وأما الحديث الذي يروى أن الله سبحانه يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها فذلك صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وهو موجود في كتاب الله عز وجل فالأمور العالية من الأفعال التي يحبها الله فمنها الجهاد في سبيله ومنها الإنفاق في سبيله، ومنها إطعام المساكين والرفق بالأيتام والمستضعفين ومنها الزجر عن معاصي رب العالمين وصيانة النفس عن مجالسة السفهاء والترك لطريق الأرديا وهي كثيرة لو عددنا وشرحناها لطال شرحها وقليلها يدل على كثيرها وهو مجْزي عن شرح آخرها قال الله سبحانه: وليكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن النكر وأولئك هم المفلحون، فذكر أنهم إذا قاموا بهذه الصفة أنهم من المفلحين.

ثم قال: ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين، فحمد من قال ذلك ودعا إليه وأثنى الله سبحانه عليه ثم قال: والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما، فهذه الأفعال السنية التي أثنى الله على فاعلها ومن الأخلاق المحمودة عند الله عز وجل كظم الغيظ وحسن العفو والمكافأة بالحسن على القبيح قال الله سبحانه: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.

(1/316)

قال رسول الله صلى الله عليه وآله؛ليس الفضل أن تعطي من أعطاك ولا تبر من يرك ولا تصل من وصلك ولكن الفضل أن تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتبر من عقك، ويروى عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: ؛إن حَسَن الخلق لينال بحسن خلقه درجة الصالحين ومن الأفعال مثل هذا كثير والأفعال المذمومة فضد ما ذكرنا من الأفعال المحمودة فإذا ضادتها فقد صار فاعلها من المذمومين وعند الله من المعاقبين وبالسوء من المعلنين قال الله سبحانه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول وقال سبحانه: إنا كفيناك المستهزءين وقال عز وجل: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون فذمهم سبحانه على ترك التناهي عن المنكر، وأما الحديث الذي يروى في الملح فلا نعرفه ورسول الله صلى الله عليه وآله فلا يهب شيئا ثم يرجع فيه هذا حديث باطل لا يصح عنه عليه السلام وعلى آله السلام.

وسألت: هل يجوز أن يحكم الحاكم بحكم ثم يرجع عنه قال محمد بن يحي عليه السلام: ذلك جايز إذا كان حكما فيه خطأ أو ظلم فالواجب على من له دين أن يرجع عنه لأنه ربما حكم الإنسان في المسئلة قبل أن يفهمها ثم يتدبرها فإذا القول الأول خلاف فقوله فيرجع إلى الحق وربما سها الحاكم ودهش في الحكم ثم يتبين له رشده فيرجع إلى الحق وذلك من أفعال المؤمنين وربما تناظر الرجلان عند الحاكم فيكون أحدهما أخبث والقن بالحجة من الآخر فيحكم له ثم يتبين له بعد ذلك أن المناظر له ضعف عن الحجة ولم يقم بها وأنه مظلوم ويصح له ظلمه فهذا بما يرجع فيه وقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ؛أيها الناس إنه يحتح عندي الرجلان منكم فيكون أحدهما القن بحجته فأحكم له بما أسمع ولست أعلم الغيب فلا يقولن أخذ باطلا بحجته حكم لي رسول الله صلى الله عليه وآله إنما أقطع له قطعة من جهنم«.

(1/317)

وسألت: عن الحديث الذي يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ؛أعيدوا الوضوء مما مست النار ولو من ثور أقط، قال محمد بن يحي عليه السلام هذا حديث قد رواه بعض العامة في ما مست النار وليس هو عندي صحيحا عن النبي صلى الله عليه وآله لأن النار إن لم ترده طاهرا لم تنجسه وكيف يكون هذا صحيحا والوضوء بالماء المسخن جايز فلو كان مامست النار يقطع الصلاة لكان ما مسته أجدر وأحق ألا يتم به وضوء وهذا حديث مدخول وقد رووا أيضا أصحاب هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله أتى بكف شاة مشوي فأكله وهو متوضي ثم قام فصلى فهذا دليل على تناقض أخبارهم غير أنا نرى ونستحب لمن أكل طعاما ما كان أن يعيد الوضوء وإنما استحببنا له ذلك لاشتغاله عما تطهر له من صلاته والله سبحانه يقول في كتابه: ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وإيديكم فأمر عز وجل بالطهور عند القيام إلى الصلاة ولم يأمر بأكل و الإعادته بعد الأكل أحوط وأفضل وعليه نعتمد وبه نأخذ.

وسألت: عن معنى قول رسول الله صلى الله عليه وآله صلاة العشاء إذا سقط نور الشفق، قال محمد بن يحي عليه السلام: إنما عني عليه وعلى آله السلام صلاة العشاء إذا سقط الشفق يعني العتمة وهو وقتها عند مغيب الشفق.

وسألت: عن الحديث الذي روي عن حكيم بن حزام أنه قال: بايعت النبي ألا أخِرَّ إلا قائما، قال محمد بن يحي عليه السلام: يمكن أن يكون حكيم أراد بذلك قائما على الحق لا أزول عنه حتى أخر ومعنا آخر أي أموت والعرب تسمي الإنسان إذا هو ساقط خر على وجهه أي سقط على وجهه وتقول لكل شيء منتصب يسقط إلى الأرض قد خر وسقط والله عز وجل يقول ويخرون للأذقان سجدا وإنما أراد يخرون على الأذقان بالسجود، وقد يمكن أن أراد أيضا بقوله ألا أخر إلا قائما يقول ألا أولي ظهري لعدو ولا أبرح في مقامي حتى ألحق بالله.

(1/318)

وسألت: عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله في قوله: ؛أقروا الطير على مكناتها المكن موضع الطير« فقلت هل حظر النبي صلى الله عليه وآله أخذ الطير في الليل والنهار، قال محمد بن يحي عليه السلام: لا أعرف الحديث على هذا النسق أقروا الطير على مكناتها ولكن قد يروي أن رسول الله صلى الله عليه وآله نهى عن أخذ الطير في أوكارها فأما الطير الذي يطير بالليل ويوجد على المياه فلا بأس بأخذها، وأما ما سألت عنه من الغنا بالقرآن فهذا شيء لايحل فعله ولا يجوز لأحد إتيانه ولكن قد رخص رسول الله صلى الله عليه وآله في التحزين بالقرآن وترحيع الصوت فيه والتحسين، وأما الحديث الذي روته العامة عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال تغنوا بالقرآن وإنما أراد استغنوا به عن سواه كما يقول القائل تغانيت تغانيا يريد بذلك استغنيت.

وسألت: عن قول الله سبحانه: وأذنت لربها وحقت قال محمد بن يحي عليه السلام: معنى أذنت لربها فهو أذنت بربها ومعنى بربها فهو أذنت بأمر ربها وحقت فهو حق الأمر بها ووقوعه وما حكم الله عز وجل به من تعييرها ولما أن كان تعبيرها بأمر الله سبحانه قال لربها كما قال سبحانه: وجاء ربك والملك صفا صفا وإنما أراد وجاء أمر ربك مع الملائكة المنفذين له فقل جاء ربك وإنما أراد أمر ربك.

وسألت: عن الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ؛من أدخل فرسا بين فرسين فإن كان يؤمن أن يسبق فلا خير له فهذا حديث لا نعرفه ولا سمعنا به عنه إلا أن يكون على معنى لم تبينه فأما سباق الخيل فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله يفعله يسابق بين الخيل والإبل والرجال وكان يقول صلى الله عليه وآله شيآن تحضرهما الملائكة السباق والرمي بالنبل.

(1/319)

وسألت: عن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله في قوله: ؛لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر«، قال محمد بن يحي عليه السلام: هذا حديث لا نعرفه وليس يقول بهذا إلا حشوية الناس ومن لا علم له وقد كانت العرب تسب الدهر تنسب الأفعال التي تنزل تهم إليه فليس له فعل، وإنما ذلك منهم على حد الجهل.

