الدليل الأول قالت العدليه: لو كانت الشفاعه للمصرين لَكانت إغراء بالقبيح لأن العبد إذا علم أنه لا يدخل النار لأجل الشفاعة، وإن دخل النار خرج بالشفاعة حمله ذلك على فعل القبيح وليس الإغراء إلا تقوية الدواعي إلى ارتكاب القبائح على وجه يأمن العقاب، والمعلوم أن الإغراء بالقبيح قبيح فما أدى إلى القبيح وجب أن يكون قبيحاً، والشفاعة بالمعنى الذي ذكره الخصم تؤدي إليه قطعاً فوجب قبحها، إن قال الخصم: تجويز العقاب كافٍ في نفي القبح؟ قلنا : قطعتم بوقوعها فلا تجويز مع القطع، فإن قيل، نحن نقول بجواز دخوله النار ثم يخرج منها، وذلك كافٍ في الزجر إذ من حق العاقل أن لا يؤثر لذة يسيرة على عذاب يومٍ واحد في النار بل ولا عذاب ساعة واحدة أو أقل منها، فلا يكون الباري مغرياً بالقبيح، قلنا:لا نسلم أن ذلك كاف في الزجر، لأن الإنسان إلى تأثير العاجل أميل ولا يبعد أن يهون عنده ما يلقاه من العذاب الآجل المنقطع في جنب فوزه بلذة القبيح العاجل، وهذا هو شأن أكثر الخلق فإنهم يؤثرون لذة القبائح على ما يعلمونه من شدة العقاب الدائم فكيف إذا علموا انقطاعه ولم يجزموا بوقوعه كالخصوم.
الدليل الثاني: أن القول بشفاعة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لمن مات مصراً على الكبائر يؤدي إلى نقيصة في النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، وما أدى إلى ذلك كان باطلاً، بيان ذلك أن شفاعة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم للفساق في قوة ما لو قال: يا رب إنك أرسلتني إلى هؤلاء وأمرتني أن أبلغهم أنه يجب عليهم طاعتك، وأنك تثيبهم عليها وتحرم عليهم معصيتك، وأنك تعاقبهم على فعلها وقد بلغتهم ذلك ووعدت المحسن بثوابك والمسيء بعقابك، وأنا اليوم أسألك أن تبطل ذلك وتجعل المسيء مع المحسن والفاسق مع المؤمن، وهذا لا يقع من عاقل فضلاً عن النبي الكامل فإن التفرقة بين المسيء والمحسن أمر مركوز في العقول كما في قوله تعالى: ]أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِيْنَ كَالْمُجْرِمِيْنَ مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُوْنَ[ [القلم/35، 36]، ولو فرض وقوع هذا كان فيه تزهيد للمحسن في الإحسان وتشجيع للمسيء على العصيان.
الدليل الثالث: أن ذلك يؤدي إلى أحد باطلين لأنها إما أن تقبل شفاعته للمصرين أم لا، باطل أن تقبل لما في القرآن من الإخبار بخلود الفساق في النار أبداً أولا تقبل وذلك باطل لما فيه من حط مرتبته صلى اللّه عليه وآله وسلم ومن إخلاف وعده بقوله: ]عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُوْدَاً[ فلم يبق إلا القطع بعدم الشفاعة للمصرين على الكبائر وهو المطلوب.
الدليل الرابع: أن الشافع للمصر كالشافع بالعفو عمَّن قتل ولد رجل وهو مصر على قتل ولد له آخر، فكما أن هذه الشفاعة تقبح عقلاً فكذلك الشفاعة للمصرين هكذا حرره قاضي القضاة قال: ولم يحصل سمع ناقل لقضية العقل فوجب البقاء عليها. هذه الحجج العقلية كما ترى وقد اعترض بعض النقاد الإحتجاج بها أما الأولى فقال: إن تجويز دخول النار لا يؤثر في الزجر فمن المعلوم أن لذة شهوة القبيح وإن بلغت ما بلغت لا تغلب هذا الصارف فلم يكن القطع بالشفاعة مؤدياً إلى الإغراء بالقبيح لوجود الصارف .
قلنا: بل هو إغراء بالقبيح معلوم قطعاً، وما مثال ذلك إلا قول من قال لشخص اقتل فلاناً وأنا سوف أمنع عنك القصاص وإن نالك بعض الحبس والإهانة فهو يقدم على القتل وهو يعلم بقبحه وأنه يستحق القصاص، فقول القائل سأدفع عنك القصاص إغراء لامحالة لأنه أغراه بمقالته فلو صح القطع بالشفاعة لكانت عين الإغراء فاندفع الإعتراض.