وأما ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام من تولي بعضهم بعضاً وعدم الذم واعتذارهم بقولهم: هذا رأيي وهذا رأيك فبمراحل عن الدلالة على التصويب لأن الخطأ لا يمنع التولي ولا يبيح الذم، لكونه معفواً عنه لقوله تعالى: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ?[الأحزاب:5] وقولهم: هذا رأيي وهذا رأيك لا يدل لا بصريحه ولا بفحواه ألا ترى أنه يصح أن تقول للجبري: هذا مذهبي، وهذا مذهبك وتقول لليهودي: هذا ديني وهذا دينك، ولو كان ذلك يدل على التصويب لما جاز، وأيضاً قد أمر الله رسوله أن يقول للكفار: ?لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ?[الكافرون:6]، ولم يكن تصويباً لهم مع أنه أوكد من قولهم: هذا رأيي وهذا رأيك، لأن فيه الإضافة ولام الاختصاص، وذلك لم يكن فيه إلا الإضافة فقط، وأما دعوى عدم نقض بعضهم لحكم صاحبه إن صح فلصيانة أحكام المصيبين من أن ينقضها المخطئون كما يدعيه المخالفون لنا في نقض الأحكام المختلف فيها في هذه المسألة لأنهم يقولون لو جاز نقضها لم يستقر حكم البتة، لأن كل حاكم يستجيز حينئذٍ نقض كل حكم مخالف لمذهبه، ويفعل ذلك كما فعل غيره، وكذلك هذا إذ لا فرق وهو كاف في حل شبهتهم لكونه عندهم حجة مع أن التحقيق أنه لم يصح ذلك لأن علياً عليه السلام رد قطائع عثمان، وفعل عثمان في قطائعه جارٍ مجرى الحكم لكونه خليفة في اعتقاد نفسه في الظاهر، وفعل الخليفة في ذلك جارٍ مجرى الحكم بلا خلاف أعلمه.
أما
خبر أبي هريرة وخبر عقبة بن عامر فهما حجة لنا لأن فيهما التصريح بالتخطئة،
وأما الأجر والحسنة المذكوران فيهما فثواب من الله تعالى على النظر لأنه
عبادة إجماعاً لا على الحكم بالخطأ وإنما هو معفو عنه فقط، لقوله تعالى:
?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ?[الأحزاب:5] وأما
قولهم إن الشرائع مصالح فلا يمتنع أن يخاطب الله بمجمل يريد من كل ما فهمه؛
لأن المصالح تختلف باختلاف الناس فمُعارَض بقولنا: لا يمتنع أن يبيح في كل
ما وقع عليه النصوص من المحرمات لبعضٍ من الناس دون بعض لأن المصالح يختلف
فيها باختلاف الناس، فتكون الخمر حلالاً لزيد حراماً على عمرو! وهذا خلاف
ما علم من الدين ضرورة والفرق بينه وبين ما قالوا معدوم، إذ لا دليل ولا
مُخصص وإن كان غير ممتنع في العقل وأما قولهم: لا حكم لله فيها معين فنقول
وبالله التوفيق: لا يخلو إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد مما أنزل
الله تعالى أو لا. إن كان مما أنزل الله تعالى بطل قولهم بعدم التعيين،
وصار معيناً عند الله تعالى لأنه لا ينزل إلاَّ ما قد عينه وأثبته، إذ خلاف
ذلك لا يصدر إلاَّ عن جهل أو ذهول والله تعالى منزه عنهما وأيضاً فإن الله
قد أثبته إذا أنزله، وعلم من يحصله بنظره، وكلفه أن يعمل به فكيف لا يكون
مع ذلك معيناً عنده، وإن كان من غير ما أنزل الله تعالى فليس من الشرع لأنه
لم يشرعه حيث لم ينزله.
وقد قال تعالى: ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ?[المائدة:45] ونحوها ولم يفصل.
وأما
قولهم: إن مراد الله تابع لما أدىّ إليه نظر المجتهد لأن نظر المجتهد تابع
لمراد الله تعالى فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو إمَّا أن يكون ما أدى
إليه نظر المجتهد من الحكم مما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو
لا إن كان الأول بطل قولهم لأن جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم مراداً لله تعالى وذلك معلوم من الدين ضرورة، وأيضاً جميع ما جاء به
الرسول صراط أنه المستقيم وقد قال تعالى: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي
مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ?[الأنعام:153] وذلك نصٌ في اتباع صراطه الذي هو
مراده تعالى بلا خلاف وإن كان الثاني: فليس من الشرع لأنه ليس مما جاء به
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا من صراط الله الذي أمر باتباعه، وإنما
هو من السُّبل التي قال تعالى فيها: ?ولا تتبعوا السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ
عَنْ سَبِيلِهِ?[الأنعام:153].
وأما قول بعضهم: أنه لا يخلو إمَّا أن
يريد من كل ما أدى إليه نظره، أو يريده من بعض دون بعض أو لا يريد ذلك من
كلهم، الثالث باطل لأنه خلاف الإجماع، والثاني باطل أيضاً لأنه محاباة، ومن
وصف الله تعالى بها كفر؛ فثبت الأول.
