قال في منهاج القرشي : قالوا لو كلف العوام والنساء بهذه الأصول والإستدلال عليها بالأدلة الغامضة ودفع الشبه مع علمنا أنهم لم يفعلوا , لوجب أن يقضى بكونهم كفاراً , ويجري عليهم أحكام الكفرة , ومعلوم خلافه.
قلنا: لم ندّع أنهم كلفوا ما كلفه المبرزون , وإنما كلفوا جملة يسيرة وأدلتها مقررة في عقولهم وعجزهم عن التعبير عنها لا يدل على أنهم غير عالمين بها , فإن كثيراً من العقلاء يعلم مالا يحسن العبارة عنه , إلى آخر كلامه في المنهاج .
وحكى الإمام عزالدين (عليه السلام) عن الحاكم أنه قال في شرح العيون أصحاب الجُمل من يعرف الله تعالى بصفاته وعدله والنبوات والشرائع جملة لا على سبيل التفصيل , ويعلم ذلك بالأدلة نحو أن يعلم أن العالم محدث لأنه لا يخلو من الحوادث , وله محدِث لأن المحدَث يحتاج إلى محدِث لأجل حدوثه , كما أن أفعالنا تحتاج الينا لأجل حدوثها , وهو تعالى قادر لصحة الفعل منه , إلى آخره .
وقال الإمام عزالدين (عليه السلام) في شرح قول صاحب المنهاج: فكل عاقل قد أُخِذ بتحصيله , وكلف العلم بجملته وتفصيله , أي بجملة هذا الفن وتفصيله , أما الجملة: فلا كلام في ذلك لأن العلم بالله وصفاته جملة واجب معين على كل مكلف.
وأمَّا التفصيلي: فهو إما واجب أو مندوب , والمندوب مما كلفنا به ويعد تكليفاً على خلاف فيه , والأصح عدم وجوب التفصيلي وأن أصحاب الجُمل الذين يعتقدون الحق بطريق صحيح على وجه الجملة ناجون إن شاء الله تعالى .
وقال الإمام يحيى بن حمزة (عليه السلام) فإن صاحب الشريعة كان يقبله – يعني معرفة الله الجملية – من الأعراب ولو كلفهم العلم اليقين لعجزوا عن إدراكه لقصور أفهامهم.
قال الإمام عزالدين بعد نقله لهذا الكلام : وهو القريب من أحوال من ذكره من الأعراب والعبيد والنساء أو أكثرهم.
قلت: وهذا تساهُلٌ من الإمامين عليهما السلام لأن ظاهر كلام الإمام يحيى (عليه السلام) أنه يكفي المعرفة الجملية ولو تقليداً , ويقابل هذا التساهل تشديد الحاكم الذي نقله الإمام عزالدين في المعراج بقوله : كان الحاكم قد ذكر في شرح العيون أنه ما من عاميّ إلا ويمكنه ان ينظر في الدقائق ويعلمها , قال : وذلك يظهر في معاملاته وأفعاله فإن عاميّاً لو اشترى كوزاً واشترى غيره كوزاً مثله فقال البائع للعامي كوزه بدرهمين وقال للآخر بدرهم , لم يقبله العامي بل يقول هما من جنس واحد , والقدر واحد والوقت واحد والصفة واحدة , فالفضل لا بد أن يكون لأمر.
وقال أبو رشيد: إن جميع ما يتعلق بالحِجَاج يعرفه العامة , ثم علل بقريب مما علل به الحاكم , ثم قال : وليس الحجاج إلا هذا وإنما أشبه الأمر لأن العوام اشتغلوا بأمور أخر فحققوا في ذلك , ألا ترى أنهم يعرفون من الدقائق ما لا ينقص عن المسائل الدقائق.
ولا شك أن هذا تعسير وقريب من تكليف مالا يطاق , والحق ما قدمناه.