ثم قال: يا أخا اليهود هذه المواطن التي امتحنني فيهنَّ ربي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم [60 ] فوجدني فيهنَّ كلهنَّ بمنه ولطفه مطيعاً.
قال: صدقت يا أمير المؤمنين.
قال: ولي يا أخا يهود مواطن ليست لأحد مثلي الذي فيهنَّ لو وصفت ذلك، ولكن الله نهاني عنه التزكية.
قالوا: يا أمير المؤمنين صدقت لقد أعطاك الله الفضيلة بالقرابة من نبينا، واسعدك بأن جعلك له أخاً تنزل منه بمنزلة هارون من موسى، وفضلك بالمناقب التي باشرتها، والأهوال التي ركبتها، مما لم يذكر مع نبينا فاحتملته وصرت عليه، فلو شينا أن نصف ذلك لوصفناه علماً منا به، وظهوراً منا عليه، إلا أنا نحب أن نسمع منك ما امتحنك الله به بعد موت نبينا فاحتملته.
فقال: يا أخا يهود إن الله تعالى امتحنني في سبعة مواطن فوجدني فيهن من غير تزكية لنفسي بمنه ورحمته صبوراً.
أما أولهنَّ فإنه لم يكن لي خاصة دون المسلمين ولا عامة أجد أنس به، ولا استأنس إليه، ولا اعتمد عليه، أتقرب إلى الله تعالى بطاعته، ولا أنهج به في السر أو لااستريح في الضر إليه غير رسول الله صلى الله عليه وآله، هو رباني صغيراً، وبوأني كبيراً، وكفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأعانني عن الطلب، ووفاني الكسب، ومأن لي النفس والأهل والولد، هذا في تصاريف من الدنيا مع ما خصني الله به من الدرجات إلى معالي ..........عند رسول الله صلى الله عليه وآله، فنزل بي من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله مالم أكن أظن أن الجبال تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي بين جازع لا يملك جزعه، ولايضبط نفسه، ولايقوى على حمل فادح ما نزل به، قد اذهب الجزع صبره، وذلة عقله، وحال بينه وبين الفهم والأفهام، وبين القول والاستماع، وسائر الناس من غيري بني عبد المطلب بين معزي بالصبر، وبين مساعد باك لبكائهم، جزع لجزعهم، فحملت نفسي على الصبر عند وفاته، ولزوم الصمت والأخ بما أمرني الله به من تجهيزه وغسله، وتكفينه وتحنيطه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجميع أمانة الله وكتابه وعهده الذي حملناه إلى خلفه ،واستودعناه فيهم لاتشغلني عن ذلك بادر دمعه، و لاهياج زفرة ولاحرقة، ولا جليل مصيبة حتى أديت الحق الواجب لله ورسوله علي، وبلغت منه الذي أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟
قالوا بلى يا أمير المؤمنين.
قال: وأما الثانية يا أخا يهود فإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرني في حياته على جميع أمته، وأخذ لي ممن حضر منهم البيعة، والسمع والطاعة لأمري، وأمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب، فكنت المؤدي رسول الله صلى الله عليه وآله أمره، والأمير في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولابعد وفاته.
ثم أمر الله رسوله بتوجيه الجيش الذي وجه مع أسامة عند الذي حدث به من المرض الذي توفاه فيه، فلم يدع أحد رسول الله صلى الله عليه وآله من قريش ولامن الأوس والخزرج وغيرهم من سائر العرب ممن يخاف على بغضه أو منازعته، ورده ولا أحداً ممن يرى [61]بعين البغضاء ممن قد وترته بقتل أبنه وأخيه، أو حميمه، ألا وحميه في جيش أسامة لامن المهاجرين ولا من الأنصار وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، والمنافقين لتصفوا قلوب من يتقى بحضرته، ولئن لايقول قائل شيئاً مما أكرهه في جوازه، ولايدفعني دافع عن الولاية، والقيام بأمور رعيته وأمته من بعده.
ثم كان آخر ما تكلم به صلى الله عليه وآله في شيء من أمر أمته أن يمضي جيش أسامة، وألا يتخلف أحد ممن أنهض معه إلا عاص لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فتقدم في ذلك أشد التقدم، وأوعر في ذلك أبلغ الإيعار والإنذار، وأكد في ذلك أكثر التأكيد، فلم أشعر بعد أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله إلا برجال من جيش أسامة وأهل عسكره، قد تركوا أمر كرهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله فيما أنهضهم وأمرهم به، وتقدم إليهم من ملازمة أميرهم، والمسير معه تحت لوائه حتى ينقذ لوجهه الذي وجهه، وخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى عهد عهده الله وسوله صلى الله عليه وآله في أعناقهم، فنكثوه وعقدوا لأنفسهم عقداً اصحرت به أصواتهم، واختصت به أراؤهم، من غير مناظرة لأحد منا بني عبد المطلب، ولامشاركة في رأي، ولااستفالة لما في أعناقهم من تبعة.