وقد احتجَّ أصحابنا بقوله تعالى: ]وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ[ [الأنبياء/34] والمراد البقاء الذي لا ينقطع، فأما البقاء المنقطع فقد جعله لكل البشر، إذ لا شك أن من كان قبله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته قد لبث في الدنيا لبثاً منقطعاً، فلو كان الخلود موضوعاً للبث المنقطع لم يكن للآية معنى، فلا بد من القول بأنه تعالى أراد وما جعلنا الخلود الذي هو الدوام لبشر من قبلك أفإن مت فهؤلاء أعداءك يبقون بعدك دائمين، ويدل أيضاً على أن الخلود هو البقاء الدائم المؤبد أنه صح تأكيده بلفظ التأبيد كما قال تعالى: ]خَالِدِيْنَ فِيْهَا أبَدَاً[ [المائدة/119] فإن أهل اللغة نصوا على أن قوله: {أبداً} تأكيد لمعنى الخلود، فلولا أن الخلود يفيد دوام البقاء لما صح تأكيده بما يفيده، ومنها أنه يصح الإستثناء من الخلود مقداراً من الوقت، فيقال: خالدين فيها إلا سنة أو سنتين، فلولا أن لفظة الخلود مستغرقة لم يصح الإستثناء.
قال الإمام يحيى بن حمزة عليه السّلام: ويوضح ذلك أن تلك الآيات دالة على خلود الكفار فيجب أن تكون دالة على خلود الفساق، احتج الرازي على ما ادعاه في معنى الخلود فقال: قد بنيتم أن لفظ الخلود مستعمل في لفظ المكث مع الدوام، ونحن بنينا أنها مستعملة في طول المكث من غير دوام، فأما أن يجعل اللفظ مجازاً في أحدهما وهو على خلاف الأصل أو مشتركاً بينهما، وهو أيضاً على خلاف الأصل أو نجعله مقيداً بطول المكث فقط حتى يكون اسم الخلود بالنسبة إلى الدائم وغير الدائم كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس بمعنى أنه يقع عليهما على سبيل التواطؤ وذلك أقرب إلى الدليل فتكون لفظة الخلود مفيدة لطول المكث فقط، فأما أن ذلك المكث الطويل هل يتعقبه انقطاع أم لا فذلك إنما يعرف بطريق آخر، كما أن لفظة اللون لا يفيد إلا هذه الحقيقة المشتركة بين السواد والبياض، فأما خصوصية كل واحد منهما فإنما يستفاد من دليل آخر، وإذا كان كذلك لم يكن لفظة الخلود دليلاً على المكث بغير انقطاع، والجواب أن اللغة لا تثبت بمثل ما ذكره من حسن الصناعة، ولا تثبت بالعقل وترجيحه، وإنما تثبت بالنقل عن أئمتها، ومن المعلوم عند أئمة اللغة هو ما نقلناه عنهم أن الخلود هو البقاء الذي لا ينقطع، وهو المتبادر إلى الفهم عند اطلاقه، وذلك دليل الحقيقة، وإن استعملت في غير ذلك فمن قبيل المجاز.
إذا عرفت هذا فأئمتنا والمعتزلة وغيرهم يحتجون على خلود الفساق من أهل الصلاة في النار بأدلة كثيرة قرآناً وسنة، فمن الأدلة القرآنية قوله تعالى: ]ومَنْ يَعْصِِ اللهَ ورَسُوْلَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُوْدَهُ يُدْخِلْهُ نَارَاً خَالِدَاً فِيْهَا ولَهُ عَذَابٌ مُهِيْنٌ[ [النساء/14]، ]فإنَّ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ خَالِدِيْنَ فِيْهَا أبَدَاً[ والفاسق عاص بلا خلاف، وقوله تعالى: ]ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً … إلى قوله: خَالِدِاً فِيْهَا[ [النساء/93] ، وقوله تعالى: ]ولا يَقْتُلُوْنَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالْحَقِّ ولا يَزْنُوْنَ ومَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يَلْقَ أثَامَاً يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ ويَخْلُدُ فِيْهِ مُهَانَاً[ [الفرقان/68، 69]، وقوله تعالى: ]لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَامَاً مَعْدُوْدَةً… إلى قوله: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وأحَاطَتْ بِهِ خَطِيْئَتُهُ فَأُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [البقرة/80، 81]، وقوله تعالى: ]وإنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ يَصْلَونَهَا يَوْمَ الدِّيْنِ ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ اعترض الرازي الإحتجاج بقوله تعالى: ]ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ بناءً على أن بقية الآيات قد نقض حجتها بما ذكره من الخلود بأن قوله: ]ومَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِيْنَ[ لا يقتضي الدوام، فإنَّه يصح أن يقال: فلان ما غاب عني إلى وقت الظهر، فلو كان ذلك مقتضياً للدوام لكان تحديده بحد معين مناقضاً له، ولأنه إذا قيل فلأن لا يغيب عني فإنه لا يصح أن تستفهم، ويقال: لا يغيب عنك أبداً أو في أكثر الأوقات، ولو كان ذلك نصاً في الدوام لما صح الإستفهام، ثم إن سلمنا كونه نصاً في الدوام لكنا نقول المرجئة تحمله على الكفار لا سيما إذا ثبت أن الألف واللام لا يقتضيان العموم.
