المسألة الثالثة: في ذكر جملة مما يجب أن يحمل عليه ما اختلف فيه من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة عليهم السلام.
إذا لم يكن الخلاف فيها منسوباً إلى من ظلم نفسه من العترة باتباعه لمذهب غير أهله بل كان منسوباً إلى أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، من ذرية المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الحنفاء.
فنقول: لا يخلو إما أن يكون مما يجوز الاختلاف فيه نحو السِّيَر والحوادث التي لا نص عليها، وما كان من الآيات والأخبار له في اللغة أكثر من معنى واحد، وإما أن يكون مما لا يجوز الاختلاف فيه نحو الواجبات العقلية، والفرائض السمعية، فإن كان من السير والحوادث التي يختلف فيها النظر لاختلاف الأحوال، أوكان مما له أكثر من معنى فنسبة الاختلاف فيه إلى الأئمة على الإطلاق من غير تبيين يكون تمويهاً وتشنيعاً، وموهمة للمساواة بين أئمة الهدى وعلماء السوء وأئمة الضلال المفرقين لأديانهم المختلفين في مذاهبهم.
وذلك مما ينفر المسترشدين من الأمة عن الاتباع لعلوم الأئمة، وإن كان مما لا يجوز الاختلاف فيه لوضوحه إما مطلقاً، أو بعد الاستدلال فنسبته إلى الأئمة على الإطلاق مع إمكان تأويله يكون قبيحاً على ما تقدم، ومن الوجوه التي يمكن حمله عليها تخوفي أن يكون الإمام الذي نسب إليه ذلك قصد الحكاية لمذهب غيره، فظن السامع أنه حكاه عن نفسه أو يكون في القول المخالف إجمالُ، أو مجاز لم يعرف السامع له معناه، وحمله على ما توهم أو يكون مما ألجأت الضرورة إلى تظهيره وترك بيانه كما قال القاسم بن إبراهيم عليه السلام:

كم من غريبة علم لو أبوح بها .... لقيل إنك ممن يعبد الوثناَ
ولا اسْتَحَلَّ أناسٌ ناسكون دمي .... يرون أقبح ما يأتونه حسنا
لا. أو يكون بعض شيعة الإمام الأول جعلوا بعض شدائده، أو رخصة فرائض وردها الإمام الثاني إلى الأصل أو يكون ذلك القول المخالف وقع من الإمام على وجه السهو والغلط أو المرور على الأثر من غير نظر، أو يكون مما ألجأت الضرورة إلى الترخيص فيه لسائل مخصوص، أو يكون مكذوباً على الإمام أو محرفاً بتبديل أو زيادة أو نقصان، ونحو ذلك مما لا طريق لذي ورع معه إلى إساءة الظن بأحدٍ من الأئمة عليهم السلام ولا إلى المخالفة بينهم، ومما يؤيد هذه الجملة من أقوال الأئمة عليهم السلام قول الهادي إلى الحق في كتاب الأحكام: وأوثق وثائق الإسلام أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلفون إلا من جهة التفريط فمن فرط في علم آبائه ولم يتبع علم أهل بيته أباً فأبا حتى ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم شارك العامة في أقاويلها، وتابعها في سيء تأويلها ولزمه الاختلاف لا سيما إذا لم يكن ذا نظر وتمييز، ورد بما وردّ عليه إلى الكتاب ورد كل متشابه إلى المحكم، وقول: الناصر للحق الحسن بن علي فيما حكاه عنه صاحب مصنف المسفر، فإذا نظر الطالب للحق في اختلاف علماء آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتبع قول أحدهم إذا وقع له الحق فيه بدليل من غير طعن، ولا تخطئة للباقين.

