قلنا: إن رمت بذلك أريناك التفرقة من وجوه. منها: أن ما ذكرته لو صح لكان يجب في عامر بن فهيرة أن يكون مساوياً لأبي بكر في الفضل من حيث هو معه، وأن يكون عامراً أفضل من علي عليه السلام، والإجماع يكذب ذلك.
ومنها: أنه لو صح ما قلت من أنَّ سَبق الهجرة لمن تقدم دونه عليه السلام لكان السابق إلى الهجرة هو جعفر بن أبي طالب وأصحابه بخروجهم إلى الحبشة مهاجرين بأمر رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها: أن أبا بكر لما أخبره علي عليه السلام بقدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بئر ميمون تبعه أبو بكر، فصار معه في الغار وبات علي عليه السلام على فراشه باذلاً بمهجته، وكان بذل النفس أعظم عند الله وعند رسوله من الإبقاء على النفس.
ومنها: أنه كان مع أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوي قلبه، ولم يك مع علي عليه السلام من يقوي قلبه.
ومنها: أن علياً عليه السلام كان يُرمى بالحجارة كما سلف وأبو بكر لا وجع به.
ومنها: أن أبا بكر في الغار لا يراه الكفار، وعلي على الفراش يراه من أحب، فله في بدء الهجرة بهذه الخصال المزية على أبي بكر، وعلى غيره، ومع ذلك فله المنة على أبي بكر بحفظ عائشة وكلايتها وسلامتها إذ كانت من جملة نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم اللواتي حُملن إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن عجيب الأمر في تلك الليلة مبيت أبي بكر حزيناً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكروباً، حتى كان الرسول يقول له: لا تحزن، وعلي عليه السلام صابر محتسب باذل نفسه الكريمة للسيوف الحداد، ورضخ الجنادل في فداء رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام: في جواب الشرفاء من بني سليمان، وقد ذكر الله أبا بكر في القرآن في موضعين فلم يذكره إلا بنهي، وذلك قوله عز وجل فيما حكى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}[التوبة:40]، فنهى عن الحزن في هذا الموضع.
والموضع الثاني: حيث ذكره عز من قائل: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:22].
وذلك أنه لما تكلم مسطح في أمر صفوان بن المعطل على عائشة بما تكلم، وكان قريباً لأبي بكر من قبل النساء، وكان فقيراً قد عوده الإحسان إليه فآلى أبو بكر إن زاد لا أحسن إليه فنهاه الله تعالى عن ذلك، وكان كثير السعة والمال، ثم سرد عليه السلام حكاية قصة الإفك وأهله وهذا المعنى هو الذي أردنا بقولنا: كم بينه وبين رب الحُزن، إلى قولنا: شتان بين قوة ووهن فإن في ذلك فرقاً ظاهراً يعلمه كل عاقل وسيأتي بيان شاف لذلك في بيان التفرقة، وذكر طرف من شجاعته، وثبات قلبه، وفي مبيت أمير المؤمنين عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول أمير المؤمنين عليه السلام: