قلت: لا أحلف ولا أخبر بهما أحداً منهم، فقال: كنت هارباً من بني مروان، وكنت أدور البلدان، أتقرب إلى الناس بحب علي وفضائله، فكانوا يأووا إليَّ ويطعموني، ويزورني ويكرموني، ويحملوني حتى وردت بلاد الشام، و أهل الشام كلما أصبحوا لعنوا علياً عليه السلام في مساجدهم؛ لأن كلهم خوراج، وأصحاب معاوية فدخلت مسجداً وفي نفسي منهم ما فيها، فأقيمت الصلاة فصليت الظهر، وعلي كساء خلق، فلما سلم الإمام اتكى على الحائط[100]وأهل المسجد حضور فلم أرى أحداً منهم يتكلم توقيراً لإمامهم، فإذا بصبيين قد دخلا المسجد، فلما نظر إليهما الإمام قال: ادخلا مرحباً بكما، ومرحباً بمن سميتكما بأسمائهما، والله ما سميتكما بأسمائهما إلا بحب محمد وآل محمد، فإذا أحدهما يقال له الحسن والآخر الحسين، فقلت فيما بيني وبين نفسي قد أصبت اليوم حاجتي ولا قوة إلا بالله، وكان شاباً إلى جنبي فسألته من هذا الشيخ، ومن هذان الغلامان؟ فقال: الشيخ جدهما، وليس في هذه المدينة أحد يحب علياً عليه السلام غير هذا الشيخ، ولذلك سماهما الحسن والحسين، فقمت فرحاً وإني يومئذٍ لصارم لا أخاف الرجال، فدنوت من الشيخ فقلت: هل لك في حديث أقر به عينك؟ قال: ما أحوجني إلى ذلك، وإن أقررت عيني أقررت عينك، فقلت: حدثني أبي عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: من والدك، ومن جدك، فلما عرفت أنه يريد أسماء الرجال، فقلت: محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال: إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فاطمة عليها السلام قد أقبلت تبكي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما يبكيك يا فاطمة))؟ قالت: يا أبتاه إن الحسن والحسين قد غبرا، وقد ذهبا منذ اليوم، ولا أدري أين هما، وإن علياً يمشي على الدالية منذ خمسة أيام يسقي البستان، وإني قد طلبتهما من منازلك فما حسست لهما أثر، وإذا أبو بكر عن يمينه فقال: ((يا أبا بكر قم فاطلب قرة عيني، ثم قال: يا عمر قم فاطلب قرة عيني، يا سلمان يا أبا ذر، يا فلان، قال: فأحصينا على رسول الله صلى الله عليه وآله سبعين رجلاً بعثهم في طلبهما وحثهم، فرجعوا ولم يصيبوهما، فاغتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم غماً شديداً، ووقف على باب المسجد وهو يقول: بحق إبراهيم خليلك، وبحق آدم صفيك، إن كان قرتا عيني وثمرتا فؤادي أخذا براً أو بحراً فاحفظهما وسلمهما، فإذا جبريل عليه السلام قد هبط فقال: يا رسول الله إن الله يقرئك السلام ويقول لك: لا تحزن ولا تغتم الصبيان فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وهما في الجنة، وقد وكلت بهما ملكاً يحفظهما إذا ناما وإذا قاما، ففرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرحاً شديداً، ومضى ومضى جبريل عن يمينه، والمسلمون حوله، حتى دخلوا حضيرة بني النجار فسلم على ذلك الملك الموكل بهما، ثم جثى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ركبتيه وإن الحسن معانق للحسين، وهما نائمان، وذلك الملك قد جعل أحد جناحيه تحتهما والآخر فوقهما، وعلى كل واحدٍ منهما دراعة من شعر أو صوف، والمداد على شفتيهما فما زال النبي صلى الله عليه يلثمهما حتى استيقظا، فحمل النبي صلى الله عليه وآله الحسن وحمل جبريل الحسين، وخرج النبي صلى الله عليه وآله من الحضيرة)).