وقول المرتضى لدين الله محمد بن يحيى عليه السلام: في جوابه في مسائل الطبريين وإنا لنعلم أن في المسائل التي نسخناها لك مما لم يجيبا به يعني القاسم ويحيى عليهما السلام، وإجتزينا باليسير المقيم للحجة عن الكثير المفرع دقائق وزيادة في الشرح لم تقع في الكتب حفظناها من لفظ الهادي إلى الحق صلوات الله عليه ممن لحقنا من ولده، فدعانا إلى ترك شرحها لك معرفتنا بأن ذلك الشرح ليس عندكم، ولم يصل في الكتب إليكم، فخشينا عند ذلك إن شرحناه لكم أن تنسبونا إلى الخلاف، تارة أخرى وقد أعلمتك في مسائلك الأولى أنه لا يحل ولا يجوز لمن أراد الفائدة والعلم أن يسيء الظن، ولا ينسب إليَّ المخالفةَ فلكل مسألة جواب وشرح، وأوقات يظهر ذلك فيها وأوقات يغمض إلاَّ ما لا بد منه، ودهر يعمل فيه بالقليل لشر أهله والخوف لظلمهم والتعدي منهم لقلة معرفتهم، وعلى قدر الإمكان والقدرة يجب إقامة الحجة وفي دون ما ذكرنا لك كفاية غير أنه قد يحدث في الكتب من الكُتَّاب فساد بالزيادة والنقصان والتصحيف، فكلما وجدتم في كتبنا مما هو يتفاوت في أصول الحق فنعوذ بالله أن يكون منا، وإنما ذلك مزيد ومكذوب علينا ولقد وجدت في الأحكام التي وضعها الهادي عليه السلام باباً مزيوداً عليه منسوباً إليه لم يضعه، تَعَمَّل فيه بعض من لا يتقي الله فهذا ومثله كثير فما وجدتم ذلك فليس منا.

وقوله: إنما يختلف الأئمة في غير الحلال والحرام وفي الشرح والكلام، ولكل إمام في عصره نوازل تنزل به وعليه يحكم فيها بما يوفقه الله له فيستنبطها من كتاب الله وسنة نبيه، أو حجة العقل الذي يستدل بها على غامض الكتاب، ويستخرج بها الحق والصواب ولو نزلت هذه المسألة بالأول لاستخرجها كما يستخرجها الأخر، والأئمة مؤتمنة على الخلق قد أمرهم الله عز وجل بحسن السيرة والنصح لهم، فلعله إن يجري في عصر الإمام سبب من أسباب الرعية يحكم فيها بالصواب الذي يشهد له الكتاب ثم تنزل تلك النازلة في عصر إمام أخر من الأئمة لا يمكنه إنفاذ الحكم فيها ما أمكن الأول فيكون بذلك عند الله معذوراً.

وقول القاسم بن علي عليه السلام في كتاب التفريع: وما ينسب من الخلاف بين الأئمة فمستحيل ولا ينسب إليهم ذلك إلاَّ من جهل ما بين الحق والباطل، وإنما تختلف ظواهر سيرهم وتأويلاتهم، وهي موافقة للعدل غير خارجة منه... إلى قوله: وما يعترض به من الاختلاف بين ولد الحسن وولد الحسين، في التأويل والسير نحو اختلافهم في الإمامة، والكلالة والطلاق ونحو ذلك من المسائل، فأما الإمامة فذهبت كل شيعة إلى غير ما ذهبت إليه أختها، وتعلقوا بروايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يصح أكثرها، ومنها ما هو صحيح وهو على غير ما تأولوا ولقد روى لنا من وثقنا به عن القاسم بن إبراهيم عليه السلام أنه قال: أدركت مشيخة آل محمد من ولد الحسن والحسين، وما بين أحد منهم اختلاف حتى كان بآخره، ثم ظهر أحداث فتابعوا العامة في أقوالها وكذلك روى لنا في خطب جرى من عبد الله بن الحسن إلى جعفر بن محمد عليهما السلام وهما بالروحا يريدان الحج فقال جعفر بن محمد: (والله وحق هذه البنية التي أنا قاصد لها إني لمكذوب عليَّ وما المذهب إلاَّ واحدُ)، ففضلاء آل محمد متفقون، ولم تزل الأشياع مختلفين متداخلين وقوله في كتاب التنبيه: والقاسم عليه السلام العالم وبه يقتدي العالم ثم ولده من بعده يقتفون أثره، ويعلمون أمره، وما أعلم منهم من بعد القاسم إلى هذه الغاية مختلفين، ولا فيما بعد من الأرض وقَرُبَ إلاَّ مؤتلفين إلا أن يكون ذو جهل يظنه ولا يعرفه بعينه، فلعله أن يكون لقلة معرفته يتابع المخالفين تعرضاً لدنيَّ ما ينال، وطمعاً لما يأكل من سحت الأموال، ولعله مع ذلك موافق لأهل