والجواب: أما قوله: لكان تحديده بحد معين مناقضاً له؟ فنقول: لا نسلم المناقضة في ذلك فإنه يصح أن يقال: فلان لا يعصي الله في كل وقت وزمان مستقبل إلى أن يموت، فليس يلزم من استغراق المطلق للأوقات عدم صحة التقييد فكلامه في ذلك غير سديد، وأما عدم صحة الإستفهام بأن يقال: أتريد أن لا يغيب عنك أبداً فللقرينة العقلية التي نقطع معها بأن ذلك غير مراد له، وأنه لا يصح أن يقصده لا ستحالته، وأما حمل الفجار على الكفار فقط فغير مسلم، لأن لفظ الفجار يدخل فيه الفساق، فتخصيصه بالكفار تخصيص لا دليل عليه، وأما اقتضاء الألف واللام للعموم فدليله صحة الإستثناء نحو: ]إنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلاَّ الَّذِيْنَ آمَنُوْا[ [العصر/2’3] وإنكار ذلك مكابرة، ونعود إلى ذكر بعض الأدلة على خلود الفساق في النار قال تعالى في آخر آية الربا: ]ومَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [البقرة/275]، وقال تعالى: ]والَّذِيْنَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ… إلى قوله: أُوْلَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ[ [يونس/27] وفي هذا القدر من آيات القرآن الكريم مقنع وكفاية، ويدل على ما قلناه من السنة أخبار كثيرة فمنها عن سلمان t قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحسن والحسين من أحبهما أحببته، ومن أبغضهما أبغضته، ومن أحببته أحبه الله، ومن أحبه الله أدخله الجنة جنة النعيم، ومن أبغضهما وبغا عليهما أبغضته، ومن أبغضته أبغضه الله، ومن أبغضه الله أدخله نار جهنم خالداً فيها وله عذاب مقيم)) رواه أبو طالب، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً فيها مخلداً أبداً)) أخرجه المرشد بالله، والشيخان، وعن عبادة بن الصامت أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((مَنْ قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)) أخرجه أبو داود، وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مَنْ أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله U مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله)) أخرجه أحمد وابن ماجة والبيهقي وابن المنذر، وعن حذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ((في أصحابي اثنى عشر منافقاً منهم ثمانية لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط)) أخرجه أحمد ومسلم.
ولما أتينا ببعض الأدلة على خلود فساق أهل الصلاة في النار حسن أن نتبع ذلك بفصل نذكر فيه أنَّ ما ورد من الوعيد للفساق مقطوع به بمعنى أنه يفعل بهم ما يستحقونه من العقاب، ونورد قبل ذلك حكاية الخلاف في المسألة، ونتبع ذلك بالأدلة ونعقب بعد ذلك بالشبه التي أوردها الخصوم علينا في المطالب الثلاثة الشفاعة والخلود، وأن ما ورد من الوعيد للفساق مقطوع به ونورد الجواب عن تلك الشبة بعون الله تعالى فنقول: قالت الزيدية والمعتزلة وبعض الإمامية والخوارج وغيرهم: أن كل واحد من فساق هذه الأمة وأهل الكبائر يستحق العذاب في النار في الآخرة إن مات غير تائب، فلا بد أن يدخلها ويعذب فيها أبد الأبدين، وما هم عنها بغائبين، وخالفنا في ذلك المرجئة على طبقاتهم.