وسألت: عن الحديث الذي يروى عن عائشة في الرضاع وهذا أيضا حديث لم نسمع به عن النبي صلى الله عليه وآله وليس هو بصحيح والرضاع فقد ذكره الله سبحانه في كتابه فقال: وامهاتكم الاتي أرضعنكم وأخوانكم من الرضاعة، وهو يحرم من الرضاع مايحرم من النسب وفي الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه رأى رجلا يمشي بين المقابر بنعلين فنهاه عن ذلك وقلت هل يكره المشي بالنعل بينها، قال محمد بن يحي عليه السلام: هذا حديث أيضا ليس بصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا بأس بالمشي بالنعل بين المقابر وإنما يكره وطئها فأما بينها فلا بأس به.

تم الجزء الأول:

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرت أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الوجهة، فهي الملة والشريعة ثم قال عزوجل: فاستبقوا الخيرات فيما تعبدون به واستباقهم فهو العمل به والمواظبة عليه ومن الخيرات أيضا ما أعد الله في الجنة من العطا الجزيل، والثواب الكريم الذي أعده سبحانه للمؤمنين وخص به أولياءه المتقين.

وقوله: يأت: بكم الله جميعا فهو في حشره، لهم عزوجل وجمعه إياهم من حيث كانوا إلى موقفهم وموضع مجاراتهم، وقد قيل: إن الوجهه هي القبلة، والقول الذي قلنا به فيها، فهو الصواب عندنا، وقلت: هل يقرأ هو مولاها وليس تقرأ بذلك وإنما يقرأ هو موليها.

(1/320)

وسألت: عن قول الله سبحانه: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشون، قال محمد بن يحيى عليه السلام: معنى لئلا يكون للناس عليكم حجة، فليس لأحد في حكم الله ولا أمره حجة، ولا فيما تعبد به قول ولا معارضة، ومعنى قوله عزوجل: إلا الذين ظلموا منهم، فهو: ولا الذين ظلموا منهم، ولم يرد بقوله: هاهنا استثناء وإنما أراد به النسق فليس لهم أيضا حجة، لأن الله تبعد خلقه ويأمرهم بما كان لهم فيه طاعة، فقال: إلا الذين ظلموا فخرج ظاهر اللفظ يثبت حجة.

والعرب: تطلق هذا في كلامها، وهو في كتاب الله عزوجل فيوجد كما قال سبحانه: لا أقسم، وإنما أراد ألا أقسم، فطرح الألف، وهو يريدها، والعرب تثبتها في الشيء، وهي لا تريدها كما قال تبارك وتعالى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين، وإنما أراد وعلى الذين لا يطيقونه، فطرح لا وهو يريدها وإنما أراد سبحانه لئلا يكون للناس عليكم حجة، إلا الذين ظلموا، فأثبت الألف وهو لا يريدها.

وقوله: عزوجل: فلا تخشوهم واخشون فالخشية: قد تكون من الأذية والكلام والبسط، والقتال فأمرهم الله ألا تخشوا الخلق ولا تهابوهم، ولا تدارون الظلمة ولا في الله سبحانه تناقونهم، وأن يكون خشيتهم لله سبحانه وقصدهم إياه، والطلب منهم لرضاه.

وسألت: عن قول الله سبحانه: أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، قال محمد بن يحيى عليه السلام: اللعنة من الله لهم فهو عذابه إياهم، وإخزاؤه لهم واللاعنون، لهم فهم الملائكة والنبيون وكل من أطاع الله من جميع عباده المؤمنين فهم لهم لا عنون لمخالفتهم وكثرة مضادتهم لدين خالقهم فلعنة الله وغضبه عليهم.