بيته في باطن أمره.
وقوله: في كتاب (الإستفهام): وقد اتخذ كثيراً من الشيعة آراء الأئمة فرائض لازمة يكفِّرون من تركها، ويجهلون منهم من لم يعمل بها، وليس ذلك بواجب كما ذكرت فاعلم ذلك. وقول ابنه الحسين بن القاسم عليه السلام: في كتاب (مختصر الأحكام): ولست أصدق لكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقلة الثقات وطول الزمان، وهاأنا أسمع في حياتي من الروايات الكاذبة عليَّ لم أقل ولم أفعل، فربما يسمع ذلك أولياء الله فيصدقون به والعهد قريب، فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وله مدة طويلة من الزمان.
وروي عن الإمام أبي الفتح بن الحسين الديلمي عليه السلام أنه قال: أما فروع الشريعة فإن وقع بين الأئمة عليهم السلام اختلاف فليس ذلك مما ينقص من علمهم وفضلهم، لأن الاجتهاد في الدين واجب والاحتياط لازم، والرجوع إلى الكتاب والسنة مما تعم به البلوى، ولكل في عصره نظر واستدلال وبحث وكشف، وقد ينكشف للمتأخر ما لم ينكشف للمتقدم لا بأن المتقدم قصر عما بان للمتأخر...إلى قوله: وليس من الدين تخطئة واحد منهم، والحكم عليه بأنه خالف الشريعة والأئمة.
وحكى الإمام المنصور بالله عليه السلام في (الشافي) عن محمد بن الداعي أنه لما وصل الديلم وبين الشيعة القاسمية والشيعة الناصرية الاختلاف في الفروع وكل منهم يضلل من خالف إمامه جمع كلمتهم وبين لهم أن مذهب الإمامين واحد.

فانظر يرحمني الله وإياك إلى كلام هؤلاء الجماهير من أئمة العترة الزكية كيف حكموا على الأئمة بأنهم لا يختلفون ولا يحيفون، ولا يميلون وإنما هم على الحق أباً فأباً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يختلفون فيما يوجب هلكة واحد منهم، أبداً فالواجب التولي والحمل لجميع الأئمة وشيعتهم على السلامة ما لم نعلم أنه قد فارق الجماعة علماً لا يداخله شك، مفارقة توجب هلاكه، كأن يقول بالجبر أو بالتشبيه أو بأن الله يخلف وعيده للعصاة من أمة محمد أو نحو ذلك مما يوجب الهلاك، فإذا علمنا ذلك منه عرفنا بأنه ممن ظلم نفسه ووجب علينا التبري منه وعدم مولاته لقوله تعالى: ?لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...?الآية[المجادلة:22].
فهذا ما يجب العمل به عند الاختلاف، والله الهادي والموفق إلى طريق الصواب وحسبنا الله ونعم الوكيل، والله المسئول أن يقود بنواصينا إلى ما يجب علينا وأن يعصمنا عن عصيانه بحوله وطوله.

