فاعلم: أن هذه المسألة من أعظم واكبر المسائل وعموم البلوى بها شامل وأنظار الأصوليين وكلامهم فيها متفاضل ونقل خلافهم وكلامهم ليس تحته طائل بل المطلوب معرفة الحق المؤيد بالدلائل وأقول أن معرفة الله جل جلاله واجبة على جميع المكلفين وهذا أصل لا يختلف فيه العلماء وأدلته قطعية عقلية وسمعية والمختار أن العوام تكفيهم المعرفة الجملية إذا حصلت لا عن تقليد بل بالأدلة القريبة إذ لا هداية لهم إلى تركيب وصناعة أدلة المتكلمين بل إذا عرفوا أن الله تعالى خلق العالم وأوجده من العدم وخلق الثمار والسحاب وأوجد الأمطار من العدم ونحوها من الأدلة القريبة الدالة على وجود الله تعالى وقدمه وقادريته وعالميته وأنه لا يشبه المخلوقين وعرفوا صدق الرسل وصدق ما جاؤا به من الشرائع وما في ذلك من الوعد والوعيد ونحو ذلك كفاهم ذلك ولا يلزمهم الخوض في دقائق الأصول ولا معرفة الغوامض ولا معرفة المشكلات لأنه قد حصل اليقين بالدليل القريب مع أن تكليف العوام بمعرفة دقائق علم الكلام قريب من تكليف ما لا يطاق وأنت تعرف أن الخلق في اختلاف أفهامهم مراتب فمنهم الذكي البالغ ذكاه إلى إدراك الرمزة واللحظة ومنهم المتوسط في الذكاء والفطنة ومنهم البليد بعيد الفهم الذي لايكاد يفهم الظواهر فكيف نكلف البليد بادراك مالا يفهمه ولا يتصوره ومن مارس التدريس حصل له معرفة ما ذكرنا فان بعض من لا يفهم الدقائق من الطلبة يزيده الدرس والممارسة بُعْداً عنها ويتخيلها غير ممكنة ويتخيل من بحث فيها قد أتى شيئا غير ممكن ولا معقول ومع تدبر كلام الأئمة الهادين عليهم السلام والعلماء المحققين من تصريحهم بإيجاب معرفة الله تعالى يعلم أن مقصدهم من معرفة الله تعالى هو معرفة توحيد الله تعالى بصفاته الإثباتية ونفي ما يجب أن ينـزه عنه من صفات النقص لا عن تقليد وبها يحصل برد اليقين ولهذا وضعوا المختصرات الصغيرة في الأصول وصرح بعضهم أنها كافية في معرفة الله تعالى مثل بعض موضوعات الإمامين القاسم والهادي عليهما السلام المختصرة ومثل موضوع الإمام المنصور بالله (عليه السلام) الذي وضعه للمبتدئين ومثل العقد الثمين للأمير الحسين (عليه السلام) وليس في هذه المختصرات شيءٌ من تراكيب الأدلة المطولة ولا من تعليلات المتكلمين ولا من الإشكالات الغامضات بل هي مبنية على تفهم الحق بالأدلة القريبة ثم أن الأمير الحسين وصنوه الإمام الحسن عليهما السلام وغيرهما من الأئمة الهادين والشيعة الأكرمين قد صرحوا بأنه لا يلزم المكلف معرفة تفاصيل الإرادة بل يكفي الإيمان الجملي بان الله مريد وكاره وأنت تعرف أن مسـألة الإرادة من أشد المسائل وأعظمها ولهذا تخبط فيها المدققون من المعتزلة وكثر زللهم وزلل غيرهم فيها فقل لي كيف نكلف العامي بتحقيق مسألة الإرادة ؟ وهل إرادة الله مراده على قول أئمتنا عليهم السلام ؟ أم هي علمه باشتمال الفعل على مصلحة ونهيه علمه باشتمال الفعل على مفسدة ؟ وهل هي الداعي أو الصارف ؟ وهل الإرادة أمر زائد على الداعي ؟ أم إرادة الله عرض لا في محل على حد وجود الله لا في محل ؟ فإذا كانت هذه أقوال أهل العدل فما بالك بتكليفه بإشكالات غيرهم وتمييز الصحيح من السقيم والدليل الشائل من السليم القويم.
