وفي رواية أخرى في هذا الكتاب قال لها: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، وغضب ابنت رسوله، غضبانة فأرضى أم عاتبة فأعتب، فقالت:ما[94] أزيد على السلام شيئاً، فلما توفيت صلوات الله عليها ورحمته وبركاته، حملها علي عليه السلام في أهل بيتها، ومعه المقداد بن عمرو، وحليف بن زهرة، فصلوا عليها ليلاً صلوات الله عليها.

فأما خطبتها التي ذكرت فيها أمر فدك، فهي خطبة الزهراء الكبرى، وهي هذه: حدثنا أبو زرعة أحمد بن محمد بن موسى الفارسي رحمه الله تعالى قال حدثنا القاسم بن محمد بن مصعب الكوفي، قال حدثني أبي، قال حدثني يحيى بن الحسين بن زيد بن علي، عن أبيه، عن جده عن عمته زينب بنت علي عليه السلام قالت: لما بلغ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله إجماع أبو بكر منعها فدك، لاتت خمارها وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولها ما تخرم مشية رسول الله صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار، فنيطت دونها ملأه، ثم أتت أنه أجش لها القوم بالبكاء، فأملهتهم حتى هدأت ثورتهم، ثم قالت صلوات الله عليها: أبتدي بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر بما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ إلا أسداها، وإحسان من والاها، جل عن الاحصاء عددها، ونأ عن المجازاة أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، استنثى الشكر بفضائلها، واستحمد إلى الخلق باجزالها، ومن بالندب إلى أمثالها، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأبان في الذكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام الإحاطة به، الذي ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبله، وأنشأها بلا احتذاء امتثله، وفطرها لغير فائدة، زاد به الإظهار لقدرته ودلالته على ربوبيته، وإعزاز لأهل دعوته، ثم جعل الثواب على طاعته جياشة لعباده إلى جنته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده عن نقمته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اختاره قبل أن انتباه، واصطفاه قبل أن يبتعثه إلى الخلائق بالغيب مكنونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله بعواقب الأمور، وإحاطة منه بحوادث الدهور، ومعرفة منه بعواقب المقدور، ابتعثه الله ابتعاثاً لعلمه، وعزيمة على امضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقاً في أديانها، عكوفاً على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله بعد عرفانها، فأنار الله بأبي ظلمها، وفرج عن القلوب بهمها، وجلا عن الأبصار غمها، ثم قبضه الله عز وجل قبض رأفة واختيار، ورغبة عن تعب هذه الدار، موضوعاً عنه عبء الأوزار، محفوفاً بالملائكة الأبرار، ورضوان رب غفار، بجوار ملكٍ جبار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأخيار، ثم أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، لله فيكم عهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم، كتاب الله بينة بصائره، وآي منكشفة سرائره، وبرهان متجلية ظواهره، قائد إلى الرضوان اتباعه، مؤد إلى النجاة أشياعه، فيه تبيان لحجج الله المنورة[95] ومواعظه المكررة، ومحارمه المحددة، وجعل صلة أرحامنا زيادة لعدتكم، وطاعتنا نظاماً لملحمتكم، والائتمام بنا الأمان من فرقتكم، فاتقوا الله عباد الله حق تقاته، وأطيعوه فيما أمركم به، فإنما يخشى الله من عباده العلماء.

