أما بعد فإنا قوم لم ندرك النبي صلى الله عليه وآله، ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفوا بينهم، فنعلم كيف كان الخلاف بينهم، ونعلم أي الفريقين أولى بالحق والصدق، فنتابعهم ونتولاهم، ونكون معهم كما قال الله تعالى في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ونعلم أي الفريقين أولى بالكذب والضلال فنجتنبهم كما أمر الله، فهذا غائب عنا -يعني أمرهم- وكان كما قال الله تعالى في كتابه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حتى إذا أدركنا العقل طلبنا معرفة الدين وأهله من الحق والصدق، فوجدنا الناس مختلفين يتبرأ بعضهم من بعض، وقد يجمعهم في حال اختلافهم فريقان، فريق قالوا أن الرسول عليه السلام وعلى أهله مضى ولم يستخلف أحداً بعينه، وأنه جعل ذلك إلينا معاشر المسلمين نختار لأنفسنا رجلاً فنستعمله عليها، فاخترنا أبا بكر، وفرقة قالوا: إن النبي صلى الله عليه وآله استخلف علياً فجعله خليفة وإماماً، نستبين به بعده، فصار كل فرقة منهم مدعية تدعي الحق، فلما رأينا ذلك أوقفنا الفريقين جميعاً حتى نستبين ذلك، ونعلم المحق من المبطل، ثم سألنا الفريقين جميعاً كيف كان النبي صلى الله عليه وآله يقضي بين الخصمين، والفريقين إذا اجتمعوا إليه، فاجتمع الفريقان جميعاً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يقضي بين الفريقين إذا اجتمعوا إلا بالبينة العدول من غير أهل الدعوى، ممن لا يحر إلى نفسه، فقبلنا منهم حين اجتمعوا عليه، وشهدنا أنه الحق، وأن من خالف حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد جار وظلم، ثم سألنا الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلف علي بن أبي طالب ومضى هل لكم بينة عدول من غيركم على من ادعيتم فنصدقكم، ونقضي لكم، قالوا: لا نجد بينة عدول من غيرنا، ثم سألنا الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضى ولم يستخلف أحداً، وأنه جعل ذلك إليهم ليختاروا أنفسهم، فاختاروا أبا بكر، فهل لكم من بينة عدول من غيركم، ونصدقكم ونقضي لكم؟ قالوا: لا نجد بينة عدولاً من غيرنا، فلما لم يجد الفريقان البينة العدول من غيرهم[123] على ما ادعوا، أوقفناهم حتى نعلم المحق من المبطل.
ثم سألنا الفريقين جميعاً هل للناس بد من وال يصلي بهم ويقيم أعيادهم، ويجبي زكواتهم ويعطيها فقرارهم ويقسمها، ويقضي بنيهم، ويأخذ لضعيفهم من قويهم، ويقيم حدودهم؟ فاجتمع الفريقان على أنه لابد من وال إمام يقيم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسنة، فقبلنا منهم وشهدنا أنه لابد للناس من والٍ يقيم فيهم بالحق، ويعمل فيهم بالسنن، ثم سألنا الفريقين هل للناس أن يتبرعوا بتولية رجل، ويجعلونه إماماً وخليفة عليهم قبل أن ينظروا في كتاب الله عز وجل والسنة، فإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وبفعله يولونه بفضله عليهم في الكتاب والسنة؟ فاجتمع الفريقان على أن ليس لأمة أن يتبرعوا بولاية رجل يختارونه، ويجعلونه عليهم ولياً يحكم بينهم دون أن ينظر في كتاب الله عز وجل والسنة، وإن وجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفعله ولوه عليهم، إن لم يجدوا الكتاب والسنة يدلان على تولية رجل باسمه وفعله، كانت لهم الشورى بعد ذلك بما وافق الكتاب والسنة، فلما أجمعوا على ذلك قبلنا منهم، وشهدنا أنه ليس لأمة أن يتبرعوا بتولية وال، على أن يجعلوه الخليفة والإمام دون أن ينظروا في الكتاب.
ثم سألنا الفريقين عن الإسلام الذي أمر الله تعالى به خلقه ما هو؟ فاجتمعوا على أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرار بما جاء به نبيهم صلى الله عليه، وصلاة الخمس، وصوم شهر رمضان، والحج إلى بيت الله من استطاع إليه سبيلاً، والعمل بهذا القرآن، أن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بما فيه، فقبلنا منهم حيث اجتمعوا عليه فشهدنا أنه الحق، ثم سألنا الفريقين جميعاً هل لله خيرة من خلقه اختارهم واصطفاهم، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه، فقالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} فقبلنا منهم، حيث اجتمعوا على ذلك، وشهدنا بأن لله خيرة من خلقه، ثم سألناهم من خيرة الله من خلقه؟ فقالوا: المتقين، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه، فقالوا: قول الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فقبلنا حيث اجتمعوا-يعني على ذلك- وشهدنا أنه الحق، وأن خيرة الله من خلقه المتقون.
ثم سألنا الفريقين هل لله خيرة من المتقين؟ فقالوا: نعم، فقلنا: من هم؟ فقالوا: المجاهدون في سبيل الله، فقلنا: هاتوا برهانكم عليه، فقالوا: قول الله تبارك وتعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً، دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} فقبلنا منهم، وشهدنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون في سبيل الله من المتقين.
ثم سألنا الفريقين: هل لله من خيرة من المجاهدون في سبيل الله؟
قالوا: نعم، فقلنا: من هم. فقالوا: السابقون من المهاجرين إلى الجهاد.
فقلنا: ما برهانكم عليه؟
قالوا: قول الله تبارك وتعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} فقبلنا ذلك منهم، وشهدنا أن خيرة الله من المجاهدين السابقون إلى الجهاد.
ثم سألنا الفريقين: هل لله خيرة من السابقين إلى الجهاد؟
قالوا: نعم، أكثرهم[124] عملاً في الجهاد، وأكثرهم ضرباً وطعناً وقتالاً في سبيل الله.