حبهم فرض علينا لهم

 

كمثل حج لازم واجب
ق

فصل: وقد ذهب بعض ما لا يعول عليه إلى أنه لا فضل إلا بالعمل، ومنهم من تجاهل فقال: لافضل برسول الله ولابنسبه صلى الله عليه وآله.

واعلم ارشدك الله أن القائل بذلك خارج عن الدين، مائل عن طريق المهتدين، مستهزئ برسل رب العالمين، فإن كون الفضل بغير العمل مما ظهر وانتشر وعرف بالعقل والشرع، بل عرف من الدين ضرورة[86] فإن كل عاقل يعلم فضل الذهب على النحاس، والفضة على الرصاص، والدنانير على الدراهم، والدراهم على الحجارة، ويعلم علو منزلة الخيل على الحمير، والعاقل على غير العاقل، فهذه الصورة الإنشائية على الصورة التميمية، وهذه قضية ضرورية في كل فضل، وعلو قدر بغير عمل، ثم إن هذا القائل بهذا القول زاد على الرحمن مكذب للقرآن، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} فبين أنه تعالى المفضل، والحاكم بالفضل لمن شاء، كما قال تعالى: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} ألا ترى إلى بيانه تعالى للأنبياء وإعداده، وقوله عقب ذلك: {وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وفي كل ذلك  يضيف الاختيار والتفضيل إليه تعالى، والاجتباء هو الاصطفاء والاختيار، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} فكذب تعالى من قال أنه لا فضل لأحدٍ على أحد بالنسب، وأن ذلك لا يتم إلا بالعمل.

وقال في موسى عليه السلام: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي} فما بال هذا المنكر للفضل لغير العمل لا يعمل حتى يبلغ إلى منزلة موسى كليم الله، وعيسى روح الله، ومحمد حبيب الله، ولما عجبت قريش من تفضيل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وآله عليهم قال الله عز وجل: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ} فبين أنه لا عجب في هذا، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، فهذا كلام العزيز الحكيم، ولقد قال تعالى في بني آدم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} أفلا ينظر هذا الجاحد إلى تفضيل الله تعالى لكل بني آدم على غيرهم ممن خلق، وفيهم البر والفاجر، والمسلم والكافر، وفضلهم الذي آتاهم تعالى، وفضلهم على غيرهم كامل واف، وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} أفلا يتفكر هذا الطاعن في الفضل بغير العمل في بني إسرائيل، وما ابتدأهم الله تعالى به من الفضل المبين، وما جعل فيهم من الحكمة والنبوة، وهما من أعظم الفضائل في الفاضلين، وما فضلهم به على العالمين وفي العالمين، ونوه بذكره في الكتاب المبين، وقال تعالى في تفضيل أهل السماء على أهل الأرض: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلاَئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً} وهذا تفضيل لغير عمل لأهل السماء، وقال تعالى في يحيى عليه السلام: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} وكثير من البالغين لم يؤته الحكم صبياً ولا كبيراً، ومثله في عيسى عليه السلام أعطاه النبوة صغيراً، ورفعه بها رفعاً كبيرا‌ً قبل وقت العمل، فقال عز وجل حيث قال: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا،  وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ} وقال تعالى في تزايد الفضل في أنبيائه عليهم السلام: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} فهذا تزايد في الفضل للفاضلين في حكم رب العالمين [87]وقال تعالى لموسى حين اختصه بالكلام والنجوى من بين سائر الملأ: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} فبين أنه اختاره واصطفاه، ورفع قدره على سائر العالمين وأعلاه، بل جرى هذا القبيل بين الذكور والإناث، فقال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وفي النساء من أفضل من بعض الرجال وأزكى، وللرجل الولاية عليها، وفضل الذكورة عند العلي الأعلى، وأوحى الله تعالى إلى أم موسى دون غيرها من النساء، وهذا نوع تفضيل كما قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ولم يوح بذلك إلى غيرها من العالمين، وأرسل الله تعالى ملائكة إلى مريم عليها السلام دون غيرها من النساء، قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيًّا} فكالمها وبشرها، وخاطبته وخاطبها، ورأته كما رآها، وما كان ذلك لأحدٍ غيرها، بل هذا الفضل متعدٍ من الله تعالى إلى الجماد من الأجسام، بل إلى غيرها من الأغراض، فإن الله تعالى فضل مكة على غيرها من البلدان، والمسجد الحرام على غيره من المساجد، والكعبة على غيرها من البيوت، وعرفات على غيرها من الفيافي والقفار، وفضل الليالي والأيام والشهور بعضها على بعض، حتى أنه فضل الأشهر الحرم على غيرها، وفضل شهر رمضان عليها، وعلى غيرها من الشهور، وفضل يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، وفضل يوم العيد على سائر أيام السنة، وهذا أمر لا يجحده من الأنام إلا الطغام، فأما الفضل بالأنساب فلا ينكره إلا أهل الشك والارتياب، فكل عاقل يعلم أن أولاد الأنبياء  لا ينزلون في العقول منزلة أولاد الأغنياء، وان أولاد السلاطين والملوك لا ينزلون في الشرف منزلة أولاد من يقول ناولني الميزان والمكوك وغير ذلك كالمكيال، وأن ولد الشريف شريف بنسبه، وولد الوضيع وضيع بنسبه، حتى أنهما لو استويا في العمل الصح والمتجر الربح، والعلم والزهد، فإن أحدهما يفضل على الآخر في العقل بنسبه الشريف، ولو لم يكن الفضل إلا بالعمل لما كان الله تعالى هو الأعز والأجل الأعلى الأكبر؛ لأنه لا فعل هناك ولا عمل، وقد قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فبين تعالى أن إليه الخفض والرفع، والإعطاء والمنع، والخلع والنزع، ولما أنكر المشركون الاصطفاء من الله تعالى للأنبياء عليهم السلام والاختيار، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} فبين أن هذا راجع إلى اختياره تعالى، ولما أنكرت بنو إسرائيل إمارة طالوت عليهم {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} ذلك أنه لم يكن من بيت الملك، ولا بيت النبوة فيهم، وكان العادة أن الله تعالى ابتعث الأنبياء من بيت، والملك الذي يؤيدهم من بيت آخر، ولم يكن طالوت من أي البيتين فأنكروا[88] ذلك، فبين تعالى أن الاصطفاء والاختيار والرفع لمن شاء إليه تعالى، فقال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} وبين أيضاً أن الزيادة في الجسم بالطول والجمال، والكمال أعظم فضلاً، وهذا نوع تفضيل بغير العمل خلافاً لهؤلاء الجهال، وقد فضل الله تعالى الأعراب بعضها على بعض حتى أنه جعل كلامه أفضل من كلام غيره، بل فضل كلامه على بعضه، حتى جعل بعض السور بحكمه أفضل من بعض، وبعض الآيات أفضل من بعض، ولما اجتمعت الصحابة ينظرون أي القرآن أفضل كل ذلك بحضرة عمر بن الخطاب قال بعضهم: خاتمة سورة براءة هي الأفضل، وقال بعضهم: خاتمة بني إسرائيل، وقال بعضهم: خاتمة كهيعص، وقال بعضهم: خاتمة طه، فقدم القوم وأخروا، فلما جاء أمير المؤمنين علي عليه السلام عرفوا أنه جاءهم الفضل، فكانوا يرجعون إليه في المهمات، فلما سمع بعض كلامهم قال عليه السلام: أين أنتم يا أمة محمد عن آية الكرسي؟ فقالوا: يا أبا الحسن أخبرنا بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله؟

