قال: ((قوموا فليقعد كل رجل منكم على مقدار سبقه في الإيمان)) فلم يبرح علي عليه السلام في مكانه عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله، وقام أبو بكر فجلس في مكانه بإزاء علي، وقام عمر بن الخطاب فجلس آخر الناس؛ لأنه كان أسلم بعد جماعة، وجلس عثمان بالقرب من أبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: ((أفهمتم))؟
قالوا: نعم يا رسول الله، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((قد جلستم في مجالسكم من الإيمان، قوموا فاجلسوا على قدر مجالسكم في الفقه والدين)) فانحازوا جميعاً، وجلس علي عليه السلام في موضعه عن يمين رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يبرح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم: ((أفهمتهم))؟
قالوا: نعم يا رسول الله صلى الله عليك، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: ((قوموا فاجلسوا على قدر أماكنكم في الجهاد بالسيف)) فتأخروا ولم يبرح علي عليه السلام من موضعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((وما يعقلها إلا العالمون، وما يدفعه إلا الظالمون، علي أول الناس إسلاماً، وأقرب الناس رحماً، وأفقه الناس في دين الله تعالى، وأضربهم بالسيف، وهو وصيي ووليي، وخليفتي من بعدي، يصول بيدي، ويضرب بسيفي، وينطق بلساني، ويقضي بحكمي، لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا كافر منافق، وهو علم الهدى، ومكانه مني في الأخرة كمكانه مني في الدنيا)).
وعن أبي هريرة قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله بالمدينة، وهو في ملأ من المهاجرين والأنصار، وأشراف العرب، وبعضهم يقول: عمر خير، وبعضهم يقول: أبو بكر خير، وبعضهم يقول: عثمان بن عفان خير، وبعضهم يقول: علي بن أبي طالب عليه السلام خير، فقام النبي صلى الله عليه وآله على قدميه فبكى بكاء شديداً، حتى تحدرت دموعه على خديه كنظام الدر في سلكه ثم قال: ((أيها الناس لِمَ تؤذونني في علي، علي أخي وابن عمي وزوج ابنتي، غفر الله لك يا علي ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أما إن لك يا علي شأن عظيم لك ولمحبيك ولشيعتك، يحشرك الله يوم القيامة على ناقة من نوق الجنة، زمامها من الياقوت الأحمر، عليها هودج من رحمة الله عن يمينك سبعين ألف صف من الملائكة، ملائكة الروحانيين، ومن بين يديك مثل ذلك، وجبريل ينادي في عرصات القيامة هذا علي ابن أبي طالب، قال: فيأمر الله سبحانه الملائكة فيتوجونك، ويحلونك ويكسونك حلة الكرامة، وتردا بردا الصبر، وتقلد بقلادة من نور، في وسطها درة تضيء لأهل الجنان، على رأسك لواء الحمد مكتوب في وسطها بالخضرة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، علي ولي الله، فتأخذ بحجز شيعتك حتى تدخلهم الجنة)) فانظر كيف جمع عليه السلام ما تفرق فيهم، ثم برز فيه مع جمعه عليهم، فياأيها المساوي بين الرجال، والمشاكل بين قوم ليسوا بأشكال، أين الظلمات من النور، وأين الظل من الحرور، أتساوي بين الأحياء والأموات، أم تنزل الحيوان الكامل العاقل المكلف منزلة الموات، والعجب كل العجب ممن يقول: أبو بكر أفضل من أمير[51] المؤمنين وربما سأل سائل فيقول: أيهما أفضل فيا سبحان الله العظيم أيكون أخو عمراً وأخو حارثة بن زيد على بعض الروايات أفضل من أخي رسول الله صلى الله عليه وآله إمام المتقين، وسيد الوصيين، والذايد عن الكوثر يوم الدين، هل يستقيم في هذا الموضع لفظه، أفعل بينهما هذا كما يقال النهار أضوء أم الليل، يقال المر أحلى أم العسل، فمتى جمع أبو بكر من هذه الخصال ومما قدمناه من جميع هذه الخلال ما جمعه علي عليه السلام، فيكون حينئذ للشك يدان وللتحير ميدان، ليس شرفت العرب على العجم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم كذلك كل فضله مهما قربت منه كانت أفضل، حتى انتهينا إلى الحمية وقسميه في نوره وخليفته، وأخيه في السراء والضراء، والشدة والرخاء، ووزيره وظهيره، وأمينه وصهره، وغيبة سره وباب مدينة علمه، وزوج خير أولاده، وابن ولده، قلتم هو أفضل أو رجل من