قول علي عليه السلام فإذا كانت لكم برآءة من أحد فقفوه حتى يحضره الموت، وهذا ويمكن تتبع المعاصي ومعرفة الصغيرة من الكبيرة بتتبع الكتاب والسنة، وليس لنا أن نقيس سائر المعاصي على ما ذكر آنفاً وعلى ما يساويه، وإن كانت كبيرة؛ لأن القياس لا يصح إلا بعد معرفة العلة، واستوائها في التخفيف والتغليظ، ومقدار الثواب والعقاب، مما أختص به الله وحده فهو عالم بما يستحقه العامل بالطاعة من الإجلال والتعظيم، وما يستحقه العاصي من الجزاء والتنكيل، واللعنة والغضب.
فلهذا قلنا: لا يصح القياس؛ لأنه متفرع على معرفة العلة واستوائها تغليظاً وتخفيفاً فلا طريق للحكم بالإحباط إلا الكتاب والسنة، فما علمناه من المعاصي محبطاً، الحقناه بما سبق آنفاً وإلا أعلمنا آية الموازنة، والتكفير وهما متقارنان.
وبهذا نجمع شمل الأدلة ونعملها ولا نهدرها فما علمنا كبره ولم نعلم بأنه محبط أرجعناه إلى آية الموازنة والتكفير مع إنا إذا قلنا: بالموازنة فقد قلنا بالإحباط، فمن كان أكثر ثواباً كان من أهل الجنة، وأذهبت الحسنات السيئات، ومن كانت سيئاته أكثر فقد أحبطت حسناته، وحكم عليه بالنار والخلود فيها أبداً، ومن كانت معاصيه صغيرة كفرت بجنب الطاعات أو الموازنة؛ لأن الثواب يكون سبباً للستر وعدم المواخذة على الصغيرة، والموازنة معناه الغلبة إما للطاعة وإما للمعصية، فإن كثرة الحسنات غلبت السيئات، والعكس بالعكس.
بعد هذا بقى علينا مناقشة بعض الأدلة، ثم نتكلم على الخلود ومعناه، ثم ننظر في أدلة القائلين بالخروج من النار ونناقشها.
نعم إذا قال من يدعي: أن كل عمد كبيرة ألستم قد قلتم أن الكبيرة ماورد الوعيد عليها؛ فإنا نقول بالموجب؛ فإن الله جلت قدرته وتعالى شأنه قد توعد كل عاص بالنار والخلود فيها، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}.
قلنا: هذه الآية عامة يدخل في عمومها المخطي والناسي والتائب، ومن استوت حسناته وسيئاته، والمجزي والكافر ومن أصيب بأنواع من البلاء؛ فإذا جاز لكم أن تخصصوا التائب والمخطي بموجب الدليل الدال على تخصيصهما وإخراجهما جاز لنا أن نخصص مقترف الصغيرة ومن كانت له حسنات كثيرة غالبة قاهرة للسيئات، ونحكم بأن الحسنات تحبط وتذهب السيئات، كما أن السيئات تحبط الحسنات، والكل منصوص عليه فلستم بأولى منا بالتخصيص؛ فإن قلتم بالأولوية تحكمتم، أوليس الله يقول: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} ويقول سبحانه: {إِلاَّ اللَّمَمَ} ويقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} كما يقول: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} ويقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ويقول: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}ويقول: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} فقل لي بربك أيها القائل بالاحباط ما معنى هذه الآية إذا لم تقل بالموازنة أليس يلزم أن يكون الشخص العامل بالخير والشر معظماً منعماً مكرماً ملعوناً مهاناً، ذليلاً، حقيراً، معذباً في النار مخلداً في الجنان؛ لأنه مطيع عاص، وقد قالت الآية الأخرى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} تعالى الله عن الظلم وتقدس عنه وعن كل صفات النقص، فلم يبق بعد هذا أيها المرتاد للحق والطالب لرشاد والمحكم للكتاب العزيز إلا النجوع والتسليم للأدلة، والقطع بالموازنة لئلا تتعارض الأدلة وتتناقض ياأولي الألباب.
ألا ترى إلى آية الكهف وما يقول المجرمون عند وضع الكتاب، ومشاهدة سيئاتهم مع قلة حسناتهم انظر ما يقول: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} فدلت الآية علىأن المجرمين يجدون جميع الأعمال مكتوبة مزبورة، ولهذا نراهم يدعون على أنفسهم بالويل والثبور عند مشاهدة أعمالهم جميعها صغيرها وكبيرها، وجليلها وحقيرها، ولهذا يتعجبون من الكتاب قائلين:{مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}، ثم أكد الله ذلك بقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} أي مشاهداً مع أنه نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي يفيد العموم، لهذا دعوا على أنفسهم بالويل والثبور ما ذاك إلا أن سيئاتهم كثيرة محيطة بهم قاضية على الحسنات، وبالله عليك قل لي بربك ما معنى قوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أليست هذه تدل على الموازنة وعدم الاحباط إذ لو كان هناك احباط لما قال خلطوا؛ لأنه إذا طرأ أحدهما على الآخر أبطله، وأذهبه، فلا معنى للخلط إلى غير ذلك من الآيات القرآنية، فهل ينبغي ياأولي الألباب والأفكار الصافية، والأنظار الصائبة أن نهمل هذه الأدلة ونتأولها تأويلاً بعيداً متعسفاً ما أراكم ترون هذا وحاشاكم [بياض 11] السنة وما جاءت به.
نعم أول ما أبدأ بالوضوء وما جاء فيه، قال عثمان وهو يروي وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وضحك كما ضحكت، وقال لأصحابه: ((ألا تسألوني ما أضحكني)) قلنا: ما أضحكك يارسول الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اضحكني أن العبد إذا توضأ وغسل وجهه حط عنه كل خطيئة أصاب بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك)) وهو طرف من حديث رواه البزار.
قال في (مجمع الزوائد) ورجاله رجال الصحيح، وهو في الصحيح باختصار وله شواهد كثيرة، منها ما رواه الإمام أحمد بن عيسى في أماليه بالتصريح في كل عضو بأنها تخرج منه الذنوب عند غسله.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو أن رجلاً كان يعمل، وكان بين منزله ومعتمله خمسة أنهار؛ فإذا أتى معمله عمل ما شاء الله فأصابه الوسخ والعرق فكلما مر بنهر غسل ما كان يبقى عليه من درن)) رواه البزرا والطبراني في (الأوسط) و(الكبير).