايض حتى تغتسل بالماء ولزوجها عليها الرجعة، إذا طلقها من قبل اغتسالها بالماء.

فإذا اغتسلت بالماء وعم بدنها وجرى على بشرتها في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها، وهي أولى بنفسها منه إلا أن يكون لم يطلقها غير هذه التطليقة التي خرجت من عدته فيها فإذا كان ذلك فله أن يراجعها برضا منها ومهر جديد وولي وشهود، وهو في نكاحها بعد خروجها من عدتها كسائر الرجال، فإن كان قد طلقها ثلاثا فلا رجعة له في التطليقة الثالثة في حيض ولا طهر حتى تنكح زوجا غيره، وليس يجوز لها أن تنكح في التطليقة الثالثة حتى تخرج من العدة وتستبرئ رحمها في هذه المدة التي جعلها الله سبحانه عليها، ولها النفقة عليه لأنها في الاستبراء من مائه وليس لها سكنى لا رجعة له عليها، وإنما تكون السكنا للتي عليها لزوجها الرجعة إذا أحب ذلك في العدة.

(1/332)

وقد رأينا بعض الرجال إذا طلق إمرأته أول تطليقة أو ثانية أخرجها من منزله غضبا عليها، وربما غضبت المرأة أيضا عند طلاقها فتخرج من المنزل ولست أرى ذلك لهما بجايز، ولا يحل لمسلم ولا مسلمة أن يفعلا ذلك لقول الله سبحانه: يآ أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

فقال: سبحانه: ولا تخرجوهن أمرا للرجال جزما، ثم قال عزوجل: ولا يخرجن، فأمرهن عزوجل لا يخرجن، ثم قال: في آخر الآية، وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه.

فأخبر سبحانه أنه من تعدا حدود الله، وما أمر به فقد ظلم نفسه وظلمه لنفسه فهو ما كان من تعديه لأمر ربه وإذا فعل ذلك فقد استوجب العقوبة، وباستيجابة العقوبة فقد ظلم نفسه إذ أوقعها في التلف والمهالك، وقد كان يجد إلى غير ذلك سبيلا ومؤئلا يسلم به من العقاب وينال بعون الله كريم الثواب.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل عن هذه المسئلة جدي القاسم بن إبراهيم رحمه الله، فقال: لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم لا تكثروا الحلف بالله في كل حال وعند كل مقام ووقروا الله وأجلوه عن أن تجعلوه عرضة لأيمانكم، وإن أصلحتم بين الناس وإن أردتم بأيمانكم الاصلاح.

وسألتم: عن قول الله سبحانه: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: أراد عزوجل بما ذكر من الأربعة أشهر والعشر تبصرة منه عزوجل لعباده بعدة المتوفا عنها زوجها وعدتها، فهي كما قال الله سبحانه أربعة أشهر وعشر وتربصها فهو توقفها عن الأزواج إلى انقضا عدتها.

(1/333)

وقلت: حاطك الله عن السوء إن جهلت عدتها حتى مضت عدة من دهرها كيف تفعل، ولم تفسر جهلها، كيف كان ولا على أي معنى وقع فإن كنت أردت بجهلها أنه مات في بلد ولم تعلم بموته إلا بعد سنة أو أكثر فقد قال في ذلك بعض المتفقهين أنه لا عدة عليها، عند علمها لأنه قد أتا عليها من المدة من حين توفي زوجها ما قد أخرجها من عدتها، وهذا يرحمك الله قول مدخول محال لا يفعله من له علم وفهم، ولكن نقول في ذلك أنها تعتد من يوم وصل بها الخبر ولا تنتظر إلى المدة التي وقعت بين موت زوجها، ووصول خبره، بها لأن الله عزوجل فرض عليها في عدتها فروضا من ذلك ترك الزينة والطيب وإظهار الجزع والحزن والتشعث، ولكن تعتد من يوم وصل بها الخبر أربعة أشهر وعشرا.

وإن كنت أردت بجهلها أنها لم تعلم أن عليها عدة لموت زوجها فتزوجت من ساعتها، وقبل انقضاء عدتها فالنكاح فاسد باطل يفرق بينها وبين زوجها وتعتد أربعة أشهر وعشرا، ثم تنكح وعليها التوبة إلى الله والاستغفار مما جاءت به من خطيئتها وقبيح فعلها، ولو أن مرة علمت أن النكاح في عدتها لا يجوز لها ثم نكحت وعلم الزوج أيضا أنها في عدتها، وأن نكاحها لا يجوز له في عدتها فاجتريا على النكاح في العدة وكان ذلك في عصر إمام لوجب عليه أن يقيم الحد عليهما وينفذ حكم الله فيهما وإن لم يكن في عصر إمام وجب على المسلمين أن ينكروا عليهما في فعلهما ويغيروا ما أتيا به من عظيم جرمهما لأن الله سبحانه يقول تعاونوا على البر والتقوى، والتغيير على هذين من البر، والتقوى والرشد والهدى.