تيم، إنما كان يصح هاهنا، ويستقيم أن يقول السائل علي أفضل أم رسول الله صلى الله عليه وآله فيقال: بلى رسول الله صلى الله عليه وآله، أو يقول علي أفضل أم عمه الحمزة أم أخوه جعفر، فيقال: بل علي عليه السلام، هذا وقد بينا أنه أكرمهم على الله وأتقاهم، وأكثرهم بلاء في الإسلام وأكثرهم ثواباً بنص رسول الله صلى الله عليه وآله، والجامع لخصال الفضل، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فأعجب مهما عشت أراك الذهن العجب، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وأين تكون المساواة هاهنا ياأيها المساوي والمفاضلة، فما أبعد عنك في هذا الموضع المشاكلة والمماثلة، إلا أن تقطع بعض أسلافك فلم يجدوا حيلة ولا اهتدوا سبيلا،بعد تسليمه أن علياً عليه السلام أفضل إذا قيل له فكيف قدم المفضول على الفاضل؟ فقال: أنا أقول أن أبا بكر كان شيخاً محتشماً، فكانت المصلحة في تقدمه، وكان علي شاباً فعلي قود، قوله هذا كان أبو قحافة وغيره من شيوخ الصحابة أولى من أبي بكر هل هذا الأخطل من القول، وضلال في العقيدة، وهذه الدلالة وهي دلالة الفضل إحدى الدلالات القوية، فإن الأمة أجمعت على اعتبار الأفضل في الإمامة، فإن من عرف من الأخبار، واقتص السير والأثار، علم أنهم تجادلوا فيها تجادل من يرى أنها لا تجوز إمامة المفضول وتقدمه على الأفضل، فإن كل مدع منهم لذلك عد فضائله، ألا ترى أن الأنصار عدوا فضائلهم لما طلبوا الإمارة بعد الرسول صلى الله عليه وآله، وكان من قولهم: الإسلام عزينا والدار دارنا، وأبو بكر لما حاجهم ذكر فضائل قومه وما اختص به المهاجرين من الفضائل.
وقال العباس بن عبد المطلب لما حاجهم في ذلك: وما أنتم يا قريش من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام لما علم بحجة قريش على الأنصار حيث قالوا: إنهم شجرة الرسول صلى الله عليه وآله: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وذكر من قصة الشورى، وفي غيرها فضائله ومقاماته، وجميع ما يكون لمكانه أفضل وأولى[52] سلوكاً منه عليه السلام، يمثل ما سلكوه أولاً، فهي نصوص عليه السلام، ولما قال عمر لأبي عبيدة: امدد يدك أبايعك، قال: مالك يا بن الخطاب هفوة في الإسلام مثل هذه تقول هذا وأبو بكر قائم.
وروي فهة في الإسلام، وكان عمر يقول: بأن أبا عبيدة كالمساوي لأبي بكر لما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه أمين هذه الأمة، ولم يرد على أبي عبيدة، قيل: لأنه عرف منه أنه يعتقد أن أبا بكر أفضل، ولما ولى أبو بكر عمر بعده قالوا له: وليت علينا فضاً غليضاً -يعنون عمر-، وقالوا لأمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه عند موت أبي بكر: قد علم الناس أن إسلامنا قبل إسلام عمر، وفي عمر تسليط اللسان، فاحتجوا بالأحسن من الفضل، ولما قالوا لأبي بكر: ما تقول لربك إذا وفدت عليه وقد وليت علينا فضاً غليضاً؟ قال: أقول وليت عليهم خيرهم في نفسي، وفي بعض الرويات خير أهلك، فأخبرهم أنه الأفضل عنده، فثبت أن الأمة أجمعت على ذلك، وقد ثبت أن إجماعهم حجة، وبعد فإن العترة أجمعت على اعتبار الأفضل وإجماعهم حجة كما تقدم، وبعد فإن الأمة أجمعت على جواز إمامة الأفضل، واختلف فيما عداه ولا دليل في الشرع على جواز إمامة المفضول، فبقى على الحصر العقلي، فإذا ثبت ذلك اتضح أنه لا يجوز تقدم أبي بكر على أمير المؤمنين ولا تقدم صاحبيه أبداً؛ لأن ما تقدم من الأدلة الثلاثة إلا أن تدل على أنه لا يجوز تقدم المفضول على الأفضل، لا لعذر ولا لغير عذر، فإن أمير المؤمنين وقومه من بني هاشم، وأتباعه المؤمنين لما اعتقدوا أنه الأفضل لم يجيزوا التقدم عليه، وكذلك سائر الصحابة فإن الكل منهم فيما قدمناه لم يتنازعوا في تعريف الفضل من كل واحد منهم لصاحبه، فإن كل مدع لما قدمنا من ذكر الفضائل غير جاهل؛ لأن للمدعي الآخر فضيلة، وليس بينهم في اعتقاد ذلك تنازع، وإنما التنازع بينهم من حيث أن كل فريق من المتنازعين يدعي أنه الأفضل؛ لأنهم مستوون في ذلك، ولهذا جعلت الأنصار النصرة فضلاً لها، فأضافت قريش إلى أنفسها القرابة من رسول الله صلى الله عليه