أما بعد: فأنا فاطمة وأبي محمد رسول ربكم، وخاتم أنبياؤكم، أقولها عوداً على بدء، وما أقول سرفاً ولا شططا وما أنا من الكاذبين، بسم الله الرحمن الرحيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} فإن تعزوه تجدوه أبي دون نسائكم، وأخي ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه، بلغ الرسالة صادعاً بالنذارة، ما بلى عن مذرجه المشركين، حائداً عن سنتهم، ضارباً لثيجهم، آخذاً...............بحد الهام، وينكب الأصنام، حتى انهزم الجمع وولا الدبر، وأسفر الحق عن محضه، وتبدا الليل عن صبحه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقائق الشياطين، وفهم بكلمة الإخلاص، وكنتم على شفاء حفرة من النار، نهزه الطامع، ومذفت الشارب، وقبسة العجلان، وموطأ الأقدام، تقتاتون القد، وتشربون الطرق، وأنتم أذلة خاشعون، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله بأبي بعد اللتيا والتي، وعند....... بهم الرجال، وذوبان العرب، كلما حشوا نارا للحرب، ونجم قرن للضلالة، وقعرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه، ومحمد لهبها تجده مكدود في ذات الله تعالى، وأنتم في رفاهية آمنون وادعون، توكفون الأخبار، وتنكصون عند النزال، فلما اختار الله عز وجل لرسوله دار أنبيائه، وما عنده لرسله، ظهرت حسكة النفاق، وسمل جلباب الإسلام، واخلولق ثوبه، وقحل عظمه، وأرتث رميمه، وظهر قانع، ونطق كاظم،.............حامل، وهد رفيق الباطل يهذر في عراصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مصرعه هازئاً بكم، فألفاكم لدعائه مستجيبين، ولغروره ملاحظين، فاستنهضكم فوجدكم خفافاً، وأكمتكم فألفاكم عصابا، فوشمتم غير إبلكم، وودتم شراباً ليس لكم بدار، وزعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، هذا والعبد قريب، والكلم رحيب، والجرح لم يندمل، والرسول لا يقبر، فهيهات منكم وكيف بكم وأنى تؤفكون وكتاب الله بين أظهركم، زواجره ظاهرة، وأوامره لائحة واضحة، أرغبة عنه فبئس للظالمين بدلا، ومن يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلا ريثما أن شكت نفرتها وسلس قيادها، حتى زعمتم أن لا إرث لنا أهل البيت، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون، ويهاً معشر المسلمين، أنثرا رثية  أيا الله حق أن ترث أباك، ولا أرث ...... لقد جئت شيئاً فريا، فدونكها مخطومة من حوله تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والموعد القيامة، والزعيم محمد[96] وعن قليل تنكفون، وعند الساعة يحشر المبطلون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون، ثم التفت صلوات الله عليها إلى الأنصار فقالت: معشر النقباء، وأعضاد الملمة، وحصنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي، والسيئة في ظلامتي، أما كان رسول الله صلى الله عليه يقول: ((المرء يحفظ في ولده)) ما أسرع ما أحدثتم، وعجلان ما نكثتم، ....... أتقولون مات محمد، فخطب والله عليك استوسع وهيه، واشتهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض، واكتأبت خيرة الله، وأكلت الأموال، فأضيع الحريم وأديلت الحرمة، فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في أفنيتكم ممساكم ومصبحكم هتافاً هتافا، ولقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله، وما محمد إلا رسول قد خلت من قله الرسل أفائن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين، إنني قيلة أهضم تراث أبي وأنتم هرا، ومسمع شملكم الدعوة، وفيكم العدة والعتاد، ولكم الدار................، وأنتم خيرة الله الذي انتجب لنا، نابذتم العرب، وناهزتم العجم، وكافحتم  إليهم لا نبرح وتبرحون، نأمركم فتأتمرون، حتى استقامت لكم الدار، واستدارت لكم بنا محالة الإسلام، واستوطن نظام الدين، ودوخلت البلاد، وسكتت نقرة الشيطان، وهدأت وغرة الهرج، فأنى حزتم بعد البيان، ونكصتم بعد الإقدام، عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وطعنوا في دينكم تخشونهم، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا بل أرى والله قد أخلدتم إلى الخفض، وخليتم الدعوة فمججتم بالذي وعيتم، وسمتعم الذي تسوغتم، وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فإن الله لغني حميد، ألا وقد قلت الذي قلت، على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة  الغيظ، وبثة الصدر، ومعذرة الحجة، فدونكموها فاحتقبوا مدبرة الظهر، ناقبة الخف، نافية العار، موسومة بشنار، الأيد موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فيغير الله ما تفعلون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، وأنا بنت نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون، ثم عطفت على قبر أبيها صلى الله عليه وعلى آله فخنقتها العبرة، فتمثلت بقول عمتها صفية بنت عبد المطلب:

قد كان بعدك أبناء وهنبثة
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
وقد رزينا الذي لم يرزه أحد
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا
وكنت نوراً وبدراً يستضاء به
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت
تهضمتنا رجال واستخف بنا

 

لو كنت شاهدتها لم تكثر الخطبُ
واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
من البرية لا عجم ولا عربُ
فغبت عنا فكل الخير محتجبُ
عليك تنزل من ذي العزة الكتبُ
ما العيون بتهتان هما سربُ
مذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصبُ

وفي غير هذه الرواية أنها وقفت على قبر أبيها فجللته بردائها، ثم تناولت حفنة من تربه فشممته وهي تقول هذه الأبيات المتقدمة[97]:

ماذا على مشتم تربة أحمدٍ

 

أن لا يشم مدا الزمان عواليا

98 / 292
ع
En
A+
A-