قال: فنهض ابن عباس إليهم وناداهم بمثل بالذي أمره به.
فقالت طائفة منهم: والله لا نجيبه حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
فقال أصحاب الحجج في أنفسهم منهم: والله لنجيبه ولنخصمنه، ولنكفرنه، وصاحبه لا ينكر ذلك، فقالوا: أتنقم عليه خصالاً كلها موبقة مكفرة، أما أولاً فإنه محى اسمه من أمير المؤمنين حيث كتب إلى معاوية، فإن لم يكن أمير المؤمنين فإنه أمير الكافرين؛ لأنه ليس بينهما منزلة، ونحن مؤمنون ولسنا نرضى أن يكون علينا أميراً، ونقمنا عليه أن يقسم علينا يوم النصرة[33] ما حواه العسكر، وسفك الدماء، ومنعنا النساء والذراري، فلعمري إن كان حل هذا فما حرم هذا، ونقمنا عليه يوم صفين أنه أحب الحياة، وركن إلى الدنيا، حتى .........أن نقاتل معه وأن ننصره حيث رفعت لنا المصاحف، فهلا ثبت وحرض على قتال القوم وضرب بسيفه حتى يرجع إلى أمر الله ونقاتلهم، والله يقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وننقم عليه أنه حكم الحكمين فحكما بجور لزمه وزره، ونقمنا عليه أنه ولى الحكم غيره وهو عندنا من أحكم الناس، ونقمنا عليه أنه شك في نفسه حين أمر الحكمين أن ينظرا، فإن كان معاوية أولى بالأمر ولوه، فإن شك في نفسه فنحن أعظم فيه شكاً، ونقمنا عليه أنه كان وصياً فضيع الوصية، ونقمنا عليك يا ابن عباس حيث ترفل إلينا في حلة حسنة تدعونا إليه، فقال بن عباس: يا أمير المؤمنين قد سمعت ما قال القوم، فقال علي عليه السلام: لا ترتاب ظفرت بهم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، نادهم ألستم ترضون بما أتيتكم به من كتاب الله لا تجهلون به، وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تنكرونها، قالوا: اللهم بلى. قال: أبدأ بما بدأتم به على .............، أنا كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله حيث كتبت: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سهيل بن عمرو، وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركين عهداً إلى مدة، فكتب المشركون: إنا لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، فاكتب إلينا باسمك فإنه الذي نعرف، واكتب إلينا ابن عبد الله، فأمرني فمحوت رسول وكتبت ابن عبد الله. وكذلك كتبت إلى معاوية من علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ومن قبلهما من الناكثين عهداً إلى مدة، فكتبوا إنا لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فاكتب إلينا من علي بن أبي طالب نجبك، فمحوت أمير المؤمنين وكتبت ابن أبي طالب كما محى رسول الله صلى الله عليه وآله وكما كتبت، فإن كنتم تلغون بسم الله الرحمن الرحيم إن محاها وتلغون رسول الله إن محاها ولا تثبتونه فالغوني ولا تثبتوني، وإن أثبتموه فإن الله تعالى قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فتأسيت برسول الله صلى الله عليه وآله، قالوا: صدقت هذه بحجتنا.
قال: وأما قولكم إني قسمت بينكم ما حواه العسكر يوم البصرة وأحللت الدماء، ومنعتكم النساء والذرية، فإني مننت على أهل البصرة لما افتتحها وهم يدعون الإسلام، كما منَّ النبي صلى الله عليه وآله على أهل مكة وهم مشركون لما افتتحها، فكانوا أولادهم ولدوا على الفطرة قبل الفرقة في دينهم، فإن عدوا علينا أخذناهم بذنوبهم، ولم نأخذ صغيراً بذنب كبير، وقد قال الله تعالى في كتابه: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[34].
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ((لو أن رجلاً غل عقالا من الحرب لأتى الله يوم القيامة وهو مغلول به حتى يؤتيه)) وكانت أم المؤمنين أثقل من عقال، فلو غللتها وقسمت سوى ذلك فإنه غلول، ولو قسمتها لكم وهي أمكم لا يستحل منها ما حرم الله، فأيكم كان يأخذ أم المؤمنين في سهمه، قالوا: لا أحد وهذه بحجتنا هذه.
وأما قولكم: إني حكمت الحكمين فقد عرفتم كراهتي لهما، إلا أن تكذبوا قولي لكم ولوها رجل من قريش لا يخدع فأبيتم إلا أن وليتموها من وليتم، فإن قلتم سكت حيث فعلنا ولم ننكر، فإنما جعل الله الاقرار على النساء في بيوتهنَّ ولم يجعله على الرجال في بيوتهم، فإن كذبتم وقلتم: أنت حكمت ورضيت، فإن الله قد حكم في دينه الرجال وهو أحكم الحاكمين، فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} الآية. وقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وإنما على الإنسان الإجتهاد في استطلاع الحكمين، فإن عدلا كان العدل فيما أراه الأولى، وإن لم يعدلا فيه وجارا كان الوزر عليهما، ولا تزروا وازرة وزر أخرى. قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.
وأما قولكم إني حكمت وأنا أولى الناس بالحكم، فقد حكم رسول الله صلى الله عليه وآله سعد بن معاذ يوم اليهود، فحكم أن يقتل مقاتلهم وتسبي ذراريهم، وجعل أموالهم للمهاجرين دون الأنصار، فقالوا: صدقت. وهذه بحجتنا هذه.
وأما قولكم: إني حكمت قلت للحكمين انظرا في كتاب الله فإن كان معاوية أحق بها مني فاثبتوه، وإن كنت أولى بها فأثبتوني، فلو أن الحكمين اتقيا الله ونظرا في القرآن عرفا أنني كنت من السابقين بإسلامي قبل معاوية، ومعاوية مشرك، وعرفت أنهم إذا نظروا في كتاب الله وجدوني يجب لي على معاوية الإستغفار. لأني سبقته بالإيمان، ولا يجب لمعاوية على الإستغفار، ووجدوني يجب لي على معاوية خمس ما غنمتم؛ لأن الله تعالى أمر بذلك إذ يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية، فإذ حكما بما أنزل الله أثبتوني، ولو قلت: احكموا وأثبتوني أبا معاوية، ولكني أظهرت لهم النصفة حتى رضى، كما أن رسول الله صلى الله عليه وآله لو قال: اجعلوا لعنة الله عليكم أبوا أن يباهلوا، ولكن جعل لعنة الله على الكاذبين، فهم الكاذبون واللعنة عليهم، ولكن أظهر لهم النصفة فقبلوا. قالوا: صدقت هذه بحجتنا هذه.
وأما قولكم: إن كان معاوية أهدى مني فاثبتوه. فإني قد عرفت أنهم لا يجدونه أهدى مني، وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ} فقد عرفتم أنهم لم يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى من القرآن، فكذلك عرفت أنهم لا يجدون معاوية أهدى مني.
فأما قولكم: أن الحكمين كانا رجلي سوء فلِمَ حكمتهما وأنهما لو حكما بالعدل لدخلا فيما نحن فيه، وخرجا من سوءتهما كما أن أهل الكتاب لو حكموا بما أمر الله حيث يقول: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ[35] بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ} خرجوا من كفرهم إلى ديننا، قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.