قال ابن عباس: وجدنا الحسن عن يمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والحسين عن يساره، وهو يقبلهما ويقول: ((من أحبكما فقد أحب رسول الله، ومن أبغضكما فقد أبغض رسول الله)) فقال أبو بكر: يا رسول الله أعطني أحدهما أحمله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم المحمول ونعم المطية تحملهما)) فلما أن صار إلى باب الحضيرة لقيه عمر، فقال له مثل ما قاله أبو بكر، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما رد على أبي بكر، فرأينا الحسن متشبثاً بثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متكياً باليمين على رسول [101]الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووجدنا يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأسه، فدخل صلى الله عليه وآله وسلم المسجد فقال: ((لأشرفن ابني اليوم كما شرفهما الله، فقال: يا بلال عليَّ بالناس، فناداهم فاجتمع الناس فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: معشر أصحابي بلغوا عن نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم سمعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ألا أدلكم على خير الناس جداً وجدة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن جدهما محمد رسول الله، وجدتهما خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة، قال: هل أدلكم على خير الناس أباً وأماً؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن أباهما علي بن أبي طالب وهو خير منهما، شاب يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ذو المنفعة والمنقبة في الإسلام، وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وعليها سيدة نساء أهل الجنة، معشر الناس: ألا أدلكم على خير الناس عماً وعمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسين، فإن عمها جعفر ذو الجناحين يطير بهما في الجنان مع الملائكة، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب، معشر الناس: هل أدلكم على خير الناس خالاً وخالة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: عليكم بالحسن والحسن، فإن خالهما القاسم، وخالتهما زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ألا يا معشر الناس أعلمكم أن جدهما في الجنة وجدتهما في الجنة، وأبوهما في الجنة وأمهما في الجنة، وعمهما في الجنة وعمتهما في الجنة، وخالهما في الجنة، وخالتهما في الجنة، وهما في الجنة، ومن أحب ابني علي فهو معنا غداً في الجنة، ومن أبغضهما فهو في النار، وإن من كرامتهما على الله أنه سماهما في التوراة شبراً وشبيراً)).

فلما سمع الشيخ الكلام هذا مني قدمني ثم قال: ادلك على من يفعل بك خيراً هاهنا، إخوان لي في هذه المدينة أحدهما كان إمام قوم فكان إذا أصبح لعن علياً ألف مرة في كل غداة، وأنه لعنه في يوم الجمعة أربعة آلاف مرة، فغير الله ما به من نعمة، فصار آية للسائلين، فهو اليوم يحبه، وأخ لي يحب علياً منذ خرج من بطن أمه فقم إليه، ولا تحتبس عنده، والله يا سليمان لقد ركبت البغلة وإني يومئذٍ لجائع فقام معي الشيخ وأهل المسجد حتى صرنا إلى باب الدار، وقال الشيخ: انظر لا تحتبس، فدققت الباب وقد ذهب من كان معي، فإذا شاب أدم قد خرج، فلما رآني والبغلة قال: مرحباً بك، والله ما كساك أبو فلان خلعته، ولا حملك على بغلته إلا أنك تحب الله ورسوله، إن أقررت عيني لأقرن عينك، والله يا سليمان إني لأتفسر بهذا الحديث الذي سمعه وتسمعه، أخبرني أبي عن جدي، عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جلوساً بباب داره فإذا فاطمة قد أقبلت وهي حاملة للحسين، وهي تبكي بكاء شديداً، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتناول الحسين منها، وقال لها: ((ما يبكيك يا فاطمة؟)) قال: يا أبة عيرتني نساء قريش، وقلن زوجك أبوك معدماً لا شيء له، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((مهلاً وإياي أن أسمع هذا منك، فإني لم أزوجك حتى زوجك الله من فوق عرشه، وشهد على ذلك جبريل وإسرافيل[102] وإن الله تعالى اطلع على أهل الدنيا فاختار من الخلائق أباك فبعثه الله نبياً، ثم اطلع الثانية فاختار من الناس علياً فأوحى إليَّ فزوجتك إياه، واتخذته وزيراً ووصياً، فعلي أشجع الناس قلباً، وأعلم الناس علماً، وأحلم الناس حلماً، وأقدم الناس إسلاماً، وأسماهم كفاً، وأحسن الناس خلقاً، يا فاطمة إني آخذ لواء الحمد ومفاتيح الجنة بيدي، فادفعها إلى علي فيكون آدم ومن ولد من تحت لوائه، يا فاطمة إني غداً أقيم علياً على حوضي يسقي من عرف من أمتي، يا فاطمة الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وكان قد سبق اسمهما في توراة موسى، وكان اسمهمها في الجنة شبراً وشبيراً، فسماهما الحسن والحسين لكرامة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكرامتهما عليه، يا فاطمة يكسى أبوك حلتين من حلل الجنة، ويكسى علي حلتين من حلل الجنة، ولواء الحمد في يدي، وأمتي تحت لوائي، فأناوله علياً لكرامته على الله تعالى، وينادي منادي يا محمد نعم الجد جدك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، وإذا دعاني رب العالمين دعا علي معي، وإذا جثوت جثا علي معي، فإذا شفعني شفع علي معي، وإذا أجبت إجيب علي معي، وإنه في المقام عوني على مفاتيح الجنة، قومي يا فاطمة إن علياً وشيعته هم الفائزون غداً)).