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ((يا علي سيد البشر آدم عليه السلام، وسيد العرب محمد ولا فخر، وسيد الفرس سلمان، وسيد الروم صهيب، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال الطور، وسيد الأيام يوم الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي، يا علي إن فيها لخمسين كلمة، في كل كلمة خمسون بركة)) فهذه سيادة ورفعة أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض العقلاء على بعض، ولبعض الأغراض على بعض، فأين الجهال من ذلك، فأما منصب الرسول صلى الله عليه وآله فلا يخفى شرفه، ولا يغني عرفه، فقد شهدت به العقول، وجاءت به الكتب المنزلة من الله عز وجل، وحكمت به الآثار النبوية، ولا ينكره إلا كافر، ولا يجحده إلا منافق، ولما كانت قريش تعترف بفضل رسول الله صلى الله عليه وآله في النسب، ويقدمونه على غيره من العرب، تعللوا بأنه فقير لا مال له، وأن الله تعالى لو أراد أن يبعث نبياً لكان أحد رجلين، إما الوليد بن المغيرة في مكة لسعة ماله، وإما حبيب بن عمرو بالطائف لسعة ماله، وكثرة غناه، وقيل: أبو مسعود الثقفي بالطائف، فقال تعالى مجيباً لهم عن ذلك، وحاكياً لمقالتهم: {وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي عظيم المال {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} فبين تعالى أن الرفع الشريف لمن يشاء تبارك وتعالى، فأما أولاد النبي وسلالة الوصي، فلا إشكال في شرفهم، بنسبهم وعلو قدرهم، برفيع منصبهم، إذ قد بينا أن العلو والشرف يكون بشرف الأصل وتعالي النجل، والنجل في اللغة الولد، والفسل نجل بمعنى ولد، يقولون: قبح الله ناجليه، أي أبويه، وقال الأعشى:

إذا نجلاه فنعم ما نجلا

ولا نسب أشرف من نسب رسول الله صلى الله عليه وآله ولا أعلا ولا أكرم، بل هم طراز ثوب الشرف، وذروة حصون العز المنيع، وبحار الجود القاذفة بالدر، وسحاب العلم الهاطلة بالدرر، وما للطغام والجهلة الأغثام من كلام في ولده الرسول صلى الله عليه [89] وحيدر والبتول، ولقد أحسن فيهم القائل حين يقول:

إليكم كل مكرمة تؤل

94 / 292
ع
En
A+
A-