وآله مبينين بذلك أنهم أفضل؛ لأنهم نصروا وهم مع ذلك أقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم احتج أمير المؤمنين عليه السلام وبنوا هاشم بأنهم أقرب من ساير قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم كذلك حججهم لمن تأملها، فإنها شاهدة باعتبار بالأزيد في الفضل، وقد ثبت أن التزايد في الفضل شرط من شروط الإمامة، فلا يجوز ثبوتها من دونه، كما لا يجوز ثبوتها من دون سائر الشروط من العلم والإيمان، والورع والشجاعة، والمنصب فإذا ثبت ذلك، فتعلل المعتزلة بذكر العذر في تقديم المفضول على الأفضل هذيان؛ لأنهم أن إرادوا بذلك العذر أمراً يختص الأفضل بزعمهم، ويمنعه من القيام، ولم يصح ذلك؛ لأن ذلك يخرجه عن الصلاحية للإمامة[53] فضلاً عن أن يقال أنه أفضل من غيره، وإن أرادوا به عذراً راجعاً إلى غيره نحو ما قالوا في أمير المؤمنين عليه السلام أنه قد وتر الناس، وأوحشهم بكثرة القتل في كفار قريش وغيرهم من العرب، فإن هذا يعلل من يقول من المعتزلة بأن علياً عليه السلام أفضل من أبي بكر، فهذا تعلل سقيم، ومقال غير مستقيم، لوجوه:
منها أن هذا العذر بزعمهم لو كان مانعاً من إمامته لما صحت إمامته بعد عثمان؛ لأن العذر باق وليس ذلك من قولهم.
ومنها أن الإمام يجب أن يتجنب المنفرات كما يتجنبها الأنبياء عليهم السلام، ولو كان الأمر كذلك لما صحت إمامة أبي بكر وعمر وعثمان؛ لأن من أعظم المنفرات عنهم عبادتهم أولاً للأوثان، واستقسامهم بالأزلام، وغير ذلك من أفعالهم الكفرية المنفرة، ولهذا قال العلماء من أهل البيت وغيرهم عليهم السلام، ومن غيرهم من أهل العدل، لم يكن إيمانهم يصلح للنبوة بخلاف إيمان علي عليه السلام، وإن كان هذا القول هو قول كافة العدلية، فإنهم يقولون: لا يجوز من النبي فعل شيء من الكبائر لا قبل البعثة ولا بعدها، كما هو مذكور في مواضعة.
ومنها أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقدم علياً عليه السلام على الصحابة، ويؤمره عليهم، وذلك معلوم ظاهر، فلو كان ما تقدم منه من هذه الأفعال الحميدة منفراً ومانعاً، وموحشاً كما قالوا ما فعل ذلك، بل الأمر على العكس، وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بل هذا من أعظم الفضايل له عليه السلام، فإن الجهاد سنام الدين، وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً، وكفى بالله شهيداً، وكيف يكون كشف الكرب عن وجه الرسول عذراً ووحشة، ولو استحيت المعتزلة على أنفسهم دنيا وآخرة ما صدروا مثل هذا الإعتراض الركيك في أمير المؤمنين عليه السلام، وإنما العذر هو الرغبة في الإمارة، والتقدم في الدنيا، وظهور الضغاين التي حكاها رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام، ولهذا روي عن زيد بن علي عليه السلام أنه قال: إنما لم يقدموا علياً عليه السلام طمعاً في الرئاسة، قال عمر فيما رويناه عنه أولاً في صدر الكتاب لابن عباس في مثل ذلك: ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه، وقال: فقلت يا أمير المؤمنين ما استصغره الله حيث أمره بأخذ سورة براءة من أبي بكر فيؤديها فسكت، ولقد صدق بن عباس رحمه الله تعالى، فإن هذا كان ينبغي أن يعد منفراً من تقديم أبي بكر على أمير المؤمنين، لتقديم الله ورسوله ورده على ذلك، فأعجب من جعل عمر للصغر عذراً حيث قال: استصغروه كما حكيناه عن بعض المتبعين له من المعتزلة، وليس هذا بعذر في شيء من أدلة الشرع في الإمامة، بل هذا نهاية التجاهل، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام أيام الشورى في مثل ما ذكرناه من تقدمهم عليه لطلب الدنيا قوله عليه السلام: فإذا سألوني عن أمري، وناظرتهم[54] في أيامي وأيامهم، فأوضحت لهم ما لم يجهلوه من وجوه استحقاقي لها دونهم، وذكرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، وتأكيده ما أكد لي من البيعة في أعناقهم دعاهم حُب الإمارة، وبسط الأيدي والألسن، والأمر والنهي، والركون إلى الدنيا إلى الاقتداء بالماضين قبلهم، وتناول مالم يجعل الله لهم، إلى آخر كلامه عليه السلام، وقد قدمناه في صدر الكتاب.