فنقول وبالله
التوفيق: إن هذا القول لا يخلو من جهل أو تمويه على الجهال الذين لا يفهمون
لأن القائلين بتحريم الاختلاف يقولون: أن الله تعالى يريد من كلٍ في كل
قضية طلب حكم واحد إذ أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين، دون التفرق فإن
اجتمعوا عليه فذلك مراده منهم، وإن أصابه بعضٌ وأخطأه بعض فقد طابق مراد
الله المصيب وأخطأه المخطئ فهذا خارج من ذلك التقسيم، وأورد على ذلك قوله
تعالى: ?فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ...الآية?[الأنبياء:79] وقوله تعالى:
?مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى
أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5] ولا حجة لهم في الآيتين على تصويب
المجتهدين عند الاختلاف أما الآية الأولى: فهي حجة لنا لأنه لو كان داود
عليه السلام وسليمان مصيبين معاً لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام
بالتفهيم فائدة وقوله تعالى: ?وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً
وَعِلْماً?[الأنبياء:79].
احترس من سوء توهم المتوهمين على أن داود عليه
السلام لم يكن ذا حكم وعلم على الإطلاق، فإنه لو اقتصر على قوله
تعالى:?فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ?[الأنبياء:79] كما في قوله تعالى:
?أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ?[المائدة:54] فإنه ربما يتوهم أن ذلك
لضعفهم، وكقول كعب بن سعد الغنوي:
حليم إذا ما الحلم زين أهله .... مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ربما توهم أن ذلك لضعفه.
وأما
قوله تعالى: ?مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً
عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ?[الحشر:5] فمعناه الإباحة فقط لأنه
سبحانه سَوَّى بين القطع والترك، وذلك لا يدل على تصويب المجتهدين عند
الاختلاف لا با لمطابقة ولا بالتضمن ولا بالالتزام لانتفاء الجامع.
فإن قلت: كان سبب نزولها الاختلاف في ذلك.
قلت
وبالله التوفيق: قد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزول الآية السابقة أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالقطع فقيل له: كيف نفعل ذلك وقد نهى الله
تعالى عن الفساد في الأرض؟ فنزلت[بالإباحة] فبطل ما قالوا والحمد لله رب
العالمين، وإن سُلَّم ما قالوا فنزول الآية مبين لحكم ما اختلفوا فيه، وهو
الإباحة فلا حجة في ذلك والله أعلم، فثبت بحمد الله بهذه الأدلة أن الحق مع
واحد مطلقاً أصولاً وفروعاً.
فإن قلت: فما حكم المخالف في ذلك إذا قد ثبت أن الحق مع واحد أصولاً وفروعاً.
قلت:
لا يخلو إمَّا يعاند ويخالف الحق بعد وضوحه أو لا، إن كان الأول آثم
مطلقاً سواءً خالف في الأصول أو في الفروع، وإن كان الثاني، فلا يخلو إما
أن يخطئ في الأصول أو في الفروع. إن كان الثاني، فمعفو عنه لقوله تعالى:
?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا
تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ?[الأحزاب:5] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(336)
((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) وإن كان الأول: فإن كان خطأه مؤدياً إلى
الجهل بالله تعالى، وإنكار رسله في جميع ما بلغوه عن الله أو بعضه أو إنكار
ما علم من الدين ضرورة فهو كافر لأنه في الحقيقة كالمعاند لأن الله تعالى
عدل حكيم، وقد كلفه معرفته جل وعلا، ومعرفة رسله فلا بد أن يجعل له طريقاً
لا يخفى، وإلا كان تكليفاً لما لا يطاق وذلك لا يجوز على الله تعالى، ولأن
المجسم يعبد غير الله تعالى ويعتقد أن التأثير لذلك الغير كالوثنية
والمنجمة والطبائعية، ولا خلاف في كفرهم والمتأول للشرائع بالسقوط نحو
الباطنية مكذب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به فهو كمن
كذبه ظاهراً، وأنكر كونه نبياً ولا خلاف في كفره، وإن كان خطأه في غير ذلك
بعد التحري في طلب الحق والاجتهاد وفي التوقف على أوامر الشرع ونواهيه،
فمعفو عنه لقوله تعالى: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم
بِهِ?[الأحزاب:5] ولم يفصل وقوله تعالى ملقناً: ?رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا
إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا?[البقرة: 286].
وقوله صلى الله عليه
وآله وسلم: ((رفع عن أمتي الخطأ والنسيان)) ولم يفصل، والإجماع على أن من
نكح امرأة جهلاً في العدة غير آثم مع أنه قد خالف ما علم تحريمه من الدين
ضرورة وهو نكاح المعتدة فصار جهله رافعاً للإثم عنه، لأنه هنا غير معاند
لأنه قد يجوز أن يخفى دليل ما شأنه كذلك، و?لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا
إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة: 286]، ولهذا ارتفع الحرج في كل فعل لم يتعمد كمن
أراد بالرمي بعيداً فقتل نبياً.