ثم أنَّا نظرنا في أحوال الصحابة في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ثم من بعده ثم في أحوال التابعين ثم من بعدهم إلى أن ظهرت علوم المعتزلة والأشاعرة وغيرهم لم نجد للصحابة ولا للتابعين ولا لمن بعدهم ولا لآل محمد صلوات الله عليهم شيئاً من هذه الدقائق المشكلات ولا خاضوا في تلك الغمرات بل قد حكا كثير من العلماء انه لم يكن للصحابة ولا لمن بعدهم خوض ولا بحث في دقائق صفات العلي الأعلى حتى خاض فيها بعض المعتزلة.
فقل لي هل يعقل العامي تفاصيل مقالاتهم في الصفات ؟ هل هي أمر زائد على الذات ؟ أم هي أحوال ؟ أم مزايا ؟ أم معاني كما تقول الأشاعرة ؟ أم هي ذاته كما تقوله الأئمة عليهم السلام؟
وهل يعقل هذه الدقائق ويعقل دلالة كل قول ؟ وإبطال الباطل وإقرار الحق بدليلة ؟
وهل الأولى أن نقول أنه يكفي العامي ما كفى القرون الأولى من إثبات صفات الله تعالى له ونفي ما يجب نفيه وتنـزيه الله تعالى عنه ؟
وأنت خبيرٌ أن الصحابة ما عرفوا فلسفة المتفلسفين ولا الجدال العقيم بل معتمدهم العقل والقرآن وكان فيهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعده أمير المؤمنين (عليه السلام) وما عرف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصيه شرعا لهم تراكيب الأدلة الفلسفية ولا المقدمات والقياسات المنطقية وإنما كانت الدلائل عقليه أو نقليه.
فإن قلت: ما كان في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم أحد ممن يتفلسف ولم تدخل الفلسفة إلا من بعد.
قلت: الشارع حكيم وعالم بما سيكون فلو كانت الفلسفة والإقناعات المنطقية طريقاً إلى تصحيح العقائد ولا تصح إلا بها لما سكت عنها ولا أغفلها لعلمه بحاجة الموحدين إليها ولكنه سبحانه عالم أن العقل والكتاب كافيان في الحجة وموضحان للمحجة وأيضا فان آل محمد صلوات الله عليهم منذ عهد الوصي الأعظم إلى بعد عصر الهادي عليهم السلام علومهم نقية وصافية بعيدة عن الفلسفات معتمدهم أدلة العقول وآيات الكتاب.
فإن قلت: أن نجم آل الرسول (عليه السلام) جارى الملاحدة بما قطعهم وهل ذلك إلا لمعرفته بعلومهم.
قلت: هو (عليه السلام) استعمل العقل الكافي ودلائل السمع فحصل له ما قطع به شغب المشاغب فتأمل لمحاورته في الرد على الملحد فإنما أورد دلائل العقل والسمع وان فرضنا انه عرف شيئاً من اصطلاحهم ليمكنه نقضه فهو جائز فهل يحكم ذو عقل سليم ودين قويم بهلاك من عرف الله سبحانه بمبادئ الأدلة القريبة بغير تقليد كأكثر الصحابة وأكثر التابعين الذين لم يعرفوا دقائق الأصول ولا مشكلاتها ولا تركيبات المتكلمين بل عرفوا الله سبحانه بالأدلة القريبة وحصل لهم من الخوف منه تعالى والخشية له ما لم يحصل للمتبحرين في الدقائق بل قد عرفنا من العوام الذين لم يعرفوا شيئا من دقائق الأصول لهم من الخوف من الله تعالى والخشية له ما ليس لبعض المتفقهين.