أدلة قولنا: أما كونها متقدمة على مقدورها، فنقول: لو كانت مقارنة لما تعلق الفعل بالقادر، لعدم وجود قدرته على الفعل وبعد وجود الفعل لا إختيار له فيه، فلا تعلق للفعل بفاعله، بل إنما يكون تعلقه بفاعل القدرة.
أمَّا دليل كونها غير موجبة، فنقول: إنها لو أوجبت مقدورها لزم أمران:
أحدهما: أن لايتعلق الفعل بالقادر، ولاينسب إليه، بل إنما يتعلق بفاعل القدرة لأنها موجبة، وفاعل السبب فاعل المسبب وكون القادر محلاً للسبب غير موجب كما في حركة الشجرة فإنها تنسب إلى فاعل التحرك فيها لا إليها نفسها إلا على سبيل المجاز.
وثانيهما: أنه يلزمهم ألا يكون الكافر قادراً على الإيمان لعدم وجوده منه وهو مكلف به قطعاً، وقد تقدم في الإلزامات نحو هذا، ودليل أنها صالحة للضدين: أن نقول: أنها لو لم تصلح للضدين لأمكن أحدنا أن يمشي يميناً أميالاً وفراسخ، ولايمكن أن يمشي يساراً شبراً واحداً، لأن حركته يميناً ضد حركته يساراً.
الفائدة الرابعة: في إبطال الكسب فنقول قد نفسر الكسب لغة أنه إيقاع الفعل لجلب نفع أو دفع ضرر ومنه سميت الحرف مكاسب والطيور المخصوصة كواسب وعلى هذا يحمل ما في القرآن من قوله تعالى: ]جزاءً بما كانوا يكسبون[ [التوبة/95] أمَّا كسب المجبرة فهو من الإسماء التي لامسمى لها والخيالات التي ليس لها حقيقة ولا وجود كطفر النظام وغيره’ وإنما لجأت المجبرة إلى القول به عند ضيق الخناق وسبيلنا أن نبين أولا أنه غير معقول في نفسه فضلاً عن أن نشتغل بإبطاله ولم يزل فرسان الكلام من علماء العدل والتوحيد يطالبون الخصوم بإظهار معنى الكسب فما حصلوا منه على محصول ولو كان له حقيقة أو وجود لأظهروه ولكان واضحاً لهم ولغيرهم ونحن نقدم طريقة قاطعة، فنقول أخبرونا عن الكسب أشيء هو أم لاشيء إن قلتم لاشيء فهو الذي نريد لأنه غير معقول وإن قلتم هو شيء قلنا أقديم هو فما وجه نسبته إلى العبد ومدحه وذمه وإثابته ومعاقبته عليه’ وإن قلتم محدث فهل تفرد الله بإحداثه فما وجه إضافته إلى العبد أم تفرد به العبد فقد تركتم مذهبكم وأثبتم أن العبد محدثاً للفعل أم أحدثه الله واكتسبه العبد فيعود السؤال’ وأما أن يقتصر على الفعل وينفي منه الكسب من أول وهلة وهذا دليل عقلي قاطع لامناص لهم منه ولا مخرج إلا بإبطال الكسب والرجوع إلى الحق وبتمام هذا تم الجواب عن مسألة أفعال العباد، وإن كنت أحب التوسع فيها والإيضاح لما يتعلق بها ودفع بعض الشبه لأنها في هذا الزمان كثيرة الدوران والحاجة لمعرفتها والعلم بها وبأدلتها من فروض الأعيان ولكنه ترجح الإكتفاء بما قد حررناه خوفاً من التطويل الممل ونسأل الله الهداية.