وأمَّا الأصل الثالث: وهو أنَّ كل تمدح راجع إلى الذات فإثبات نقيضه نقص فذلك معلوم عند العقلاء.
وأمَّا الأصل الرابع: وهو أن الله تعالى لا يجوز عليه النقص فذلك معلوم بالأدلة القاطعة وهو إجماع.
ومن الأدلة على عدم جواز الرؤية قوله تعالى لموسى لمَّا سأله الرؤية بقوله: ]رَبِِّ أرِنِي أنْظُرْ إليكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي ولَكِنِ انْظُرْ إلى الْجَبَلِ فَإِنَِّ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَرَانِي[ [الأعراف/143] ووجه الإستدلال بها أن لن في لغة العرب موضوعة للنفي المؤبد مالم تقيد بما يرفع التأبيد كما حكاه الله تعالى عن مريم عليها السلام: ]فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ أنْسِيَّاً[ [مريم/26] فلولا أنها قيدت نفي تكليمها بذكر اليوم لأقتضى النفي المؤبد كما في قوله تعالى: ]لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابَاً[ [الحج/73] و]لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا[[الحج/37] و ]ولَنْ تنَالُوا البِرَّ[ [آل عمران/92] و]لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أمْوَالُهُمْ ولا أوْلادُهُمْ...[ [آل عمران/10] وقد نفى الله تعالى الرؤية عن موسى عليه السلام بلفظة: (لن) ولم يقيده فاقتضى التأبيد ثم أكد نفي الرؤية بأن علقها بشرط مستحيل حصوله وهو أن يكون الجبل مستقراً حال جعله دكاً أي مدكوكاً مصدر بمعنى إسم المفعول والدك هو الدق فجعله سبحانه مدكوكاً أي مسوى بالأرض وجعل الرؤية معلقة بأن يراه مستقراً جبلاً على حالته الأولى في حالة جعله دكاً وقيل إن دكاً بمعنى متحركاً إذا دكت الأرض دكاً أي تحركت فيكون أيضاً مما علق بالمحال وما علق بالمحال فهو محال لأن إستقرار الجبل حال تحركه محال لأنه جمع بين النقيضين من حيث إن الإستقرار الذي هو السكون نقيض الحركة فإجتماعهما في حالة واحدة محال وما تعلق بالمحال فهو محال كما في قوله تعالى في حق الكفار:]ولا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ[ [الأعراف/40].
إعتراض قالوا: لو كانت رؤيته سبحانه مستحيلة لما سألها موسى عليه السلام، لاسيما وهو أعلم الناس بالله تعالى.
وجـوابه: أنَّه لمَّا اكثر قومه التعنت وقالوا :]أرِنَا اللهَ جَهْرَةً[ [النساء/153] ولم يقتنعوا بالأدلة العقلية على إثبات الصانع وعدم تجسيمه وأنه لايشبه الأشياء ولا تجوز عليه الرؤية ونحوها حتى علقوا إيمانهم بالصانع وما يترتب عليه من نبوة موسى عليه السلام وسائر ما جاء به على رؤيته تعالى وقالوا: ]لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً[ [البقرة/55] فأراد موسى عليه السلام أن ينضم إلى أدلة العقل دليل سمعي ينقطع عنده حجاجهم ويذهب معه لجاجهم، وسلك في طلب ذلك الدليل أبلغ مسلك ليكون أبلغ وأقطع لمحاجتهم بأن أَسند الرؤية إلى نفسه ليعلموا أنه إذا منعها مع كونه كليم الله وحبيبه فهم بالمنع أولى بخلاف مالوا أسندها إليهم لبقي الشغب معهم ومع غيرهم وإنما قلنا أن موسى عليه السلام لم يسأل الرؤية لنفسه لدليلين.