(1/321)

وسألت: عن قول الله سبحانه: ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداد ا، قال محمد بن يحيى عليه السلام: الأنداد فهم الأنداد في الطاعة يطيعونهم ويوجبون طاعتهم على نفوسهم كما تجب طاعته عزوجل على المؤمنين ومعنى يحبونهم فهو يودونهم ويعظمونهم، ومعنى: كحب الله، فهذه الآية إنما خاطب الله بها محمدا صلى الله عليه، وأخبر والمؤمنين بفعل الظالمين، فقال في المشركين: إنهم يحبون الأنداد كما تحبون أنتم الله أوأشد حبا، أراد بقوله: أشد أنهم في استبلاغ على غاية المحبة والمؤمنون شديد مبحتهم حسنة طريقتهم خالصة مودتهم قاصدون لله سبحانه بعملهم، وإنما أخبرهم الله بكفر الكافرين وما هم عليه من الشرارة، والعتو والمراده.

ألا تسمع كيف يقول سبحانه: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم، فأمرهم الله عزوجل ألا يسبوا أصنامهم، ولا ما اتخذوا جهلا وعما لعبادته فيسبوا الله سبحانه عدوا وجرأة وجهلا، إذ هم عندهم في التعظيم كرب العالمين في صدور المؤمنين ومن عظمه من المتقين، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولو يرى الذين الظالمون إذ يرون العذاب، فقلت: كيف تقرأ، بالتاء أم بالياء، وهي تقرأ بالياء.

وسألت: عن خطوات الشيطان المنهي عنها، فهي أفاعيله، الردية وأعماله المخالفة، فنهاهم الله عزوجل عن إتباعها والميل إليها لما فيها من الهلكة والبعد من الله سبحانه في الآخرة، نسأل الله الثبات على طاعته والنجاة من عذابه بمنه ورأفته.

(1/322)

وسألت: عن قول الله سبحانه: فما أصبرهم على النار، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا تبكيت من الله عزوجل لكفرة عباده وتقريع لقلة صبرهم على النار، فقال: ما أصبرهم على النار وهم لا يصبرون عليها. وكذلك تقول العرب للرجل في الشيء إذا لم يقوَ عليه وأيقنت بعجزه عنه، ما أقواك على كذا وكذا من طريق التقريع له بضعفه وقلة احتماله، وقد قيل: إن معنى ما أصبرهم على النار، أي ما أصبرهم على عمل النار الذي يهلكون به ويستوجبون العذاب بفعله فأقام النار مقام عملها.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر، قال محمد بن يحيى عليه السلام قال الله سبحانه: ليس كل البر تولية المشرق والمغرب من القبل التي أنتم تمارون فيها، ولكن البر: من آمن بالله واليوم الآخر، والملائكة والكتاب والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربا واليتاما والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتا الزكا والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون. فأخبر سبحانه يعنوان البر وما يصح لهم به الإيمان، ويكمل لهم به اسم البر والإحسان.

وسألت: عن قول الله سبحانه: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، فقلت: هل جمع الله القرآن كله من أوله إلى آخره في شهر رمضان أم أنزل أوله، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إعلم هداك الله وأعانك أن معنى قوله عزوجل: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، الله أنزل فيه القرآن على محمد صلى الله عليه فكان أول ما أنزل عليه في رمضان ثم كان ينزل عليه خمسا خمسا، وقد قيل إن سورا من القرآن أنزلت عليه جملة، ولست أقف على صحة ذلك، فلم نروه عمن نثق به.

(1/323)

ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه: وقرأنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا، قال: فرقنا، أي أنزلناه شيئا شيئا، والمكث: فهو المدة لأن التوراة أنزلت على موسى مرة واحدة مكتوبة في الألواح، وكان موسى عليه السلام يقراؤها ويفسخها، كذلك الإنجيل أنزل مرة واحدة على عيسى صلى الله عليه ومحمد صلى الله عليه كان أميا ليس يقرأ إلا على ظهر قلبه، فلو أنزل القرآن مرة واحدة في الألواح كما أنزلت التوراة والإنجيل، ومحمد صلى الله عليه فلم يكن يقرأ الكتب السالفة ولا يخط بيده، وعند كونه كذلك فلو نزل عليه مجملا في الألواح لاحتاج إلى من يقرأه عليه ويبينه ولو كان كذلك لوقع الشك والإرتياب إذ المعبر له غيره والمبين سواه.

