واعلم: أن القول بالإرجاء فاش في جميع فرق الإسلام من العدلية والمجبرة والإمامية، والنفوس مايلة إليه طمعاً في الخير وأماناً من الشر، قال بعضهم: مثال القائل بالإرجاء كرجل يمشي إلى الغرب وهو مع ذلك يرجو أن يبلغ مشيه إلى المشرق، والمرجية هم المجبرة بأسرهم والمجسمة كلهم، ومن المعتزلة محمد بن شبيب وغيلان الدمشقي ومويس بن عمران وأبو شمر، وصالح قبة والرقاشي والصالحي والخالدي وغيرهم، ومن الزيدية أبو القاسم البستي من فقهاء المؤيد بالله، ومن التابعين سعيد بن جبير، ومن الفقهاء حماد بن سليمان وأبو حنيفة وأصحابه، وتفصيل مذاهب هؤلاء وأقوالهم في بسائط الأصول كالمعراج والغايات، والأدلة على ما ذهب إليه الزيدية والمعتزلة ومن وافقهم من الإمامية والخوارج على أن ما ورد من الوعيد لفساق أهل الصلاة مقطوع به من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه آيات كثيرة منها ما هو عام في أهل الصلاة وغيرهم، ومنها ما هو خاص بأهل الصلاة، نحو قوله تعالى: ]وإنَّ الفجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ يَصْلَونَها يَوْمَ الدِّيْنِ ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[، وقوله تعالى: ]ولَوْ يَرَى الَّذِيْنَ ظَلَمُوا إذْ يَرَوْنَ العَذابَ أنَّ القُوَّةَ لِلهِ جَمِيْعَاً إلى قوله: كَذِلْكَ يُرِيْهُمُ اللهُ أعْمَالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ومَا هُمْ بِخَارِجِيْنَ مِنَ النَّارِ[ [البقرة/165ـ 167]، والظالم يعم الكافر والفاسق إجماعاً وكذلك المجرم في الآية الأولى، أما صاحب الصغيرة فهو مُخصَّص بالإجماع فبقي الكافر والفاسق في حكم هذه الآية، وقوله تعالى: ]فأمَّا مَنْ طَغَى وآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإنَّ الْجَحِيْمَ هِيَ الْمَأْوَى[ [النازعات/37ـ39] والطاغي يعم الكافر والفاسق، وقد حكم الله Y أن الجحيم مأواهما، وقوله تعالى: ]إنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِلطَّاغِيْنَ مَآبَاً لابِثِيْنَ فِيْهَا أحْقَابَاً[ [النبأ/21ـ23] والطاغي عام في كل كافر وفاسق، وقد حكم الله تعالى وحكمه الحق أن جهنم مآب الطاغي، ولو دخل الجنة على قول المخالف لزم خلف قوله وتبديله، والله يقول: ]ما يُبَدَّلُ القولُ لديَّ[ [ق/29]، ولزم الكذب والله يتعالى عنه، قال المخالف: الحقب ثمانون سنة، وأقل الجمع ثلاثة فيحمل عليه، قلنا: غير مسلم أن الحقب ثمانون سنة بل هو اسم لقطع من الزمن غير محدود، وإن سلم فلم نقل أحقاباً متناهية المقدار مع أنه لو حمل على قولهم وقع التناقض بين هذه الآية والآيات المصرحة بالخلود، والقرآن لا يتناقض فوجب حمل الآية هذه على أنها أحقاب غير متناهية، وقوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَشْتَرُوْنَ بِعَهْدِ اللهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيْلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ ولا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ[ [آل عمران/77]، وقوله تعالى: ]والَّذِيْنَ يَنْقُضُوْنَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيْثَاقِهِ ويَقْطَعُوْنَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أنْ يُوْصَلَ ويُفْسِدُوْنَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوْءُ الدَّارِ[ [الرعد/25]، وقوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ مَا أنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ ويَشْتَرُوْنَ بِهِ ثَمَناً قَلِيْلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُوْنَ فِي بُطُوْنِهِمْ إلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا يُزَكِّيْهِمْ ولَهُمْ عَذَابٌ ألِيْمٌ[ [البقرة/174]، وقوله تعالى: ]إنَّ الَّذِيْنَ يَكْتُمُوْنَ ما أنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ والْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ ويَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُوْنَ[ [البقرة/159]، وقوله تعالى: ]مَنْ كَانَ يُرِيْدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِيْنَتَهَا نُوَفِّ إلَيْهِمْ أعْمَالَهُمْ فِيْهَا وهُمْ فِيْهَا لا يُبْخَسُوْنَ أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إلاَّ النَّارُ وحَبِطَ مَا صَنَعُوْا فِيْهَا وبَاطِلٌ ما كَانُوْا يَعْمَلُوْنَ[ [هود/15، 16]  وقوله تعالى: ]مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍٍ آمِنُوْنَ ومَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُوْنَ[ [النمل/ 89، 90] والفاسق أتى بالسيئة كالكافر لا يقال قد أتى بالحسنة التي هي الإسلام، فدخوله في عموم الجملة الأخيرة ليس بأولى من دخوله في عموم الجملة الأولى، لأنا نقول قد شرط الله  Yعلى المسلمين الإستقامة ]إنَّ الَّذِيْنَ قَالُوْا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوْا[ [فصلت/30] والفاسق لم يستقم، وقال تعالى: ]إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِيْنَ[ [المائدة/27]، والفاسق غير متقي، وقوله تعالى: ]بلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأحَاطَتْ بِهِ خَطِيْئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [البقرة/81].

قال مولانا جمال الإسلام علي بن محمد العجري رحمه الله في مفتاح السعادة: ووجه الإستدلال بها أن لفظ بلى إثبات لما بعد حرف النفي، وهو قوله تعالى: ]لَنْ تمسَّنا النَّارُ إلاَّ أيَامَاً مَعْدُوْدَةً[ [البقرة/80] أي بلى تمسكم أبداً، ولما كانت السيئة متناولة للصغاير والكبائر بيَّن الله سبحانه وتعالى أن المستحق لهذا الوعيد إنما هو من كانت سيئاته محيطة به، والإحاطة حقيقة إنما تكون في الأجسام كما في إحاطة السور بالبلد والثوب بالجسد، وذلك ممتنع هنا فتعين حملها على المجاز، فنقول: شبَّه إحباط المعاصي لثواب الطاعة بالشيء الساتر لغيره المحيط به من جميع جوانبه، فأطلق عليه لفظ الإحاطة، وهذا التشبيه إنما يتأتا في الكبائر لأنها الذي يحصل بها الإحباط، ووجه آخر وهو أنه شبَّه الكبيرة إذا أحبطت بثواب الطاعات بإحاطة عسكر العدو بالإنسان بحيث لا يمكنه التخلص فكأنه قال: بلى من أحاطت كبيرته بطاعاته فأولئك أصحاب النار.

فإن قيل: الآية نزلت في اليهود إذ هي رد لقولهم: ]لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَامَاً مَعْدُوْدَةً[؟

قيل: الخطاب عام، والعام لا يقصر على سببه، ومن ادعى التخصيص فعليه الدليل انتهى.

وقوله تعالى: ]ومَنْ يَعْصِِ اللهَ ورَسُوْلَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أبَدَاً[ [الجن/23]، والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر فيجب حمله عليه، إذ لو أراد أحدهما لَبَيَّنَهُ.

119 / 203
ع
En
A+
A-