ولهذا قال الشافعي رحمه الله في هذا المعنى:
ولما رأيت الناس قد ذهبت بهم .... مذاهبهم في أبحر الغي والجهل
ركبت على اسم الله في سفن النجا .... وهم أهل بيت المصطفى خاتم الرسل
وأمسكت حبل الله وهو ولاؤهم .... كما قد أمرنا بالتمسك بالحبل
إذا كان في الإسلام سبعون فرقة .... ونيفٌ على ما جاء في واضح النقل
وليس بناج منهم غير فرقةٍ .... فقل لي بها يا ذا الرجاحة والعقل
أفي الفِرَقِ الهلاَّك آل محمد .... أم الفرقة اللاّتي نجت منهمُ قل لي
فإن قلت في الناجين فالقول واحدٌ .... وإن قلت في الهُلاَّك حِفْت عن العدل
رضيت علياً لي إماماً ونسله .... وأنت من الباقين في أوسع الحِلِّ
إذا كان مولى القوم منهم فإنني .... رضيت بهم لا زال في ظِلَّهم ظلي
قال: الإمام المهدي عليه السلام في كتاب الملل والنحل ما لفظه:
مسألة: ودليل كون الزيدية هي الفرقة الناجية أمران: عقلي ونقلي.
أما العقلي: فقولها بالعدل والتوحيد وتنزهها عن الجبر والتشبيه، وسنبين أن ذلك هو الحق عقلاً.
وأما
النقلي: فإجماع من يعتد به من قدماء أهل البيت عليهم السلام فلم يؤثر عن
أحد منهم جبر ولا تشبيه، وتصريحاتهم بالعدل مشهورة، وقد صرح صلى الله عليه
وآله وسلم بنجاة متبعيهم في آثار كثيرة تواردت في معنى واحد فكان تواتراً
معنوياً منها حديث الكساء وهو في الصحيح ومنها قوله صلى الله عليه وآله
وسلم:((إني تارك فيكم ثقلين...)) الخبر، وهو في الصحيح أيضاً، ومنها((أهل
بيتي كسفينة نوح...))الخبر، ونظائرها كثيرة، وكفى بذلك دليلاً على صحه
اعتقادهم وأنه المرضي عند الله ثم إن عقيدتها أحوط للقطع بعدم الندم عليها
في موضع القطع بهلكة المخطئ، وإن قدر الحق مع مخالفها إذ هو إما ملحدٌ
فواضح، أو مجبر فلا ندم على ما أجبرت عليه، ولا ثالث إذ المشبه والمثبت
للرؤية مجبر غالباً، ولا قطع بهلكة المخطئ في عقيدة غير ذلك ما لم يرد ما
علم من الدين ضرورة فيلحق بالملحدة لكفره فالفرقة الناجية حينئذ من دان
باعتقادهم الديني من هذه الفرق المعتزلة وغيرهم، وهو العدل والتوحيد ولم
يفارقهم بما يوجب الهلكة انتهى كلامه عليه السلام بلفظه.
قلت: ما ذكره
عليه السلام هو الظاهر، اللهم إلا أن يفارقوهم عناداً، فيلزم أن يفسقوا
لقوله تعالى: ?وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ?[النساء:115]وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
(331) ((من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)).
(332) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من شَذَّ شَذَّ في النار)) وغير ذلك من الأدلة وحاشى أئمة العدل والتوحيد أن يفارقوا العترة الطاهرة عناداً؛ بعد علمهم بوجوب اتباعهم، وأن إجماعهم حجة قطعية لا يجوز مخالفتها فالواجب الحمل على السلامة فإن لم فالوقف قال تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً?[الاسراء:36] فهذا ما ظهر، وللناظر في ذلك نظر و?لاَ يُكَلَّف اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة:286] والحمد لله رب العالمين.
المسألة الثانية: في بيان الحق في الأصول والفروع
هل هو مع واحد مطلقاً أو كل مجتهد مصيب مطلقاً، أو يفصل بين الأصول والفروع؟
اعلم
أن الحق في مسائل أصول الدين،وأصول الشرائع وأصول الفقه، والقطعي من
الفروع واحد اتفافاً إلاِّ عند شذوذ من الناس لا يعول على قولهم، ولا يلتفت
إليه لمصادمته الأدلة القطعية.