المسألة الرابعة: [كيفية اتباع الأئمة من أهل البيت]
إنه لما تبين بحمد الله أن أئمة أهل البيت على الحق لا يفارقونه ولا يفارقهم، وقد تقدم لك ما يرشدك أنه لم يقع بينهم اختلاف فيما يوجب هلكة أحدهم، وأن مذهبهم في العدل والتوحيد واحد لا يختلف، وظهر لك بحمد الله عند ظهور ذلك أنه يجب التأويل حتى تنسق أقوالهم على نهج واحد، إن أمكن وإلا فيعلم أن الشاذ ممن ظلم نفسه.
وأما كيفية اتباعهم فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو المتبع لهم إما أن يكون ممن يمكنه الاستنباط أو لا، فإن كان ممن يمكنه الاستنباط وجب عليه أن يتحرى حتى يكون اجتهاده على وفق ما ذهب إليه الأئمة، فإن لم يمكنه ذلك علم أن اجتهاده الذي أداه إلى مخالفة العترة الزكية خطأ فالواجب عليه إطراحه والرجوع إلى قولهم لأنه قد تقدم أن إجماعهم حجة قاطعة لا يجوز مخالفتها، وما أدى إليه اجتهاده لا يكون مظنوناً والظني لا يقوى على مقاومة القطعي، لأنه لا تعارض بين ظني وقطعي، كما ذلك معلوم في موضعه فهذا حكمه إذا خالف جميع العترة، فإن وافق اجتهاده لقول بعض العترة وجب عليه العمل به لأنه فرضه الذي كلَّفه، وهو العمل بظنه ولا يجوز حينئذ التقليد لإن ظنه أولى من ظن غيره.

وإن كان ممن لا يمكنه الاستنباط فلا يخلو إما أن يلتزم مذهب إمام معين أو لا، إن التزم مذهب إمام معين، وجب عليه الأخذ بجميع أقواله من الرخص والعزايم، وإن لم يلتزم مذهب إمام معين بل قلد جماعه أهل البيت وجب عليه العمل بما أجمعوا عليه لأنه لا يجوز مخالفة إجماعهم لما تقدم من أنه حجة قاطعة كإجماع الأمة بعصمتهم وإن اختلفوا ولم يجمعوا عمل بالأحوط وهو الأشق لقوله تعالى: ?فَبَشِّرْ عِبَادِي، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ?[الزمر:17-18].
مثال ذلكم الشظى فإنه إن لم يأكله يعلم أنه لا إثم عليه في ذلك، وإن أكله جوَّز ذلك، وكبيع النسيئة فإنه إذا تركه يعلم أنه لا يعاقب، وإذا فعله لا يأمن من العقاب وغير ذلك من المسائل، فلا ندامة على من اتبع الأحوط ولأنه قد حكي الإجماع من العترة عليهم السلام وغيرهم على تحريم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى، قال الإمام القاسم بن محمد رضوان الله عليه في الإرشاد ما لفظه: وقد وقع الإجماع من العترة عليهم السلام وغيرهم على تحريم الأخذ بالأخف اتباعاً للهوى ذكر ذلك في الغيث وغيره إنتهى كلامه عليه السلام فإن لم يكن أحدهما أشق فهو مخير في العمل بأي القولين شاء لأنه لا يهوى باتباعه لأي القولين لأنهما سواء.

والدليل على هذه الجملة من العقل والنقل، أما العقل فقد تقدم دليله أنه لا ندامة على من اتبع الأحوط، إن جوز أن الحق مع المخالف له لأنه قد وقع الإجماع في كلا القولين أنه لا إثم على من لم يأكل الشظى ولم يفعل النسيئة، وهذا هو الذي علمه وجاوز النسيئة وأكل الشظى لا يعلمه وقد قال تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ?[الإسراء:36] وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
(339) ((الحلال بيَّن والحرام بينَّ وبينهما أمور مشتبهات لا يعملها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
(340) وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)) وفي هذا دلالة على تحريم الأخذ بالمختلف فيه، لأنه شبهة حيث قال به بعضهم ونفاه بعضهم، وفي الخبر تصريح أن الاقتحام في الشبهة اقتحام في الهلكة حيث قال: والوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة. إذ لا هلكة إلا في اقتحام الحرام وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
(341) ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) وهذا أمر بالترك لما يريب والمجاوزة إلى ما لا يريب والمختلف فيه مريب ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا...?الآية[آل عمران: 105] وغيرها كما تقدم، وغير المختلف غير مريب لقوله تعالى: ?أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13] وعنه صلى الله عليه وآله وسلم ما لفظه أو معناه:
(342) ((...أمر استبان رشده فاتبعوه وأمر استبان غيه فاجتنبوه، وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى الله عز وجل)).

16 / 20
ع
En
A+
A-