ثم سألنا الفريقين عن أعلم الناس بالعدل من هو؟
قالوا: أدل الناس على العدل، ثم سألناهم: من أدل الناس على العدل من هو؟
قالوا: أهدى الناس للحق، وأحق الناس أن يكون متبوعاً، ولا يكون تابعاً، فقلنا: ما برهانكم عليه؟
قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} فدل ما اجتمعت عليه الأمة من كتاب الله الذي لا اختلاف فيه على أن علي بن أبي طالب عليه السلام خير هذه الأمة، وأنه أتقى الأمة، وأنه إذا صار أتقى الأمة صار أخشاها؛ لأنه صار أعلم الأمة، وإذا صار أعلم[125] الأمة، صار أدل الأمة على العدل، وإذا صار أدل الأمة على العدل صار أهدى الأمة إلى الحق، وصار أحق الأمة أن يكون متبوعاً، ولا يكون تابعاً، وأن يكون حاكماً، ولا يكون محكوماً عليه؛ لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
هذا ما أجمعت عليه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم أجمعت على أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم مضى وخلف فينا كتاب الله الذي أنزل عليه، وأمرنا أن نعمل بما فيه، وبلغنا النبي صلى الله عليه وآله ذلك فقال في الكتاب: جعلناه تبيانا لكل شيء وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمة للمؤمنين، واجتمعت الأمة على أنه لابد لهم من والٍ يجمعهم، ويدبر أمورهم، واجتمعت على أنه لا يحل لهم أن يعملوا عملاً ويقولوا اقرأ علينا هذا القرآن، فيمضوا لما يأمرهم به القرآن الذي يعرفه صغيرهم وكبيرهم، فيقولون: اقرأ حتى إذا بلغ: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} فيقولون: أثبتها واعزلها فإنا نجد الله سبحانه وتعالى خلق الخلق فاختار من خيرة الخلق ما ليس لنا أن نختار غيرهم، ثم يقولون: اقرأ حتى ننظر من خيرته من خلقه الذين اختارهم، فيقرأ حتى إذا بلغ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فيقولون: قد فسرت لنا هذه الآية، وقد دلتنا على أن خيرة الله من خلقه المتقون، ثم يقولون: اقرأ حتى نعلم من المتقين، فيقرأ حتى إذا بلغ: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} فيقولون: قد دلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشيون، ثم قالوا: اقرأ حتى إذا بلغ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فيقولون: قد دلتنا هذه الآية على أن الخاشين هم العلماء، ثم قالوا اقرأ حتى نعلم أي العلماء أخير وأفضل أم غيرهم، فيقرأ حتى إذا بلغ: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} فيقولون: قد دلتنا هذه الآية على أن العلماء أفضل من غيرهم، ثم يقولون: اقرأ حتى إذا بلغ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيقولون: قد فسرت لنا هذه الآية، ودلتنا على أن الله تبارك وتعالى قد اختار أهل العلم، وفضلهم ورفعهم فوق الذين آمنوا درجات، وأجمعت الأمة على أن الفقهاء العلماء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين كانوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأخذون عنهم أبواب صلواتهم وزكواتهم، وطلاقهم وسننهم، وفرائضهم ومشاعرهم، فقالوا: أربعة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت الأنصاري.
وقالت طائفة: عمر بن الخطاب، فسألنا الأمة، من أولى الفقهاء العلماء بالتقدم بالصلاة إذا حضروا؟ فاجتمعوا على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((يؤمكم أقرأكم لكتاب الله، وأفقهكم في دين الله)) فسألنا أي الخمسة أقرأ لكتاب الله عز وجل؟ فاجتمعوا على أن الأربعة أولى بالتقدم من عمر، ثم سألنا الأمة: أي الأمة أولى بالإمامة؟ فأجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((الأئمة من قريش)) فسقط اثنان من الأربعة عبد الله بن مسعود[126] وزيد بن ثابت؛ لأنهما لم يصلحا للإمامة؛ لأنهما ليسا من قريش، فبقي علي بن أبي طالب عليه السلام وعبد الله بن عباس، مسلمين فقيهين، عالمين قرشيين، فسألنا الأمة إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين أيهما أولى بالإمامة؟ فأجمعت الأمة على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا كانا فقيهين عالمين فأكبرهما وأقدمهما في الهجرة)) فسقط عبد الله بن عباس، وحصل علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلم، وصار أحق الناس بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا ما اجتمعت عليه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، اجتمعوا على أن لله خيرة من خلقه اختارهم واصطفاهم، وجعلهم أدلا على الفرائض والحكم على خلقه، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فاجتمعوا على أن الأمة المسلمة خلقها الله من ذرية إسماعيل بن إبراهيم خاصة، وأنهم آل إبراهيم خاصة المصطفين، الذين اختارهم الله واصطفاهم على العالمين، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه؟
قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فقبلنا منهم، وشهدنا أن الأمة المسلمة خلقها الله تبارك وتعالى خلقها من ذرية إسماعيل خاصة، وأنهم آل إبراهيم الذين اصطفاهم الله على العالمين، وأنهم أهل البيت الذين رفع الله منهم الأئمة من ذرية إبراهيم وإسماعيل، وبعث فيهم الرسول فصار البيت الذي بعث الله محمداً عليه السلام صار أولئك ذرية إبراهيم حقاً يقيناً؛ لأن الأمة اجتمعت على أن إبراهيم المصطفى وذرية إبراهيم الذين على دين إبراهيم، واجتمعت الأمة على بني هاشم هم الذين استجابوا للرسول عليه السلام وصدقوه، فتلا عليهم آياته، كما تلا عليهم الكتاب والحكمة وزكاهم، واجتمعت الأمة على أنهم فيها أمة وسطاً، ليكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليهم شهيداً، فجعل الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم شهيداً بما أنزل عليهم تلاوة الكتاب، وتعليمه إياهم للكتاب، كما قال إبراهيم وإسماعيل ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، ولم يقولا اجعل الأمة مسلمة من ذريتنا ومن غير ذريتنا، ولكنهما أفردا الأمة المسلمة، ومن ذريتنا أمة مسلمة لك خاصة، وابعث فيهم رسولاً منهم، ولم يقولا: وابعث من غيرهما رسولاً، ولكنهما قالا: ومن ذريتنا، وابعث فيهم رسولاً منهم، فصار الرسول من أنفسهم شهيداً عليهم، بما أتى إليهم من الكتاب، وصاروا شهداء على الناس بما يكون على الناس من علم الكتاب والحكمة، وقال الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}.
وهذا ما اجتمع عليه كل بار وفاجر، وكل مؤمن وكافر، اجتمعوا على أن الميت إذا مات فأهل بيته[127]أولى بميراثه، فاجتمعت الأمة على أن الله تبارك وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، فأقام في قومه عشرين سنة، كما حكم الله عليه وجادلهم بالتي هي أحسن، فسموه مجنوناً وكذاباً، وكاهناً وساحراً، فأقام مع المشركين وهم في شركهم حتى انقضت الأيام والسنون، ثم أمر الله عز وجل أن ينصر هجرته، وأن يشهر سيفه، وأن يصير إلى حيث يقاتل من خالفه، وأن يقيم الحدود، وان ياخذ للضعيف من الشديد، فلم يزل ناصباً هجرته، شاهراً سيفه، يقاتل من خالفه، ويقيم الحدود، حتى لحق بالله عز وجل، واجتمعت المة على أن النبوة لا تورث، فقبلنا منهم، وشهدنا أن النبوة لا تورث، وسألنا الأمة تقاد الذي جاء من عند الله بالسنن وإقامة الحدود، وتدفع كل ذي حق حقه نبوه، فكان من عمل بها فهو نبي، فقالوا: لا، ولكن النبوة للاختيار عن الله، والسبيل بالكتاب والسنة، فهذا بيان لمن تفكر فيه، ولم يعطف الحق إلى هواه، ورضي بالحياة الدنيا واطمأن بها، تمت رسالته عليه السلام.
ومن ذلك ما يروى عن العباس بن بكار قا لحدقنا شيبة بن شيبة، قال سمعت خالد بن صفوان بن الأهيم المنقري يقول: لما قدم زيد بن علي بن الحسين عليه السلام بن علي بن أبي طالب صولت الله عليه على هشام بن عبد الملك وهو يومئذٍ بالرصافة، وكان الناس يخبرون عن ابن عيينة، وكثرة علمه، وبيان حجته، وفصاحة لسانه، وشدة قلبه، دخلت عليه في منزله فسلمت عليه، وجلست وهو متكئ، فذكرت له أمر أبي بكر وعمر، ثم ذكرت له قتل عثمان، وأنه قتله قوم ليسوا من المهاجرين، ولا من الأنصار، فلما سمع كلامي استوى قاعداً فحمد الله وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صلى الله عليه وآله وعلى أهل بيته، وذكر أن أبا بكر وعمر، ثم انتهى كلامه إلى ذكر عثمان، وأنه سار بسيرة صاحبيه، وكان على منهاجهما، ثم مال إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء، فاستنزلوه فنكب على نفسه، فاجتمع في أمره المهاجرون والأنصار، فاستعتبوه فأبا إلا تمادياً فيما لا يوافق الكتاب ولا السنة التي اجتمعوا عليها، فقتلوه، فقلت له: أكل المسلمين قتلوه يابن رسول الله؟ فقال: لا، لكن بعض قتل وبعض خذل، والقاتل والخاذل سواء، فمكث ملقى جصته لا تدفن أياماً ثلاثاً.