وأما المسائل الظنية من الفروع: ففيها
خلاف مشهور بين الأصوليين، والحق أن الحق فيها مع واحد كالأصول لقوله
تعالى: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا?[آل
عمران:103] وقوله تعالى: ?وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ?[آل عمران: 105]
وقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ?[الأنعام:159] ولم تفصل هذه الآيات بين ما كان
من الأصول وغيره، ولا بين القطعي والظني وقوله صلى الله عليه وآله وسلم
[لفظه أو معناه]:
(333) ((ألا لا يختلف عالمان ولا يقتتل مسلمان)) ولم
يفصل وقالت: البصرية وبعض أئمتنا: بل كل مجتهد مصيب في الفروع، وإن هذه
العمومات مخصصة بإجماع الصحابة، فإنه لما جرى الخلاف بينهم ولم ينكر بعضهم
على بعض، ما ذلك إلاَّ لأن الحق غير متعين، قال الإمام يحيى [بن حمزة] عليه
السلام: ولم يسمع من أحدٍ منهم إنكار على صاحبه [فيما ذهب إليه] ولا ذم،
بل يعتذرون في المخالفة بأن يقولوا: هذا رأيي وهذا رأيك، قالوا: ولم ينقض
أحد منهم حكم صاحبه.
ومما احتجوا به أيضاً ما روي عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
(334)
((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فاخطأ فله أجر واحد)) وما
روي عن عقبة بن عامر عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:
(335) ((إِقض
بينهما-يعني الخصمين- فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن أخطأت فلك حسنة واحدة))
قالوا: والشرائع مصالح ولا يمتنع أن يخاطب الله بمجملٍ يريد مِن كلّ ما
فَهِمَهُ؛ لأن المصالح تختلف باختلاف الناس[ثم] قالوا: ولا حكم لله فيها
معين، وإنما مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد، لأن نظر المجتهد تابع
لمراد الله تعالى.
قال بعضهم: بأنه لا يخلو إما أن يريد الله من كل
مجتهد ما أداه إليه نظره، أو يريد ذلك من بعض دون بعض أو لا يريده من الكل،
الثالث باطل لأنه خلاف الإجماع، والثاني باطل أيضاً لأنه محاباه، ومن وصف
الله تعالى بها كفر؛ لأنها لا تجوز عليه بقي الأول وهو: أن كل مجتهد مصيب،
ثم إنَّا نظرنا في هذين القولين أعني قول من يقول أن الحق مع واحد وقول من
يقول كل مجتهد مصيب، فإذا الثاني باطل لبطلان أدلته لما سيتضح لك الآن إن
شاء الله تعالى.
أما دعواهم الإجماع من الصحابة على تصويب
المجتهدين في مسائل الفروع الظنية فقد قال:الإمام القاسم رضوان الله عليه
أنه لم ينقل عن أحدٍ القول به قبل (البصرية)، وأما وقوع الاختلاف بين
الصحابة فإنه لا يدل على التصويب؛ لأن الأفعال لا دلالة لها على المعاني
المترجم عنها بالقول، كخرق الخضر عليه السلام للسفينة فإن موسى عليه السلام
لم يفهم بمجرده ما الغرض منه؟ فوقوع الخلاف بينهم قرينة على تخطئة كلٍ
لصاحبه، لأن العاقل في مجرى العادة لا يخالف صاحبه فيما اتفقا عليه في
طلبه، إلا لأنه أنكره وادعى خطأه وإلا لوافقه لارتفاع المانع.
وأما دعوى
عدم النَّكير من بعضهم على بعض، فباطلة لأنه نقل بالأخبار المتواترة وقوع
النزاع بينهم في ذلك ومن عادات العقلاء أن لا يقع بينهم نزاع إلا فيما
ينكره بعضهم على بعض، وأيضاً قد وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في
كثير من المسائل قال العلماء: ورجع إليه عمر في ثلاثٍ وعشرين مسألة، وصرح
أيضاً بالتخطئة في مشهدٍ من الصحابة في قضية المرأة التي استهزها عمر،
فأسقطت خوفاً منه فاستشارهم عمر، فقال عبد الرحمن وعثمان بن عفان: إنما أنت
مؤدب لا نرى عليك شيئا، فقال علي كرم الله وجهه في الجنة إن كانا قد
اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشاك.
وفي رواية أن القائل بذلك عبد الرحمن [بن عوف] وحده فقال علي عليه السلام إن كان قد اجتهد فقد اخطأ، وإن لم يجتهد فقد غشك.
وفي
رواية أخرى: فاستشار عمر جماعة الصحابة فقالوا: (لا شيء عليك لأنك مؤدب
فقال علي عليه السلام: إن كانوا جهلوا فقد أخطؤا وإن كانوا عرفوا فقد
غشوك).
