قال: نعم.
قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ثلاثاً، ثم قال: لو لم يكن ألاقي ألف رجل لكان ينبغي لنا أن نقاتل عن حقنا حتى ندركه أو نموت وقد أعذرنا.
فقال الحسن: فكيف لنا بألف رجل مسلمين، إني أذكرك الله يا أخي أن تفسد علي ما أريد، أو ترد عليٍّ أمري، فوالله ما ألوك ونفسي وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم خيراً، إنك ترى ما نقاسي من الناس، وما كان يقاسي منهم أبوك من قبلنا، حتى كان يرغب إلى الله في فراقهم كل صباح ومساء، ثم قد ترى ما صنعوا بي فيها، ولا نرجو أن ندرك حقنا، إنا اليوم يا أخي في سعة وعذر، وسعنا العذر يوم قبض نبينا.
قال: فسكت الحسين، فانظر رحمك الله كيف عد الحسن قهر معاوية له، وقلة أنصاره بعد قهر أبي بكر وعمر لأبيه عليه السلام، وقلة أنصاره يومئذٍ، وهذا كلام المعصوم للمعصوم، مضافاً إلى قول أبيهما أمير المؤمنين، وفاطمة سيدة نساء العالمين، فكيف يكون الأمر بعد كلام هؤلاء من أهل الكساء المعصومين، فحسبك هذا إن كنت ذا بصيرة، وذكر الحسن بن علي عليه السلام في خطبته التي خطب الناس بها بعد مهادنته لمعاوية أن الذي ألجأه إلى المهادنة، هو الذي ألجأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى دخول الغار، وألجأ أمير المؤمنين عليه السلام إلى مبايعة أبي بكر وعمر، حيث جمعت حزم الحطب على داره لتحرق بمن فيها من ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إن لم يخرج يبايع، وقال فيها: ومن البلاء على هذه الأمة أنا إذا دعوناهم لم يجيبونا، وإذا تركناهم لم يهتدوا إلا بنا، فساوى الحسن عليه السلام بين كفار قريش وبين أبي بكر وعمر، وأتباعهما وبين معاوية وأعوانه، وليس على هذا من مزيد.
ومن كتاب للحسن بن علي عليه السلام إلى معاوية لعنه الله فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنازعت سلطان العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأسراته وأولياؤه، ولا يجمل بكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، وأن الحجة في ذلك على من نازعها أمر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فأنعمت لهم العرب وسلمت لهم ذلك، ثم حاججنا نحن وقريش بمثل ما به حاجت العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها؛ لأنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياؤه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعيب منهم لنا، فالموعد الله وهو المولى والنصير، وقد عجبنا لتوثب المتوثبين في حقنا، وسلطان نبينا، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين، أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا[111] من إفساده، إلى آخر كتابه، فتدبر هذا وأمثاله من قولهم عليهم السلام تعجب، ثم سم الحسن بن علي عليه السلام سمته امرأته جعدة بسبب معاية لعنهما الله، ولما حضرته الوفاة عليه السلام قال لأخيه الحسين بن علي عليه السلام: اكتب هذا ما أوصى به الحسن بن علي صلوات الله عليهم جميعاً ورضوانه وبركاته، أوصى أني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده حق عبادته، لا شريك له في الملك ولا ولي من الذل، وأنه خلق كل شيء فقدره تقديرا، وأنه أول من عبد، وأحق من حُمد، ومن أطاعه رشد، ومن عصاه غوى وهوى، ومن تاب إليه اهتدى، ومن خالفه ضل، وإني أوصيك يا حسين بما خلفت من أهلي وولدي ونسائي، وأهل بيتك أن تحفظ منهم ما أوصاك الله، وأن توالي وليهم وتعادي عدوهم، وأن تكون لهم والداً، وأن تغفر لمسيئهم، وأن تقبل من محسنهم، وأن تدفنني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني أقرب إليه، وأحق به ممن دخل بيته بغير إذنه، ولا بعهد عنده منه، لقوله تبارك وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فوالله ما أمروا بالدخول بعهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا جاءهم كتاب من بعده بالإذن، فإن أتت عليك الامرأة فأناشدك الله والقرابة التي قرب الله منك، والرحم الماسة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة وأمير المؤمنين، وسيد المسلمين علي بن أبي طالب أن لا تهريق فيَّ دم محجمة، حتى تلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداً فتحجهم عنده، وتخبره بما كان من الناس إلينا بعده، ثم قبض رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته، وله سبع وأربعون سنة، وقيل: ست، وقيل: خمس، سنة اثنتين وخمسين، وقيل: سنة خمسين، وقيل: تسع وأربعين، اختلفوا في تاريخ موته حسب اختلافهم في تاريخ عمره، ولما احتضر عليه السلام قال: لقد سقيت السم ثلاث مرات ما منهنَّ واحدة بلغت مني ما بلغت هذه، لقد تقطعت كبدي.
وروي أنه لما احتضر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أقدم على سيد لم أره، وأسلك طريقاً لم أسلكها، أخرجوا سريري إلى صحن الدار، حتى أنظر في ملكوت السماوات.
وروينا أن الحسن والحسين عليهما السلام كانا يمشيان إلى الحج فلم يمرا براكب إلا نزل يمشي، فثقل ذلك على بعضهم فقالوا لسعد بن أبي وقاص: قد ثقل علينا المشي، ولا يستحسن أن نركب، وهذان الفتيان يمشيان، فقال سعد للحسن عليه السلام: يا أبا محمد، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك، والناس إذا رأوكما لم تطب أنفسهم بأن يركبوا فلو ركبتما، فقال الحسن عليه السلام: لا نركب، قد جعلت على نفسي أن أمشي، ولكن أتنكب الطريق، وأخذ جانباً.
وروينا عن المغيرة عن أبي نجيح أن الحسن بن فاطمة عليهما السلام حج خمساً وعشرين حجة، وقاسم ماله ربه.
وروى السيد أبو الحسين يحيى بن الحسن الحسيني في كتاب نسب آل أبي طالب، بإسناده إلى عبد الله بن عبيد بن عمير قال: لقد حج الحسن بن علي خمساً وعشرين حجة ماشياً، وإن النجائب لتقاد معه، وتوفي عليه السلام بالمدينة، ثم إن الحسين دعا لغسله عبد الله بن عباس، وعلي بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر فقال لهم: اغسلوا ابن عمكم، فغسلوه وحنطوه، وألبسوه أكفانه، ثم خرجوا به حتى صلوا عليه في المسجد بمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومشهده، ثم أمر الحسين أن يدخل البيت[112] فيحفر له فيه، فجاء مروان بن الحكم وآل سفيان ومن كان من ولد عثمان بن عفان فقالوا: أيدفن عثمان الشهيد المقتول ظلماً بالبقيع بشر مكان، ويدفن الحسن بن علي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله لا يكون ذلك أبداً حتى تقطع السيوف بيننا، وتكسر الرماح، وتنفذ النبل.
فقال الحسين بن علي: أما والذي حرم مكة للحسن بن علي أحق برسول الله وبيته أن يدفن فيه معه ممن دخل بغير عهدٍ منه، ولا كتاب جاء به بعده، وأحق به من عثمان حمال الخطايا، ومسير أبي ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفاعل بعمار بن ياسر وبعبد الله بن مسعود، واحماه للحما ايثاراً منه لبني أمية، وإيوائه الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصرتم بعده ولاة الأمر، وأتبعتم الأعداء وأبناء العداء، وكانوا لكم أعواناً على عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وولده ورزا، قال: فحملناه وأتينا به قبر فاطمة فدفناه إلى جنبها.