وقد احتج بعض المخالفين بأن إجماع الصحابة على إمامة أبي بكر مع كون علي هو الأفضل يدل على جواز تقدم المفضول على الأفضل، والجواب إن هذا هو موضع المنازعة، فكيف يكون نفس المذهب حجة على صحبته، فإنا لا نسلم هذا الإجماع الذي جعله المخالف بزعمه حجة، وسيأتي تفصيل الكلام في إبطال الإجماع المدعى مع ما تقدم فيه من البيان، واحتج المخالفين أيضاً بأن قال: قد ثبت أنه لا خلاف في أن عند العذر في الأفضل يجوز تقديم المفضول إذ لا يمكن غير ذلك، وأيضاً فإنه لا خلاف أن الأفضل لو كان هو المملوك لجاز تقدم المفضول عليه، وكذلك الضرير.

واعلم أن مثل هذه الشبهة لا ينبغي صدورها من عالم عارف، فإن لقائل أن يقول: غنك استدللت في أول الشبهة التي أوردتها بالشيء على نفسه، وزدت في ذلك أنه لا خلاف فيه، وأنت عالم أن الزيدية والإمامية يخالفون في ذلك، وقولك لا يمكن غير ذلك محال؛ لأنه يمكن ترك إمامة المفضول، ويقدر عليه وإن أردت أنه لا يعقل ذلك فالعقل يقضي أنه لايقع المشروط عند فقد الشرط، فإذا قد أقررت أن الأفضل شرط لم تصح الإمامة من دونه كما لا يصح من دون سائر الشروط من العلم[55] والإيمان وغيرهما.

وإن عنيت لا يمكن بمعنى أن هذا مذهب أسلافك فلا يصح مفارقته، فذلك لا يصح؛ لأنه يجوز عليهم الخطأ، وإن كانوا في علم الكلام رؤساء، وقد ثبت أن بعضهم خطأ بعض في ذلك.

وأما ما ذكرته في العبد والضرير، وأنه يجوز العدول عنه، مع أنه الأفضل فهذا أشنع من الكلام الأول، وأكثر ركاكة منه، الست تعلم أن العبد والضرير ليس أفضل من الفاطمي والقرشي عندك فيما يتعلق بالإمامة؛ لأنها لاتصلح إلا في منصب مخصوص، فإنهما إنما جاز العدول عنهما؛ لأنهما ليس فيهما منصب الإمامة الذي هو قاعدة شروطها، بحيث يكون عدم سائر الشروط ووجوده مع فقده على سوى.

وهذه الشبهة مروية عن قاضي القضاة، فأعجب من صدور مثل هذا عن مثله، مع كونه مبرزاً في العلم، ولا سبب لمثل هذا إلا الميل عن الصواب، واتباع مذاهب الأسلاف، والله المستعان، وقد احتج قاضي القضاة على جواز العدول عن الأفضل لغرض لشبهة أخرى، وهو قول عمر بن الخطاب كانت بيعة أبي بكر فلتة وقا الله شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، قال: وإنما أراد أنهم بادروا إليها قبل الفساد من غير مشورة أهل الرأي، وقوله: من عاد إلى مثلها فاقتلوه، يعني استعمال هذه الطريقة في الترك من الإجماع على الرأي، وقاتل عليه فاقتلوه وإن أدى إلى قتله، ولا يصلح حمله على خلاف ذلك؛ لأن المعلوم ضرورة أنه كان محباً لأبي بكر، معظماً لأمره، والجواب عن هذه الشبهة من وجوه:

أحدها: أن قول عمر ليس يحجة.

والثاني: أن قول عمر لا يحتاج إلى تأويل؛ لأنه ليس بحكيم، ولو كان حكيماً فإنه لا يجوز التأويل إلا لدلالة.

والثالث: أن المعتزلة لا تقول بمقتضى الخبر؛ لأنهم لا يرون قتل من عاد إلى مثلها.

والرابع: أنه إن كان الغرض من عاد إلى مثلها، من عاد إلى التقدم على الأفضل للضرورة فاقتلوه، ففيه دلالة على أن أبا بكر كان يستحق القتل، وأنه ليس بإمام عند عمر، فلا يصح قولهم أن الصحابة أجمعت على ذلك، وإن كان الغرض من عاد إلى مثلها مع أن الأولى للضروة دون الثانية، كان خروجاً على مقتضى المثل؛ لأن ذلك ليس بمثل لها.

والخامس: أن قاضي القضاة يكون مقراً بحمد الله بصحة هذا الخبر عن عمر، وقاله على رؤوس الأشهاد على المنبر، وهذا الخبر يهدم على القاضي وأصحابه أصول مذهبهم في الإمامة؛ لأن ظاهر هذا الخبر الإنكار من عمر لإمامة أبي بكر، وأنها ليست بدين عنده، وأنه يستحق القتل على مثلها، وأنها شر والشر قبيح، فأما قوله أن عمر كان يعظم أبا بكر ويحبه، فذلك غير ممتنع وقد يحب الإنسان غيره لغرض له لا للدين، كما كان معاوية يحب يزيد لعنهما الله تعالى، فلا تدل محبة عمر لإمامة أبي بكر على أنها دين مع هذا الكلام منه وامثاله مما قد ذكرناه في صدر كتابنا هذا، وإنما أحبها لأنها صارت حاجبة ومانعة من إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وقوله القاضي معناه أنهم بادروا إليها من غير مشاورة أهل الرأي خوف الفساد، فما بادروا إلا حذراً من أمير المؤمنين عليه السلام[56] فكيف تكون إمامته عليه السلام فساداً، ولو كانت فساداً ما جاز للمسلمين أن يقدموه بعد ذلك، وهو على حالته لم يزد ولم ينقص، وما مثلهم في هذا العذر إلا كما قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لعمر الله إن كان كما قال بادروا إليها خوف الفساد لقد غرقوا في لجة الفساد منذ دخلوا فيها، فإنهم بذلك أخرجوا الحق عن معدنه، وخرجوا عن اختيار الله تعالى، واختيار رسوله إلى اختيار أنفسهم، وظلموا العترة ماجعل الله لهم ورسوله، فهم أساس هذا الظلم إلى يوم القيامة، ففي عين الفساد وقعوا لا محالة، وإن قال القاضي أن الفلتة البيعة من غير مشاورة فقد بينا أن هذا عليه دلالة، وقد قال صاحب كتاب العين أن الفلتة هي الأمر الذي يقع على غير أحكام، ولا شك أنها خلافة وقعت على غير الوجه الشرعي، فليست محكمة شرعاً، وإلا فقد أحكوها في باب الدنيا فبان بطلان ما ذكره المخالف من كل وجه بحمد الله وهدايته، وإلا فقد أحكموه في باب الدنيا فبان بطلان ما ذكره المخالف من كل وجه بحمد الله وهدايته.

62 / 292
ع
En
A+
A-