قال مولانا جمال الإسلام علامة العصر علي بن محمد العجري رحمه الله: فإن قيل: الآية واردة في الكفار بدليل قوله تعالى بعدها: ]حَتَّى إذَا رَأَوْا مَا يُوْعَدُوْنَ فَسَيَعْلَمُوْنَ مَنْ أضْعَفُ نَاصِراً وأقَلُّ عَدَدَاً[ [الجن/24] إذ لا يكون هذا إلا مع الكفار؟ قيل له: بل يكون معه ومع غيره بدليل قوله تعالى: ]فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ إِلَى قوله: فمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ[ [الطارق/5ـ 10] والضمير للإنسان وهو عام، إذ كل فرد من أفراده مخلوق من ماء دافق خارج من بين الصلب والترائب داخل تحت قدرة القوي القادر، سلمنا فالآية كلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى ما بعده، فخصوص ما بعده لا يمنع من عمومه، وقد تقرر في الأصول أن خصوص آخر الآية أو الخبر لا يمنع من عموم أوله حيث كان مستقلاً بنفسه، ونظيره قوله تعالى: ]والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍٍ[ [البقرة/228] فإنه عام للبائنة والرجعية، ثم ذكر في آخر الآية حكماً خاصاً بالرجعيات ]وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ[ [البقرة/228] ولم يكن قادحاً في عموم أولها، فكذلك هنا اهـ.

وقوله تعالى: ]ومَنْ يقتلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدَاً فِيْهَا الآية[[النساء/93] ودلالتها واضحة إذ أخبر أن ذلك جزاؤه.

قال مولانا العلامة علي بن محمد العجري رحمه الله، قالوا: الآية إنما تدل على استحقاقه للجزاء، والإستحقاق لا يوجب وقوع المستحق، قلنا: خلاف ما يقتضيه ظاهرها سلمنا فلا نسلم أن الإستحقاق لا يوجب الوقوع إذ تجويز عدم الوقوع فضلاً عن القطع به يستلزم الإغراء بالمعاصي وهو قبيح، فيجب القطع بوقوعه بذلك، وقد قال تعالى: ]مَنْ يَعْمَلْ سُوْءً يُجْزَ بِهِ[ [النساء/123] قالوا: تقدير الآية: فجزاءه جهنم إن جازاه، قلنا: هذا التقدير لا دليل عليه ولا ملجيء إليه، فوجب القطع بعدمه، قالوا: الآية ليست على ظاهرها، وإلا لوقعت المجازاة عقيب القتل والفاء للتعقيب، وإذا كان لا بد من التأويل والتجوز فلستم بأولى منا بذلك فقولكم: إنه محمول على أنه سيجازى به في الآخرة ليس بأولى من قولنا: إنه محمول على الإستحقاق أو على شرط مقدر كما مر، قلنا: قد تقرر أن الكلام إذا لم يمكن حمله على الحقيقة وجب حمله على أقرب المجازين منهما، لأن الأبعد منهما مع الأقرب كالمجاز مع الحقيقة، فكما لا يجوز حمله على المجاز مع إمكان الحقيقة فلا يجوز حمله على أبعد المجازين مع إمكان الأقرب إلى أن قال: وحمل الجزاء في الآية على أنه سيجازي في الآخرة أقرب من حمله على الإستحقاق أو على شرط مقدر لأن في تأويلنا موافقة للظاهر في أنه واقع لا محالة، وفي أن وقوعه مستقبل بالنظر إلى وقوع المعصية والفاء تقتضي وقوعه في المستقبل إلا أنه بلا مهلة، والتأويل فيه بمهلة، ولا شك أنه أقرب إلى الحقيقة لاشتراكها في الإستقبال انتهى.

وقوله تعالى: ]إنَّ الْمُجْرِمِيْنَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُوْنَ[ [الزخرف/74] والمجرم يتناول الفاسق والكافر لغة لأنهم لا يفرقون بين قولهم مذنب ومجرم، والمذنب يشملهما جميعاً فكذلك المجرم، وشرعاً كذلك، إذ لا فرق عند أهل الشرع بين قولنا مجرم بالزنا ومذنب بالربا.

قال مولانا جمال الإسلام مجتهد العصر علي بن محمد العجري رحمه الله: قالوا: الآية في الكفار لقوله في آخرها: ]لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وهُمْ فِيْهِ مُبْلِسُوْنَ[ [الزخرف/75] ، وقوله بعدها: ]أمْ يَحْسَبُوْنَ أنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ ونَجْوَاهُمْ[ [الزخرف/80] ، وهذا لا يتأتى إلا في الكافر، قلنا: بل يتأتى فيهما سلمنا قوله: {إنَّ الْمُجْرِمِيْنَ الآية} كلام تام مستقل بنفسه، فدخول التخصيص في آخره لا يمنع عمومه كما مر، قالوا: الآية ليست على ظاهرها وإلا لزم وقوع العقاب في الحال لأن كلمة {إن} لتحقيق الخبر في الحال وحينئذٍ فلا بدَّ من التأويل، ولستم أولى به منا فنحمله على الإستحقاق، قلنا:(إنَّ) كما ترد لتحقيق الحال فقد ترد لتحقيق الخبر في المستقبل بل تحقيقه في المستقبل أحوج إلى التحقيق في الحال، لأن العلم بوقوعه يغني عن التأكيد بها، ويدل على ورودها للتحقيق في المستقبل قوله تعالى: ]وإنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ[ [النحل/124] ثم إن في الآية لفظ الخلود وهو ينافي ظهورها في تحقيق الخير في الحال ويصرف عنه، قوله: فيحمله على الإستحقاق، قلنا: ممنوع لما مر من أنه إذا تعذر الحمل على الحقيقة عدل إلى أقرب المجازين منهما، والحمل على وقوع العذاب في المستقبل أقرب إلى الحال من الإستحقاق لاشتراكهما في الوقوع ولا سيما مع نصب القرينة المعينة للمجاز الأقرب وهو ذكر الخلود هذا على فرض كون كلمة إن ليست حقيقة في المستقبل، كيف وقد بينا استعمالها فيه كالحال، انتهى.

120 / 203
ع
En
A+
A-