ثم استكثر عددهم فقال : ( وكم ذا ) , أي كم ذا القبيل وكم ذا الفريق.
ثم قال : (وأين أولئك) استبهم مكانهم ومحلهم، وقال: (هُمُ الأقلون عددا ، الأعظمون قدرا) ، ثم ذكر أن العلم هجم بهم على حقيقة الأمر وانكشف لهم المستور المغطى وباشروا راحة اليقين وبرد القلب وثلج العلم ، واستلانوا ما شق على المترفين ووعر عليهم نحو التوحيد ورفض الشهوات وخشونة المعيشة.
قال: ( وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ) , يعني العزلة ومجانبة الناس وطول الصمت وملازمة الخلوة ونحو ذلك مما هو شعار القوم.
قال: (وصحبوا الدنيا بأرواح أبدانها معلقة بالمحل الأعلى )، هذا مما يقوله أصحابنا الحكماء من تعلق النفوس المجردة بمادتها من العقول المفارقة , فمن كان أزكى كان تعلقه بها أتم.
ثم قال: (أولئك خلفاء الله في أرضه , والدعاة إلى دينه) , لا شبهة أنّ بالوصول يستحق الإنسان أن يسمى خليفة الله في أرضه , وهو المعنيُّ بقوله سبحانه للملائكة : )إني جاعلٌ في الأرض خليفة( [ البقرة – 30 ] , وبقوله: )هو الذي جعلكم خلا ئف في الأرض( [ فاطر – 39 ] .
ثم قال : ( آه آه شوقاً إلى رؤيتهم ) ، هو (عليه السلام) أحق الناس بأن يشتاق إلى ما هو من سنخه وسوسنه وطبيعته , ولما كان (عليه السلام) هو شيخ العارفين وسيدهم , لا جرم إشتاقت نفسه الشريفة إلى مشاهدة أبناء جنسه , وإن كان كل واحد من الناس دون طبقته .....إلخ .ولما استشكل أحد الإخوان العلماء كلام الشارح المحقق أرسل إلي بذلك الكلام السابق وطلب مني إجالة النظر فيه وإبداء ما عندي , فأسعدته إلى ذلك وطالعته , وعلقت عليه بما يلي :
( قال الشارح المحقق : قوله (عليه السلام) : العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة .... إلخ)، هذا الكلام له ظاهر وباطن فتفسير الشارح للظاهر صحيح ولا كلام لنا عليه ، وأما تفسيره للباطن بأنهم موجودون حقيقة لا مجازاً على قول من يقول ببقاء النفس.
فأقول: إعلم أن القائلين ببقاء النفس هم الفلاسفة وسنورد طرفاً من أقوالهم:
فعند أرطاطاليس وأتباعه أن النفوس البشرية محدثه ، وعند أفلاطون وأتباعه أنها قديمة، وقال أرطاطاليس وأتباعه: أن النفوس البشرية متحدة بالنوع .
ومن الفلاسفة من قال: أنها مختلفة بالهيئة والفلاسفة يفرقون بين النفوس والأرواح ويزعمون أن النفوس جواهر بسيطة متعلقة بالأبدان ويقولون أن الأرواح أجسام مركبة، وتقول الفلاسفة أن العدم ممتنع على النفوس وأنه يجوز العدم على الأرواح.