الوجه الثاني: أن العترة أجمعت على أن الإمامة لا تجوز في غيرهم إجماعاً معلوماً، وإجماعهم حجة يجب اتباعه على ما تقدم، وإذا ثبتت الإمامة في البطنين بإجماع العترة وإجماع الأمة، ولا دليل في الشرع يدل على جوازها في غيرهم ثبت ما قلناه، وذلك واضح بحمد الله ومنه، فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع المعلوم شيء يدل على جوازها في غيرهم، فوجب قصرها عليهم، وحصرها فيهم، والقطع على أنهم معدنها دون من عداهم، لما ثبت من أن الإمامة تقتضي التصرف على الناس في أمور شاقة كريهة، نحو تجييش الجيوش، وإقامة الحدود، وأخذ الأموال ممن وجبت عليه طوعاً وكرهاً، وكل ذلك مما يمنع منه العقل، إلا بعد ورود إذن شرعي لمن يقوم بذلك، ولا إذن من جهة الشرع إلا ما ذكرناه من الإجماع الدال على جواز ذلك لمن يكون من أبنائهما عليهما السلام[107] فيبقى من عداهم بحكم الأصل الذي اقتضاه دليل العقل، ولم يخص الإجماع الوارد أحد البطنين دون الآخر، وصار ذلك عاماً للبطنين جميعاً، فثبت الموضع الثاني، وهو في الدليل على صحة ما ذهبنا إليه، وفساد ما ذهب إليه المخالف، إلا الاحتجاج على أن الدعوة طريق الإمامة، فسيأتي بيان ذلك في الموضع الثالث بمشيئة الله تعالى.
وأما الموضع الثالث وهو في إبطال أقوال المخالف، فنحن نوردها قولاً فقولاً، أما من ذهب إلى القول بالنص من النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أئمة معدودين من ولد الحسين، فالجواب عن ذلك أنه لو كان هناك نص لوجب أن يكون ظاهراً معلوماً؛ لأنه من أصول الدين العظيمة، وأركانه القوية، فكان يجب أن يكون بمنزلة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)) فإن هذا الخبر ظاهر النقل، معلوم في نفسه، مشهور عند الكافة، بحيث لا يختص به من الأمة فريق دون فريق، فهو مما لزمة الحجة به، ولم تقع المنازعة في صحته، وبمنزلة قوله صلى الله عليه وآله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) في خبر الغدير، وبمنزلة خبر المنزلة، ومعلوم أنه ليس بظاهر ولا معلوم، وكفى بذلك فساداً لما ادعوه من النص.
وأما من قال بالإرث فقد أبعد؛ لأن الإرث يستحقه النساء والصبيان والمجانين، وإمامتهم غير جائزة، ولأنه كان يستحق الإمامة جميع الورثة، إن كانت إنما تثبت بالميراث في وقت واحد، وذلك لا يجوز.
وأما من قال أن الإمامة تستحق جزاء على الأعمال الصالحة فقد مال عن طريق الحق؛ لأن من حق الجزاء على الأعمال الصالحة أن تكون لله خالصة، وسروراً كاملاً، وقد ثبت أن الإمامة متضمنة للمشاق العظيمة، والعموم المتكاثفة، وهذا ينافي الجزاء والثواب على الأعمال الصالحة، وبعد فلو كان جزاءاً على الأعمال لما اختص بها بطن دون بطن، ولا كانت لواحد دون جماعة في وقت واحد؛ لأن في العاملين كثرة، والجزاء يعمهم جميعاً، وقد ثبت أنها مختصة لمنصب مخصوص، ثم بواحد من ذلك المنصب في الوقت الواحد، بحيث لا يجوز قيام غيره معه.
وأما من قال أن طريقها القهر والغلبة فذلك باطل؛ لأن المبطل الجائر قد يغلب المحق العادل، ولا يجوز مع ذلك أن يكون إماماً، وبعد فربما انقلب الغالب مغلوباً عقيب كونه غالباً، فكان يجب بنقل الإمامة من الغالب إلى المغلوب، حالاً بعد حال على هذه المقالة الفاسدة، وقد انعقد الإجماع من الصحابة على أن إمامة المبطل لا تجوز، وأن العدالة والصلاح من شروط الإمامة، وقضت الشريعة بأن الإمام إذا هزم عسكره لم يخرج عن الإمامة بظهور عليه.
