وفي هذه لطيفة وهي: أنه عليه الصلاة والسلام المنذر فلا منذر معه في وقته، وكذلك علي هو الهادي فلا هادي معه في وقته فهو: الإمام وحده إذ كانت الإمامة ليست إلا له في وقته، فأما الهداية بغير ذلك فهي ممكنة، وأما قولنا: وهو له الفادي إلى آخر ما ذكرناه في ليلة الغار: فنريد بذلك ليلة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجراً بعد أن أحكمت قريش المشورة في قتله تلك الليلة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره بالخروج فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستخلف علياً عليه السلام على ودائعه، وحمل أزواجه إليه، فبات علي عليه السلام على فراش رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- فادياً له بنفسه، باذلاً هنالك مهجته، بائعاً لها من الله تعالى بما عنده تحت ظلال أربع مائة سيف تبايعوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أربعمائة قبيلة ليصير دمه هدراً؛ فكانوا وقوفاً على رأسه إلى الصباح يختلفون في أنه هل هو رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- أو لا.

فقال قائلهم: نحتاج إلى أن نرميه بالحجارة فإن كان محمداً فإنه يدفع بسحره عن نفسه الحجر، وإن كان غيره قام فرأيناه، فكان يرمى بالحجارة، وهو يصبر ولا يتحرك فقال قائل: هو محمد، وقال قائل: ليس بمحمد؛ لأنه يتضور ومحمد لا يتضور، يعني يتحرك على نفسه، ويجمع أطرافه لألم الحجر، فقام فرائه والعبا على كتفه، فهربوا منه مخافة أن يراهم فيعرفهم.

ومن كتاب:(الحياة) روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جمع أصحابه بمكة حرسها الله يوم أراد الخروج إلى الغار، ثم قال: أيكم ينام على فراشي الليلة، وأضمن له على الله الجنة فأحجم أصحابه ولم يجبه منهم أحد فقام أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أنا يا رسول الله أنام على فراشك، فنام علي عليه السلام، وأقدم على ما تأخر عنه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو القتل فأنزل الله فيه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ}[البقرة:207].

وفي الحديث: ((أن الله تعالى أوحى إلى جبريل وميكائيل، وقال: إني آخيت بينكما وزدت في عمر أحدكما فمن منكما يهب لأخيه زيادة عمره)).

 قال: فكلهما تفكر في إيثار الحياة، وفي زيادة العبادة فأوحى الله تعالى إليهما: أني آخيت بين محمد وعلي، وقد زدت في عمر علي على عمر محمد، وقد بذل مهجته له وبات على فراشه ليقتل بدله فالحقا به واحفظاه إلى الصباح فنزلا ووقف أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، وهما يقولان: بخ بخ يا علي من مثلك والله يباهي بك الملائكة)).

فلما انقضى هذا أنزل الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}[البقرة:207].

قال بن عباس: نزلت هذه الآية في علي حين بات على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا المعنى الذي أردنا بقولنا فأنزل الرحمن: {يَشْرِي نَفْسَهُ}.

وأما قولنا: فاستقبل الأزواج والودائعا: [75 -ج ] فلأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه في أشياء منها رد ودائع الناس، ومنها حمل نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه أمره بذلك بعد ثلاثة أيام، فرد الودائع وحمل نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلعلي عليه السلام سَبْقُ الهجرة، ولا اعتبار بتخلفه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه من السابقين [34 أ-ب].

وروينا عن أبي رافع قال: كان علي عليه السلام يجهز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كان في الغار يأتيه بالطعام والشراب واستأجر ثلاث رواحل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولأبي بكر ولدليلهما، وخلفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليخرِج إليه أهله وأمره أن يؤدي عنه أماناته كلها وأمره أن يضطجع على فراشه ليلة خرج.

وقال: إن قريشاً لن يفقدوني ما داموا يرونك، فاضطجع على فراش النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجعلت قريش تطلع عليه، فإذا رأوه قالوا: هو ذا نائم، فلما أصبحوا ورأوا علياً عليه السلام قالوا: لو خرج محمد لخرج بعلي، ثم خرج عليه السلام من مكة ليس معه مؤنس إلا الله تعالى، وهو يخشى المشركين، وتعب حتى انتفخت رجله؛ فلما بلغ النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- خبر قدومه قال: ادعوا لي علياً قالوا: يا نبي الله لا يقدر أن يمشي على قدميه من الورم، وأنهما يتفطران دماً، فاتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأه اعتنقه وبكى رحمةً له لما رأى ما بقدمه من الورم وأنهما يقطران دماً، وتفل رسول الله صلى الله عليه وآله في يده فمسحهما به ودعا له بالعافية، فما اشتكاهما حتى استشهد عليه السلام، فإن قال قائل: أبو بكر هو السابق في الهجرة.

128 / 398
ع
En
A+
A-