ولو كان صلى الله عليه يقرأ ويكتب لكان الأمر كما ذكر الله عزوجل في كتابه من شك المبطلين، حين يقول وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون، فكان إتيان النبي صلى الله عليه بالقرآن المعجز للخلق وهو لا يكتب ولا يقرأ دلالة عظيمة وآية في نبوته باهرة، فأنزل الله عليه القرآن شيئا فشيئا لما أراد الله عزوجل من تدبيره وحكمته وتثبيته في قلبه فجعله للخلق شفا ونورا وهدى وجلا للصدور ومبينا لما التبس من جميع الأمور، فلن يضل من تعلق به، ولا يتحير أبدا من استضاء بنوره، نسأل الله أن يجعله لنا ولكم نورا وهدى وشافيا ومعينا برحمته.

وسألت: عن قول الله سبحانه: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون، فقلت: كيف يعرف العبد إجابة الدعوة إذا دعاه، وطلب منه فلم ير قضاء حاجته، قال محمد بن يحيى عليه السلام: إن الله عزوجل كما ذكر من قضاء حوائج خلقه وأجابة دعائهم إذا دعوه واطلايهم عند مسألتهم، وأوان فاقتهم.

(1/324)

ألا تسمع كيف يقول: فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعاني، ثم أخبرهم عزوجل من الذين إذا دعوه أجابهم، فقال: فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون، فأخبرهم تبارك وتعالى أنهم إذا استجابوا له وآمنوا به أجاب دعائهم وسمع طلبهم، فإذا لم يكونوا كذلك فليس هم ممن يجاب له دعوة ولا تقضا له حاجة، وكلما نالهم من نعمة فهو إملاء.

والإستجابة لله سبحانه: فهي الطاعة والعمل بما أمر به والإنقياد إلى ما افترضه والتصديق بأمره ونهيه، والمعرفة بتوحيده وعدله، فبذلك يصح للعباد الإيمان به ويستوجب الاجابة لدعوته، فإذا كان العبد كذلك عرف إجابة الدعوة، فيما سأل، وقد يسأل العبد الله أمرا أو يطلبه منه، وتكون الخيرة له في غيره، فيكون يجنبه إياه نعمة عليه وإحسانا إليه، فإذا تعقب العبد الأمر فيما دعا إلى الله فيه وأنصف نفسه يبتبين الله له الخيرة والرشد حتى تتضح له الخيرة في الإجابة فيما طلب لأن الله سبحانه يقول: عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

فإنما يطلب العبد من الله عزوجل الطلبه التي يرجو فيها لنفسه صلاحا أو فرجا ويعلم الله عزوجل أن له في ذلك الشر والغم، ولا يعرفه هو فيكون قد استجيب له في صلاح نفسه وما تقر به عينه وصرف عنه ما لو أعطيه لكان له فيه الحزن والغم والأذا، والهم ومن الصالحين من يسأل في السبب الذي يعلم الله عزوجل أن له فيه صلاحا فيجاب فيه كثيرا رأينا ذلك غير قليل.

(1/325)

وقلت: قد وعد الله سبحانه أنه يجيب وإنما وعد بذلك المسلمين، ألا تسمع كيف يقول عزوجل: أجيب دعوة الداعي إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون، فأخبرهم أنه يجيبهم إذا استجابوا له وآمنوا به ولقد أولاهم سبحانه وأعطاهم أفضل خوائجهم وأكبر مرادهم وما يضل فيه ومعه جميع مطالبهم من صحة الجوارح وعافية الأبدان فهذه أكبر النعم عليهم وأجزل العطايا لهم، ولو أن عبدا دعا الله سبحانه أن يرزقه واديا من تبر فرزقه إياه ثم ابتلاه بضَرَبَانِ بين عينيه أو عرق من عروقه لسأل الله أن يعافيه من ذلك ويفتدي الألم بذلك الوادي ومثله أضعافا لو كان له فأي نعمة أو إجابة أعظم أمرا من العافية والصحة، وأي عطاء أجزل من عطاء لا يتمنا به غيره، فأما ما كان يطلب به غيره فهو سهل عند صاحبه قريب عند مالكه، وكثير من الخلق يسأل الله السبب، ويستخيره فيه فإذا رفعه عنه بخبرة له في دفعه أغتم لذلك وغضب لقلة معرفته.

وقد ترون في بعض مسائل موسى عليه السلام التي سأل ربه عزوجل أنه قال يا رب أي عبادك أشر عندك قال: يا موسى الذي يتهمني قال يا رب ومن يتهمك، قال الذي: يستخيرني فإذا اخرت له غضب، فكثير رحمك الله من رأيناه يدعو إلى الله سبحانه بالسلامة في دينه ودنياه والخلق كلهم على ذلك يسألون الله السلامة والعافية.

(1/326)

ثم يسألونه من بعد ذلك الحوائج، فتكون فيما يسألون مما لا يعرفون أشياء هي لهم عند نفوسهم موافقة، وقد علم الله عزوجل فيها لهم البلا، والغم والأحزان لو وقعوا فيها فيدفعها عنهم لمسألتهم الأولى السلامة والعافية، ولا جابه إياهم في ذلك فيعدون ذلك نقمة، وإنما هي نعمة وخيرة، ولو كشف لهم عن قبيح ما ينزل بهم فيما سألوا لأكثروا الدعاء إلى الله سبحانه في الصرفعنه وليس نبغي لأحد أن يتهم الله عزوجل في الدعوة وأن ينتظر عند دعائه ومسألته، إذ لم ير ما دعا فيه فيرجع إلى نفسه، فإن كان لله مطيعا فليوقن بأنها خيرة أو سلامه لدينه ودنياه علم الله منها مالم يعلم فصرفها عنه لضرها له وإن كان عاصيا فليعلم أنه ليس له عند الله منزلة فتستجاب له دعوة لأن قول الله سبحانه الحق وما وعد فهو الصدق عز وتعالى علوا كبير ا.

وسألت: عن قول الله سبحانه: ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام، قال محمد بن يحيى عليه السلام: هذا أمر من الله عزوجل لجميع من عرفه وقبل أمره ونهيه ألا يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ولا ينفقونها في ما لا يرضي الله ولا يستعينون بها على معصيته وأن يفعلوا فيها ما أمرهم به من طرق الصلاح مثل الزكاة والصدقة والإنفاق في السبيل وصلة الرحم وما كان من سبل الطاعة لله فيه رضا ولديه لمن فعله جزاء.

وقوله سبحانه: وتدلوا بها إلى الحكام، فهو ما يفعله الناس الآن وما هم عليه من رشوة الحاكم والعطا حتى يحيف معهم على المحكوم عليه فيسلم إليهم عند ذلك ما لم يملكوه ولا بحق أخذوه، وقد رأينا أشرارا من الناس على القضاء فيتحاكم إلى الحاكم منهم رجلان فيكون مع أحدهما سعة وجدة فيرشى الحاكم فيحكم له على الآخر الفقير ويظلمه ويتعدا عليه، فيأخذ ما لا يملك بحكم ظالم مسترشي حكم له بما لا يملكه فقد أدلا بماله إلى هذا الحاكم الظالم، وأكل به أموال الناس جورا وظلما وتعديا وغشما، فهذا معنى الآية.

(1/327)

وقلت: متى يجوز للحاكم أن يحكم بين الناس وبما يحكم فيجوز له أن يحكم إذا علم فأيقن باضطلاعه بما يدخل فيه فإذا علم ذلك وجب عليه أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله ولا يتعدا ذلك، وإذا كان حاكما فلا يحل له أن يفتي خصما دون حضور خصمه ويتحرز من ذلك فإنه لا يجوز له ولا يسعه عند الله فعله.

33 / 47
ع
En
A+
A-