وأما من قال أن طريقها العقد والاختيار فذلك أيضاً قول بعيد مبني على أساس منهدم؛ لأنه لا دلالة في السمع لأمر كتاب ولا شبهة معلومة، ولا إجماع معلوم على ما ادعوه من ذلك، وسنريك الكلام عليهم مشروحاً فيما يدعونه، فلم يبق إلا ما يقول المحققون من الزيدية من أن طريقها الدعوة ممن تكاملت الشروط المذكورة فيه، وتلك الشروط محصورة موجودة في كتب المتكلمين بحمد الله، وميلنا إلى الاختصار إذ لو بطل القول بالدعوة مع بطلان ما تقدم لخرج الحق عن أيدي الأمة، وذلك لا يجوز، وقد أكد القول[108] بالدعوة، فإنها واردة من جهة الشرع، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فأمر سبحانه بالدعوة إلى الخير، وحث عليها، وأثنى على أهلها، ومدحهم بأن قولهم من أحسن الأقوال، وزاد ذلك وضوحاً وتأكيداً ما روي من قول النبي صلى الله عليه وآله: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه يوم القيامة في نار جهنم)) وأمثال ذلك من الآيات والأخبار مما يقتضي كون الدعوة مشروعة، فوجب القضاء بصحتها، وأنها طريق إلى ثبوت الإمامة، فثبت بهذه الجملة ما ذهبنا إليه من كون الدعوة طريقاً إلى ثبوت الإمامة، وأنها محصورة في ولد الحسنين عليهم السلام دون من عداهم، وأنهم معدنها ومستقرها ومنصبها، يؤكد ذلك ما قد رويناه في هذا المعنى من أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في العترة عليهم السلام، وما نبه عليه من شرفهم وفضلهم، وكونهم أولى بالاتباع، ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال في كتاب نهج البلاغة في ذكر العترة والأئمة منهم الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى، وبنا يستجلى من العمى أن الأئمة من قريش في هذا البطن من هاشم، لا يصلح على سواهم، ولا يصلح الولاة من غيرهم.
وقال عليه السلام: فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم، وهم أزمة الحق، وألسنة الصدق، فانزلوهم بأحسن منازل القرآن، وردوهم ورد الهيم العطاش.
وقال عليه السلام: ولا يعادل بآل محمد آل، ولا يساوي بهم من جرت نعمتهم عليهم أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفي العالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة.
وقال عليه السلام: فالتمسوا ذلك من عند أهله، فإنهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن علمهم، وصمتم عن منطقهم، وظاهرهم عن باطنهم، ولا يخالفون الدين، ولا يختلفون فيه.
وقال عليه السلام في ذم من استغنى لرأيه وعلم شيوخه: فيا عجبا ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصون أثر نبي، ولا يقتدون بعمل وصي، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفون عن عيب، يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشبهات، المعروف فيهم ما عرفوا، والمنكر عندهم ما نكروا، ومفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعلوهم في المهمات على رأيهم، كان كل أمرء منهم إمامة نفسه، هذا قوله عليه السلام في كتاب نهج البلاغة، وهو مسموع لنا معلوم، ونحن ذاكرون الآن بعد علي والحسن والحسين عليهم السلام من قام بالأمر من أبناء الحسن والحسين إلى يومنا هذا، ومن هو بالغ هذه المنزلة ممن صده عن القيام متمردوا هذه الأمة، ومن عارض من قريش الذين جازت فيهم المعتزلة الإمامة مع غيرهم من فرق الضلال، بعد أن قدأريناك أيها المسترشد حصر الإمامة في أبناء الحسن والحسين عليهم السلام ليتحقق للأمر شرفهم بأمير المؤمنين، وشرفه بأولاده الأئمة السابقين، الطاهرين المطهرين[109] مثل ما قد تحق غير ذلك من الشرف والفضل، وليعلم المطلع على ذلك أن دين الله تعالى لو كان كما زعموا في غير هذه العصبة النبوية من سائر قريش، لما قام به قائم صدق لله يستحق الخلافة بحكم الله ورسوله، لو صلح منهم واحد أو اثنان، فأيهم حينئذٍ يعترف بأن الحق لغيره من أهل البيت عليهم السلام، نحو عمر بن عبد العزيز، ومن حذا حذوه، فيكون أهدى سبيلاً ممن ادعا له هذه المنزلة من علماء السوء.