فهذا أوان الشروع في المقصود فأقول: وبالله التوفيق وعليه التوكل وإليه المصير، ومنه الإعانة والتسديد.

أيها القائل بأن كل عمد كبيرة: ما معنى قول الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أليست هذه الآية ناطقة بصراحة بأن المعاصي تنقسم إلى صغيرة، وكبيرة، وأن الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر، فما هي يا ترى هذه الصغائر أهي الخطأ والنسيان، إذا قلت: نعم، فالخطأ والنسيان مرفوعا عن هذه الأمة كتاباً وسنة، قال الله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.

وقال الرسول الأمين عليه وعلى آله أفضل الصلوات والتسليم: ((رفع عن أمتي الخطأ، النسيان)).

فإن استدللت بمعصية آدم، وقلت: قد سماها الله معصية ونسبه إلى العصيان، فقال سبحانه: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قلنا لك: الدليل قائم على الخطأ والنسيان مرفوعا عن هذه الأمة وهو من خصائصها، إذا عرفت هذا فلم يبق إلا التسليم أن بعض العمد صغيرة، وأن المعاصي تنقسم إلى صغيرة، وكبيرة؛ وإلا بطل معنى الآية  التي تدل على تقسيم المعاصي إذا اتضح هذا فلم يبق إلا البيان للكبيرة من الصغيرة لنجمع شمل الأدلة من الإهمال والإهدار، فنقول: الكبيرة ما ورد الوعيد عليها، وهذا نص أمير المؤمنين وهو يقول في خطبته الأولى مقسماً للقرآن إلى أن قال: (ومباين بين معاصيه من كبيراً وعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه) وهو مذهب حفيده إمام الأئمة زيد بن علي عليه السلام، فإذا عرفنا أن الكبيرة ماورد الوعيد عليها عرفنا أن الصغيرة عكسها، ومن هنا يمكن حصر الكبائر من تتبع الكتاب والسنة المتواترة لا كالأثر الذي أوردتموه مستدلين به على أن المعاصي الكبار لا يمكن حصرها، وهو لا صغيرة مع الاصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار، وهذا الدليل لا ينهض ولا يمكن أن يعارض به الكتاب المعلوم متناً وإسناداً، إذا عرفت هذا فنقول أن في الكبائر ما هو محيط بجميع أعمال الخير وجاعلها هباءٍ منثوراً، فمن ذلك الكفر بجميع أنواعه من شرك وإلحاد، وزندقة، لهذا نرى الله بعد أن يذكر الكفر والكافرين، يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} أو كما يقول: في آية أخرى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وكالردة وإن كانت نوعاً من الكفر إلا أن الله سبحانه وتعالى قد نص عليها بذاتها، فقال تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فهذه الآية تدل على إحباط أعمال الكافر المرتد بخصوصه، وإن كان داخلاً تحت عموم الآيات الدالة على الإحباط، خلا أن هذه الآية تدل على أن مجرد الردة على انفرادها لا توجب الإحباط، ولا الحكم على صاحبها بالنار، بل إذا مات عليها وكانت متصلة بالموت، لهذا ذهب نجم آل رسول الله الإمام القاسم بن إبراهيم  عليه السلام إلى أن الردة بعد الإسلام لا يبطل بها الحج، وإن المرتد إذا أسلم لا يجب عليه إعادة الحج؛ لأنها مقيدة بالاتصال بالموت؛ فإذا كانت الردة من أعظم المعاصي لا توجب الإحباط ولا الحكم على صاحبها بالنار، فيكف بغيرها من المعاصي، فلم نقول بأن مجرد النظرة إلى الأجنبية تعمداً يحبط الأعمال، ومن المعاصي ما يحبط شيئاً واحداً ألا وهي الصدقة، وذلك المن والأذى يفهم ذلك من قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} ومما يوجب الاحباط التكبر المقرون بالاستكبار، والاعتراض على حكمة الله،كما فعل إبليس اللعين لهذا أطرده الله وأحبط عمله؛ لأن استكباره عليه تعالى سلطانه وعزت عظمته، كفر وزندقة.

ومنها: رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الرافع لصوته يستشعر بأن رتبته أعلى من رتبة المرفوع عليه صوته، لهذا جاءت الآية تندد بالرافع لصوته قائلة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} مع أن هذه الآية لا تدل على الإحباط قطعاً؛ لأن هذه هي أن المفتوحة الناصبة لا تخلو إما أن تكون في محل نصب فيكون التقدير؛ لأن وأن الناصبة تدل على الرجاء لا على التأكيد، ولهذا لم تقل الآية حبطت أعمالكم.

ومنها: الربا المتوعد عليه بالخلود في النيران، قال الله سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لهذا تأذن الله على صاحب هذه الكبيرة بالحرب منه ومن رسوله، فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ}.

ومنها: القتل والزنا المقرونان بالسُرك المهدد عليهما مع السُرك بالخلود في النار، ومضاعفة العذاب، قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا...} إلى آخرها.

فهذه وأمثالها وما يساويها من المعاصي المتوعد عليها بالنار، والخلود المقيدة فيها بالتوبة، فمثل هذه  لابد فيها من التوبة؛ وإلا كانت محبطة للأعمال، ومما يدل على أن المعاصي تنقسم إلى أقسام:

قول علي عليه السلام في بعض خطبه: (ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم معفو عنه لا يطلب، وظلم لا يترك:

أما الظلم الذي لا يغفر: فالشرك بالله، وأما الظلم الذي لا يطلب: فظلم العبد نفسه عند بعض الهفات، وأما الظلم الذي لا يترك: فظلم العباد بعضهم بعض، هناك القصاص شديد ليس هو ضرباً بالسياط، ولا جرحاً بالمدى، ولكنه ما يستغفر ذلك معه، ومن هنا نعلم أن الكفر أعظم المعاصي وأشدها، وأنه لا يغفره ولا يجب ما يترتب عليه من الآثام إلا الإسلام، ومما يشير إلى الاحباط لا يقع بمجرد إيقاع المعصية بل لا بد من الاستمرار عليها إلى الموت.

2 / 10
ع
En
A+
A-