ولم ينازعه أحد في التخطئة، ولو كان القول بالتصويب مذهباً
لبعضهم لنازعه فيها كما كانوا ينازعونه في كثيرٍ من المسائل لما كان مذهبهم
فيها خلاف مذهبه لا يقال أنهم قصروا في الاجتهاد فنكيره عليه السلام إنما
أوقع لأجل التقصير لأنا نقول وبالله التوفيق: حقيقة الاجتهاد[عند البصرية]
ومن وافقها: بذل الوسع في تحصيل الظن بحكمٍ فرعي عند أكثرهم مطلقاً، وعند
أقلهم لا من قبل النصوص والظواهر، وعلي عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد
في الروايتين وحكم بأنه خطأ وفي قولهم: إنما أنت مؤدب. دلالة على دعوى حصول
الاجتهاد منهم، حيث عللوا بذلك ولم يقولوه خبطا فشك فيها علي عليه السلام
فقسم قولهم إلى: الخطأ والغش في روايتين وإلى الجهل والغش في أخرى لأن
المخطئ جاهل فيما اخطأ فيه إجماعاً، فلما ثبت أنه عليه السلام قد صرح بلفظ
الاجتهاد منهم وثبتت الدلالة على دعوى الاجتهاد وجب أن يحمل اللفظ على
حقيقته المعروفة بين أهل الشرع؛ لاقتضاء المقام ذلك ضرورة ولا مقتضى للعدول
عنها، ولأن التقصير في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها وأماراتها لا
يسمى اجتهاداً في عرف أهل الشرع إجماعاً، وروى عنه عليه السلام في نهج
البلاغة أنه قال: ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه
ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم يجتمع
القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب أراءهم جميعاً
وإلههم
واحد ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، أفأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟
أم نهاهم عنه فعصوه؟، أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه؟،
أم كانوا له شركاء فعليهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟ أم أنزل تعالى ديناً
تاماً فقصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغه وأدائه والله تعالى
يقول: ?مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ?[الأنعام:38]وقال تعالى:
?تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ?[النحل:89] وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضاً،
وأنه لا اختلاف فقال سبحانه وتعالى: ?وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ
اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً?[النساء:82] وأن القرآن
ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف
الظلمات إلاَّ به.
قلت وبالله التوفيق: ولعل هذا جرى مجرى [اقتصاص]الملاحم، لأنه لم يرَو عن أحدٍ من الصحابة القول بالتصويب والله أعلم.
وقال عليه السلام: في بعض خطبه: (فيا عجباً ومالي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها).
وروي عنه عليه السلام [وعن] زيد بن ثابت وغيرهما تخطئة ابن عباس في عدم القول بالعول وروي عن ابن عباس أنه خطأ من قال بالعول.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال: ألا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن إبناً ولا يجعل أب الأب أبا.
وروي
أن أبا بكر سئل وهو على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن
الكلالة فقال: ما سمعت فيها شيئاً وسأقول فيها برأيي فإن أصبت فالله وفقني،
وإن أخطأت فالخطأ مني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان. فصرح بالرأي
وهو في عرف أهل الشرع يطلق على الاجتهاد والقياس والحكم، ولم ينقل أنه
نوزِعَ في التخطئة ولو كان التصويب مذهباً لبعضهم لنازعه، ونقل وروى أن
كاتباً كتب عند عمر: هذا ما أرى الله عمر. فقال عمر: أمحه واكتب هذا ما رأى
عمر فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن غير صواب فمن عمر.
وروي عن عمر
أنه قال: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله تعالى لم يجعل ذلك
إلاَّ لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكن ليجتهد برأيه...الخبر.
وروي أن ابن مسعود سئل عن امرأة مات عنها زوجها ولم يفرض لها صداقاً فقال: أقول فيها برأيي فإن يك صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه بريئان، وفي رواية: فمن ابن أم عبد، إلى غير ذلك وتأويل ما روي من ذلك للتشديد في الاجتهاد فقط تلعب بأقاويل أكابر الصحابة، بلا دليل إلاَّ أنه خلاف مذهب المتأول إذ لو صح التأويل لكان من اعتنق مذهباً مبتدعاً على الصواب، لأنه يمكنه شبه ذلك التأويل في كل دليل، فيقول الباطني: لا جنة ولا نار وإنما الوعد لمجرد الترغيب والوعيد لمجرد الترهيب، وذلك خلاف ما علم من الدين ضرورة وأيضاً قد وقع الخلاف بين الصحابة في الإمامة والسكوت من الجميع بعد النزاع في مسائل الفروع والإمامة من الأصول، فلو كان ذلك تصويباً منهم لجرى في الأصول كما جرى في الفروع، وهم لا يقولون: أن كل مجتهدٍ مصيب، والفرق تحكم، وأيضاً لا خلاف أن السكوت لم يقع من الصحابة إلاَّ بعد النزاع في مسائل الخلاف وإلإياس من رجوع المخالف إلى صاحبه، ومن قواعد كثير من أئمتنا عليهم السلام ومن وافقهم من علماء الإسلام: أنه لا يجب النكير إلاَّ عند ظن التأثير، وبعد النزاع والإياس من رجوع المخالف ينتفي ظن التأثير ضرورة، فكيف يعتد بسكوتهم مع ذلك في تخصيص الأدلة القطعية. انتهى. وأيضاً لا يجب النكير إلاَّ عما علمه الناهي منكراً، ولم يحصل في مسائل الفروع إلا الظن غالباً.