(1/334)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله: موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هؤلاء قوم من بني إسرائيل هربوا أيام وقع فيهم الطاعون بما كان من فعلهم ومخالفتهم لخالقهم ففروا عند ذلك من الموت فظنوا أن الأمر إنما نزل بهم في ذلك البلد وأنه لا يلحقهم إلى غيره فلما أمعنوا في الذهاب وظنوا أنهم قد نجوا أماتهم الله عزوجل مرة واحدة، ثم ذكَّرهم ما أراهم من قدرته وأنه لا مفر منه ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ثم أحياهم تبارك وتعالى من بعد ذلك.

وقلت: هل يجوز للرجل أن يفر من البلد الذي يقع فيها الطاعون والأمراض، وقد روي في الطاعون رواية عن النبي صلى الله عليه أنه قال: لا تدخلوا عليه ولا تفروا منه، وأما الأمراض فينبغي للرجل إذا دخل بلدا وبيَّا ذا سدم أن يتجنبه ويخرج منه ولا يغرر بنفسه، فإن الله عزوجل قد جعل لعباده عقولا يميزون بها ما فيه لهم من الصلاح والسلامة، فلا ينبغي لعاقل أن يتلف نفسه بركوب المهالك.

وسألت: عن قول الله سبحانه: يآ أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون، قال محمد بن يحيى عليه السلام هذه دلالة من الله عزوجل للمؤمنين على ما فيه الصلاح لهم والنجاة في آخرتهم وإخبار لهم بما في الآخرة من الهول والشدة فأمرهم أن ينفقوا مما رزقهم الله في سبيل الخير، وما يثابون عليه ويكافؤن فيه من الإنفاق في سبيل الله والمعونة على أمر الله وذلك قوله سبحانه: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون.

(1/335)

ومن النفقة أيضا على المساكين وأبناء السبيل، وفك الرقبة المسلمة وصلة الرحم والرأفة بالأيتام والصلة لأهل الضعف من الأنام، فكل هذا مما تزكو فيه النفقة وتعظم فيه من الله العطية، وأمرهم سبحانه بالإنفاق في هذه الأبواب من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة وهو حضور القيامة حيث ينقطع البيع والشرى واللهو والعبث والخلة والشفاعة لأن أهل هذه الدنيا يتخالون فيها ويتخَّربُون ويتعاونون ويشفع بعضهم لبعض إذا نزلت بهم نازلة، والآخرة، فلا تخَّرب فيها ولا تعاون على ظلم ولا شفاعة لمبطل لأن ذلك يوم توضع فيه موازين القسط، ويحكم فيه الجبار، وتتضح فيه الأسرار، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وكل مشتغل بنفسه مأخوذ بذنبه ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحد ا، الأخلاء يوميئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.

وقد يكون أيضا من البيع ما ذكر الله عزوجل حين يقول: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعد الله عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن ومن أوفا بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم، فيبثاعون بأفعال البر ما جعل الله من العطا والنعيم، وذلك قوله: إن يقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم فإذا فرط في هذه المفرطون في الدنيا لم يجدوافي الآخرة سبيلا لأن الآخرة دار الجزاء وليس فيها لأحد عمل عليه يعطا.

(1/336)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الذي حاج إبراهيم في ربه أن أتاه الملك وهو النمرود، ومحادثته له فهي محادتته إياه وإنكاره ما جاء به من الحق ودعا إليه من الصدق، حتى كان محاورة إبراهيم صلى الله عليه للطاغية ما قد سمعت حيث، قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت فقال له الكافر: أنا أحيي وأميت فيروى أنه جاء برجلين فقتل أحدهما وأبقا الآخر، فقال: قد قتلت واحدا وأحييت واحدا، فقال له إبراهيم صلى الله عليه فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر عند ذلك.

