ولَمَّا كانت عقائد أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم الأخيار الأبرار في العقائد الإلهية من توحيد وعدل، ووعد ووعيد، ونبوات وإمامات، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، تتركز على الدليل القاطع، ولا يرون التقليد فيها، لا جرم كان تمحيص دليل كل مسئلة، ودفع ما يرد على ذلك الدليل من شبهة، يتخيل الناظر أنها تنقض الدلالة أو تضعفها لتكون الأدلة سليمة عن المطاعن، وهذا هو دأب المحصِّلين الذين يدأبون لتخليص أدلة الاعتقاد عن شبهة تشكك فيه، لتكون اعتقاداتهم سليمة، وصحيحة مستقيمة، عملاً بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[الزمر:18]، وبحديث: ((مَنْ أخَذَ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه، ذهبت به الرجال من يمين إلى شمال ، وكان من دين الله على أعظم زوال، ومن أخذ دينه عن التدبر لكتاب الله، والتفهم لسنتي، زالتِ الرَّواسي ولم يزل)).
ولما كانت مسائل النبوة قطعية، ظاهرة غير خفية، والامامة خالفة للنبوة، إذ الإمام قائم مقام الرسول، لما في قيامه من تنفيذ الأحكام، وتبليغ شرع الله وحراسته من أن يظام، نص جهابذة أئمتنا عليهما السلام أن مسائل الإمامة قطعية غير ظنية، وأنها يقينية، محتجين على ذلك بأدلة بسطها المؤلفون في مؤلفاتهم، وأودعوها في موضوعاتهم ورسائلهم، منها إجماع الصحابة بعد موت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فإنهم قدموا نصب الخليفة قبل الواجب الأهم من مواراته صلى الله عليه وآله وسلم ، ومنها إقامة الحدود، ومنها فريضة الجهاد للكفار والبُغَاة، وغير ذلك من الأدلة، ولما كان يرد على بعض الأدلة شبهٌ ومطاعن -كما قدمنا- فما من دليل من أدلة التوحيد والعدل إلا وقد أورد عليه الطاعنون جملة من الشبه والاعتراضات، ورد تلك المطاعن أئمة الهدى، فكذلك مسئلة الامامة اعترض المعترضون أدلتها باعتراضات ومطاعن، منها ما يرجع إلى التشكيك في دلالة الإجماع أنها غير قطعية، وأن دلالة الآية:{ومن يُشَاقق الرَّسُولَ} [النساء:115] غير صريحة بل هي ظاهر، ومنها أن الإجماع غير ممكن وإن أمكن فهو إجماع فعلي ودلالته غير قطعية، ومنها التشكيك في دلالة آية إقامة الحدود، وإن سلم دلالتها فهي باللازم فقط فليست بدلالة قاطعة، ومنها الاعتراض على دليل فريضة الجهاد بأن قالوا يمكن إقامة الجهاد بغير إمام، وليس الإمام شرطاً في إقامة الجهاد... إلى غير ذلك من التمحُلات.
ولما كانت هذه البلبة سابقة لعصر الإمام عزالدين عليه السلام كما هي في منهاج القرشي وغيره، والإمام عزالدين عليه السلام من أولئك الأفذدا الذين لا تسكن أنفسهم إلا إلى برد اليقين، ولا يطمئن إلا بعد أن يسبر البراهين ويحكها بمحك الصيرفي الخبير، وينقدها نقد الماهر البصير، ثم هو لا يقنع إلا بمجاثاة رُكب النحارير من علماء وقته، فجاثا الركب القريب منهم، وكاتب النازح، وجد في الطلب، وأورد الاشكالات في صيغة رسالة ضمنها السؤال وطلب الجواب، وذلك في أبّان شبيبته قبل تحمله للزعامة، وقبل تلبسه لدثار الامامة، وليس ذلك له بمعتقد، ولا يراه مذهباً له، ولا هو ممن يقول أن الإمامة ظنية، ولا ممن يقول بعدم حصرها في البطنين، بل أراد إزالة الشبهة ودحض الاعتراضات، فصدَّر تلك الرسالة المتضمنة للسؤال، طالباً للبحث والتنقير، ورفع الاشكالات الصادرة، ودفع الشبه الواردة، وقد دخل في السؤال البحث عن حكم نافي إمامة الإمام وحكم الصلاة خلف ذلك النافي، وحكم شهادة نافي إمامة الإمام، فوصلت الرسالة إلى العالم الأصولي المتبحر النحرير الفقيه/ عبد الله النجري رحمه الله، فأجاب على الإمام بجواب لم يعن فيه العناية اللائقة بمثله، فلم يشف صدر السائل، ولا حقق المراد في أطراف تلك المسائل، بل كان كما قال العلامة صارم الدين الوزير رحمه الله: وهو جواب ليس تحته طائل وإنما هو كما قال القائل:ـ
سألـتها
عـن ذاك فاستعـجمت |
لـم تـدر
ما مـرجـوعة السائل
ثم إنَّ رسالة الإمام وصلت إلى العالم المحقق والنبراس المدقق جمال الإسلام/ علي بن محمد البكري رحمه الله، فأجاب بجواب حلَّق في سماء التحقيق، وجمع أشتات الأدلة من كل فج سحيق، ونفى الشبه بجلي البرهان، وقشع السدول بحسن صنعة وبيان، بيد أنَّه كلام البشر الذي يُؤخذ منه ويذر، فرد الإمام عليه برد جميل، أعاد النقاش كرة أخرى، نقاش من برع ومهر، فرد الفقيه على النقاش ردّ المستبصرين، ودخل في مهامة الجدال دخول العارفين، فكشف عن الدلالة وجهها، وأبان للمهتدين نصها وفصها، ثم وصلت تلك الرسائل المتبخترة، في غلائلها المزهوة بحسن ترصيفها، وتحرير دلائلها، إلى عالم أهل البيت، المحيي لمآثر الحي منهم والميت، صارم الدين إبراهيم بن محمد الوزير رحمه الله، فأجاب بجواب العالم المتثبت، فصار كالحاكم على سؤال الإمام وجواب الفقيهين، فعند ذلك استقر للرسالة عصى الترحال فأنشد لسان حالها:ـ
فـألقت عصاها واستقـر بـها النوى |
كمـا قـر
عـيناً بالأياب الـمسافر