وقال: بينما فاطمة جالسة إذ أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جلس إليها فقال: ((يا فاطمة ما لي أراك باكية حزينة، فقالت: بأبي وأمي كيف لا أحزن وتريد أن تفارقني، فقال لها: يا فاطمة لا تبكي ولا تحزني، فلابد من مفارقتك، قال: فاشتد بكاء فاطمة عليها السلام، ثم قالت: يا أبة أين ألقاك؟ قال: تلقيني على تل الحمد أشفع لأمتي، قالت: يا أبة فإن لم ألقاك؟ قال: تلقيني على الصراط وجبريل عن يميني وميكائيل عن يساري، وإسرافيل أخذ بحجزتي، والملائكة خلفي، فأنا أنادي يا رب يارب أمتي أمتي هون عليهم الحساب، ثم انظر يميناً وشمالاً إلى أمتي، وكل نبي يومئذ مشتغل بنفسه يقول: يارب نفسي نفسي، وأنا أقول: يارب أمتي أمتي، فأول من يلحق بي من أمتي يوم القيامة أنت وعلي والحسن والحسين، فيقول الرب: يا محمد، إن أمتك لو أتوني بذنوب كأمثال الجبال لعفوت عنهم ما لم يشركوا بي شيئاً، ولم يوالوا لي عدواً)).

قال: فلما سمع الشاب هذا مني أمر لي بعشرة آلاف درهم، وكساني ثلاثين ثوباً ثم قال لي: من أين أنت؟

قلت: من أهل الكوفة.

قال: أعرابي أنت أم مولى؟

قلت: بلى عربي.

قال: فكما أقررت عيني أقررت عينك، ثم قال لي: اتيني غداً في مسجد أبي فلان، وإياك أن تخطئ الطريق، فذهبت إلى الشيخ وهو جالس ينتظرني في المسجد فلما رآني استقبلني وقال: ما فعل أبو فلان؟ قلت: كذا وكذا، قال: جزاه الله خيراً، جمع الله بيننا وبينهم في الجنة، فلما أصبحت يا سليمان ركبت البغلة وأخذت الطريق الذي وصف لي، فلما سرت غير بعيد تشابه عليَّ الطريق، وسمعت إقامة الصلاة في مسجد، فقلت: والله لأصلين مع هؤلاء القوم، فنزلت عن البغلة ودخلت المسجد، فوجدت رجلاً قامته مثل قامة صاحبي، فصرت عن يمينه فلما صرنا في ركوع وسجود إذا عمامته قد رمى بها من خلفه، فتفسرت في وجهه فإذا وجهه وجه خنزير، ورأسه وخلقه ويداه ورجلاه فلم أعلم ما صليت، وما قلت في صلاتي متفكراً في أمره، وسلم الإمام وتفكر في وجهي، وقال: أنت أتيت أخي بالأمس فأمر لك بكذا وكذا؟

قلت: نعم، فأخذ بيدي فأقامني، فلما رآنا أهل المسجد تبعونا، فقال للغلام: اغلق الباب، ولا[103] تدع أحداً يدخل علينا، ثم ضرب بيده إلى قميصه فنزعه، فإذا جسده جسد خنزير، فقلت: يا أخي ما هذا الذي أرى بك؟

102 / 292
ع
En
A+
A-