وانقطع كلامه ومعنى أتاه الله الملك هو إعطاه الله وإيتاؤه الملك إبراهيم ومعنى إيتائه فهو حكمه له به فلما أن بعثه الله عزوجل إلى الخلق داعيا و إلى الحق هاديا كان صلوات الله عليه متبوعا لا تابعا وأمرا لا مأمورا ملكه أمر الخلق ونهيهم إن أطاعوه أصابوا حظهم ورشدوا في أمرهم فكان الأمر والنهي لإبراهيم بحكم الله والملك له خالصا، فكان حاله في مخالفتهم له وبعدهم عنه كحال من أعطى شيئا وولي عليه فاغتصبه غيره فانتزعه من يديه، والمالك له المغضوب بتمليك مالكه له والغاصب ظالم لا ملك له،قال الله سبحانه في مثل ما قلنا: الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور.

(1/337)

فقال الذين إن مكناهم في الأرض فذكر تمكينه لهم في الأرض جميعا، وقد رأينا أنبياء الله وأولياءه لايملكون من الأرض إلا يسير ا، وإنما أراد عزوجل الذين حكمنا لهم بها ومكناهم من ولايتها وأمرناهم بالقيام فيها وإذا حكم تبارك وتعالى لعبد من عبيده بذلك فقد مكنه منها وأمره فيها وليس اغتصاب الظالم وظلمه لهذا المحق بمزيل ما جعل الله له من التمكين لا حجة على جمعهم لله سبحانه يأخذهم لمخالفته ويعاقبهم علي مناوأته وترك نصرته، والقيام معه، فلما أن عاقبهم في مخالفتهم له كان الممكن في أمرهم والمحكوم له بطاعتهم والمفوض إليه أمرهم صار المحكوم له بالارض الواجبة طاعته المفروض إتباعه.

وأما ما ذكرت واحتججت به في قول الله سبحانه: وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، فقلت: إذا آتاه الله ذلك فكيف تجوز مقاتلته وإنما يخرج تفسير وآتيناه في هذا وفي غيره على ثلثة وجوه. منها: الإملاء وترك إزالة ملكه فلما أن كان عزوجل يقدر على أن يذهبه ويزيله فتركه جاز أن يقول آتيناه على مجاز الكلام وهذا من لغة العرب صحيح تتعارفه بينها إذا ترك أحدهم عقوبة مفسد عليه، قال: أنا أمرتك بالفساد وطرقت لك إليه يريد بترك المكافأة وإنما خاطبهم الله بلغتهم.

والوجه الثاني: فهو خلق الله عزوجل للتبر، فلما أن أوجده ملكه قارون فجاز أن يقول الله سبحانه آتيناه أي لو لا خلقنا له ما وجده فكان هذا ذما لقارون إذ استعان بنعم الله وإحسانه على معاصيه ولم يؤد فيه ما أمر بتأديته فالله عزوجل جعل هذه الأموال وخلقها لمصالح عباده ولأهل طاعته فاستعانوا بها على معصيته وما حال الكنوز إلا كحال الماء والطعام والزرع والنعم التي أنعم الله بها على خلقه، فاستوى فيها البر والفاجر لكمال النعمة، وإقامة الحجة أفيقول قائل أن بإطعام هذا الكافر واسقاية الماء يلحق الله عزوجل في ذلك ذم بل ذلك إقامة حجة وإبلاغ في المعذرة وإكمال في النعمة.

(1/338)

ألا تسمع كيف يقول سبحانه: أفرأيتم ما تحرثون أئنتم تزرعونه أم نحن الزارعون أفرأيتم الماء الذي تشربون أئنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، فذكر تبارك وتعالى أن هذه الأشياء وأمثالها منه نعمة وحجة على الخلق وإيتاؤه إياهم فإنما هو منه عزوجل إيجاده وخلقه ولولا أنه سبحانه أوجده وخلقه ما وجده أحد ولا انتفع به.

والوجه الثالث: فهو لما أن كان الملك لا يقوم إلا بالخيل والرجال، والعدة والسلاح والأموال والمماليك وكانت هذه الأشياء خلقها الله عزوجل وأوجدها خرج اللفظ على إيتاء هذه النعمة للذي هي معه بخلق الله لها، وذلك تبكيت له وتقريع بخطاياه وقلة شكره على ما أفضا إليه مما جعله الله عونا على طاعته فصرفه أعداؤه في معصيته كما قال سبحانه: زينالهم أعمالهم والله لم يزين لهم عملا، وإنما أراد أنه أملا لهم وأخر العقوبة عنهم.

فأما أن يكون عزوجل أعطا أهل الظلم ملكا أو حكم لهم به فالله من ذلك برئ سبحانه وجل عن كل شأن شأنه، وكيف يقول بذلك قايل والله سبحانه يقول: لا ينال عهدي الظالمين، ويقول: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله وباليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتو الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ويقول أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون، فكل ذلك يأمر الله سبحانه بقتل المبطلين وقتالهم ويوجب الجنة في جهادهم ويعذب من تخلف عن حربهم فليس أحد يقول بغير ذلك إلا كان مخالفا، ولما جأبه الكتاب مجانبا، وقد توضح في ذلك ما فيه كفاية لك وكاشف لما التبس في قلبك والله، ولي عونك وتوفيقك.

(1/339)

وقد قيل: إن النمرود عليه لعنة الله لما فلجه إبراهيم صلوات الله عليه، وقطع حججه وبهره بالآيات العظيمة التي جاء بها فلم يبق له كلام ولا حجة كان آخر قوله: لعنة الله عليه عند القهر له وثبوت الحجة عليه وعلى من معه هل يستطيع ربك أن يقاتلني فقد طالت الحجة بيني وبينك وليس إلى ما تطلب من سبيل إلا بغلبة فهل إلى ما سألتك من قتال ربك سبيل أو يقدر علي أو له جند ينتصر بهم مني فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم صلى الله عليه: أن عده طلوع الشمس غد ا، فقال له إبراهيم عليه السلام: فإن ميعادك في ما سألت طلوع الشمس غد ا، فبات الملعون يجمع عساكره ويؤلف جمايعه حتى أصبح وقد حشد خلقا عظيما لا يحصى، ثم أرسل إلى إبراهيم حين أصبح فدعاه، فقال: يا إبراهيم أين ما وعدتني.

فقال له عليه السلام: أتاك الأمر مع طلوع الشمس، فلما طلعت الشمس طلعت متغيرة لا يبين ضؤها، فقال: يا إبراهيم ما بال الشمس اليوم، فقال له: إنه قد ذهب بنورها كثرة الجند الذي وجههم الله إليك، وأنه عزوجل قد أرسل عليك أضعف جنده وهو الفراش، ثم غشي الملعون وأصحابه الفراش، فعلق يدخل أنافهم وأذانهم فكلما دخل في رأس واحد منهم شيء منه قتله، والملعون ينظر إلى ما نزل به وبأصحابه من الأمر العظيم الذي لا حيلة لهم فيه، حتى إذا فنيوا وهو ينظر دخلت في رأسه واحدة من الفراش، فاقبلت تأكل دماغه، وهو ينطح برأسه الجذر، حتى هلك على شر حال، فهذا ما ذكر من خبره وروي من أمره.

وسألت: عن قول الله سبحانه: أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل و أعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون.

(1/340)

قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا مثل ضربه الله عزوجل لعباده وبين به لخلقه، ألا تسمع كيف يقول وأصابه الكبر وله هذه الجنة المغنية الكافية على كبره ثم يصيبها من بعد ذلك إعصار فيه نار فتحترق من بعد كمالها وجودتها مع كبر سنه وضعفه وقلة استفادته من بعد ذهابها وله ذرية ضعفا، يقول: أطفال صغار لا ينفعونه ولا على شيء مما نزل به يعينونه فيكون بهلاكها هلاكه وهلاكهم فبين الله لهم بذلك وضرب لهم الأمثال به لما فيه من الهلكة من بعد الغنا، كذلك من ترك حظه من الله ومما أعد لأوليائه من بعد المقدرة علي الوصول، فقد أهلك نفسه من بعد أن قد استمكن طريق النعم، وأخذ الصراط المستقيم، وصار إلى الآخرة بأشر حال، لا مستعتب له ولا نعيم ولا خير ولا سرور فبعدا لمن ظلم وتعدا وترك الحق عناد ا، فهذا معنى المثل، وما أراد الله به عزوجل.

وسألت: عن قول الله سبحانه: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، قال محمد بن يحيى عليه السلام: قد سئل جدي القاسم صلوات الله عليه عن هذه الآية، فقال: المس هو اللمم، واللمم فهو الخبل وأما التخبط فما يعرف من خبط المتخبط والغشيان من خارج لا من داخل كما تعلم مقاتلة المقاتل وإنما مثل الله تبارك وتعالى أكلة الربا إذا قبلوا وينظر إليها رباهم وما زجرهم الله عنه من الربا ونهاهم وأمرهم بالبيع الذي فيه إربا، وإنما هو أخذ بالتراضي وأعطا فقالوا: إنما البيع مثل الربا، فشبهوا ما لم يجعل الله مشبها فشبهوا الحرام بالحلال والهدى فيه بالضلال فمثلهم الله في ذلك لمام عليه من الجهل، بما يعرفون عندهم انقض النقص من أهل الجنون والخبل.

34 / 47
ع
En
A+
A-