فهذا ما أردنا نقله في
هذه المسألة، وفيه كفاية لمن أنصف، ولم يعم التعصب بصيرته والمقصود الحق،
فالحق أحق أن يتبع، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فإن قلت: قد ظهر في هذه
المسألة والمسألة التي قبلها الحقَّ والمُحق، وقد وجدنا الإختلاف بين أئمة
أهل البيت عليهم السلام في أكثر المسائل الفرعية وبعض مسائل الأصول، فما
الواجب عليه من الحمل؟.
قلت والله الهادي: أن أئمة الهدى من العترة
النبوية صلى الله على سيدنا محمد وعليهم وسلم جمعياً، لم يختلفوا فيما يوجب
هلكة واحد منهم، ولهذا أطبقوا على القول بالعدل والتوحيد واتفقوا جميعاً
في الإمامة أنها في (علي) عليه السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم بلا فصل فلا يجوز نسبتهم إلى المخالفه فإنهم على دين المصطفى صلى الله
عليه وآله وسلم وأخيه المرتضى علي عليه السلام وسبطيه الحسنين، ونجلهم
الولي زيد بن علي لا يختلفون فيما يقدح في دين واحد منهم البتة، فيكون
المفرق بينهم كالمفرق بين الكتاب.
قال السيد حميدان رحمه الله تعالى في كتاب التصريح بالمذهب الصحيح مالفظه: الفصل الخامس: وهو في ذكر حكم من يخالف بين أئمة العترة وينسبهم إلى التفرق في الدين فحكمه عندهم في الضلال كحكم من يفرق بين الأنبياء صلوات الله عليهم، وكحكم من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وكحكم من يُلبس الحق بالباطل، وبيان قبح التفريق بينهم ظاهر في الكتاب والسنة، وأقوال الأئمة أما الكتاب فنحو قوله سبحانه: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ...?[الشورى:13]الآية. وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159] وأما السنة فنحو إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الجملة بأن عترته مع الكتاب لا يفارقهم ولا يفارقونه، وذلك دليل الاتفاق على موافقة الكتاب وهو صلى الله عليه وآله وسلم صادق مصدوق، وتصديقه واجب، ومن شرط صحة تصديقه تكذيب المخالفين له في ذلك لأجل قبح الجمع بين تصديقهم وتصديقه فيه وأما أقوال الأئمة عليهم السلام فنحو ما تقدم من أقوال أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه للأئمة بأنهم لا يخالفون الدين ولا يختلفون فيه، وقال الهادي إلى الحق في كتاب القياس: فإن قال قائل: فكيف لا تقع الفرقة ولا تقع بين أولئك عليهم السلام خلفه؟ قيل: لأنهم أخذوا من الكتاب والسنة ولم يحتاجوا إلى إحداث رأي ولا بدعة. وقول ابنه المرتضى في جواب مسائل
الطبريين وقلت: هل يجوز للأئمة الاختلاف في الديانة كما جاز للأنبياء الإختلاف في الشريعة:
واعلم
أعانك الله أن الأئمة متبعة لا مبتدعة محتذية لا مخترعة من نفوسها ولا
مقتحمة بذلك على خالقها والأنبياء صلوات الله عليهم إنما اختلفوا في
الشريعة لأمر الله سبحانه لهم بذلك. وقول القاسم بن علي عليه السلام في
رسالته إلى أهل طبرستان: المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين النبيين.
وقول ابنه الحسين بن القاسم عليه السلام في كتاب (تثبيت إمامة أبيه): فكيف
إلا أنه قد قال بإجماعهم لو انتفعوا بعقولهم وأسماعهم:
(337) ((إني تارك
فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي
إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)). ولا يخلو
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لن يفترقا من أن يكون حقاً أو باطلاً فنعوذ
بالله من تكذيب الرسول ومكابرة حجج العقول، وقول الإمام المنصور بالله عليه
السلام في (الشافي): ألم تعلم أن المفرق بين العترة الهادين كالمفرق بين
النبيين، وقوله: فكيف تخالف الذرية أباها، وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه
وآله وسلم بالاستقامة بقوله لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)). انتهى ما
نقلته من كلام السيد حميدان رحمه الله وكتب الأئمة عليهم السلام مشحونة
بذلك وفي هذا كفاية لمن جهل ومزدجراً عن التفريق بين العترة الزكية لمن عقل
ولا حكم للشاذ فمن شذ شذ في النار والمراد بالشاذ الشاذ عن الحق وإن كثر،
وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:
(338) ((من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)) فمن وافق مذهبه المحكم من الكتاب والسنة فهو على الحق، ولم نجد ذلك إلا للعترة الزكية فرع الشجرة النبوية ومن تابعهم في الأقوال والأفعال، والمتمسك بهم كالمتمسك بالكتاب. نسأل الله الهداية إلى واضح الطريق وهو حسبنا ونعم الوكيل.