1- أن تأليفه تم في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي). وهو وقت مبكر بالنسبة لعلاقته بأصول وأسس منهج البحث في الفكر الإسلامي؛ إذ ظل المنهج التقليدي مسيطراً على التأليف والبحث حتى بداية القرن الحالي بصفة عامة، وفي شبه الجزيرة العربية بصفة خاصة، حتى منتصفه تقريباً.
2- أن مؤلفه بدأ في تأليفه، في ما يمكن تقديره ببداية العشرين عاماً الأخيرة من عمره، هذا من ناحية، ومن أخرى، أنه توقف عن الاستمرار في تأليفه عند شطر من الجزء الثاني منه(1) فترة امتدت على التوالي، اثنتي عشرة سنة، ثم عاد ليستأنفه من مكان توقفه منوهاً بذلك ومعتذراً عما قد يظهر من تكرار بسبب الانقطاع؛ ومن ناحية ثالثة، فقد أكمله بخطه كما يظهر من بعض الأجزاء في سنوات عمره الأخيرة. وكان انتهاؤه من الجزء الأخير (الثامن عشر) في أواخر عام (748)، أي قبل وفاته بأشهر معدودة(2) وقد بلغ الثمانين من العمر. ومن ناحية رابعة.. فقد أكمله، لا في حالة دعة من العيش ورخاء من الحياة، بل وهو في حالة من المعاناة وقسوة الحياة والظروف، حيث كان مرابطاً في أحد الحصون(3) مواصلاً جهاده ودعوته إلى اللّه، ومثابرته على نشر العلم والعدل والسلام.
3- أن من تلاه زمناً، أو اقتفاه أثراً في منهجه من المؤلفين في مجاله وبلده، لم يبلغوا في اقتفائهم إياه ما بلغ من سبقه وتفرده بهذا المنهج المتميز(4).
الثالث: نماذج من منهجه.
__________
(1) آخر باب التيمم.
(2) جاء تاريخ انتهاء المؤلف من تأليف الكتاب، في العشر الوسطى من شهر ذي الحجة سنة 748هـ. وتاريخ وفاته في العام التالي 749هـ.
(3) حصن هران) في مدينة (ذمار) التي تبعد 100كم جنوب صنعاء وقد أشار المؤلف في أثناء الكتاب وفي نهايته إلى حالة الحصار التي عاشها في الحصن المذكور.
(4) راجع ما كتبه د: أحمد محمود صبحي عن منهج المؤلف في كتابه (الزيديه في اليمن).

في آخر هذا الملمح عن منهج الكتاب، قد يكون مفيداً حصر نماذج أطره التي استخدمها المؤلف في رؤوس موضوعاته، وأصناف تفريعاته، وهي بحسب ترتيبها في طريقة استخدامه إياها.. أساليب تتنوع نماذجها من حيث اتساعها في ما يمكن أن نلخصه في تقسيمات أربعة هي:
الأول: التقسيم العام، وهو الذي حدده في بداية الكتاب، ويبدأ (بكتاب ...)، ثم يقسمه إلى أبواب، والأبواب إلى فصول، والفصول إلى مسائل، وهذا ما يمكن أن نسميه بالتركيب الجذري، أو التقسيم المبدئي للكتاب (الذي هو جزء من كتاب الانتصار).
ثم يتوصل إلى النتائج ومناقشتها وتحديد المذاهب فيها، بالتفريع على المسألة، وهو تقسيمها إلى فروع يذكر في كل فرع جانباً من المسألة، يبدأ غالباً بالجانب الأكبر، ثم تتدرج جوانبها في الاتساع بتعدد وتتالي الفروع، تدرجاً من الأعلى والأقرب والأكبر إلى الأدنى والأبعد والأصغر، فيورد في الفرع، فرع المسألة، ويقسمها إن لزم تقسيمها، إلى حالات أو أقسام أو أضراب أو أحكام أو أركان أو تقارير أو أصناف أو أنواع، بحسب التقسيم الذي تقتضيه أجزاء وجزئيات المسألة في أي من فروعها.
ثم يذكر أهم أوجه الخلاف حولها في آراءٍ أو أقوال أو مذاهب، وقد يقسم أصحاب الخلافات إلى فرقاء أو طوائف أو فئات أو اجتهادات، موضحاً ومعللاً كل رأي أو قول بما يتطلبه من موضوعية ودقة وشمولية، مع إيراد حججه وأدلته وأوجه الاستدلال بها، ولا يُغفل ما قد يترتب على المسألة من أسس أو شروط، ثم يصل إلى تقرير المختار من هذه الأقوال والمذاهب الذي يراه ويختاره مذهباً له، فالانتصار الذي يبرر به اختياره لهذا الرأي أو ذلك القول أو المذهب، مُظهراً جوانب التفوق والقوة والصحة فيه مقابل ما يراه من أوجه الضعف في الآراء المخالفة الأخرى، ثم لا يتجاوز المسألة حتى يستطرد إلى ما قد يراه مترتباً عليها، أو مشاراً إليه فيها أو مرتبطاً بها من (قاعدة) أو (دقيقة) أو (فائدة) أو (تنبيه) أو نحو هذا.

الثاني: التقسيم المضارع لسابقه، ويختلف عنه من ناحية أن المسائل تلي الأبواب مباشرة بدون توسط الفصل بين الباب والمسألة.
الثالث: التقسيم المباشر، حيث يأتي التفريع بعد الباب مباشرة، ملغياً للفصول وسابقاً للمسائل التي تأتي أثناءه متخللة الفروع.
الرابع: التقسيم الأصغر، وفي هذا النموذج يبدأ بإيراد الفصل، ثم يدخل في مناقشة الموضوع أو القضية ويذكر أحكامها والأقوال وحججها، ثم يخلص إلى المختار، فالانتصار. ويورد بعد ذلك، التفريع والمسائل التي يتضمنها الفصل.
ويجدر هنا التنبيه إلى ما يلي:
1- أن هذه النماذج الأربعة، ليست حصراً لنماذج المؤلف في تصنيف منهجه، وإنما هي أبرز نماذجه التي تغلب على عامة الكتاب.
2- أن النماذج الثلاثة الأخيرة، تتساوى مع الأول بصفة عامة فيما بعد التفريع من تقسيمات واستطرادات واستقراء لعناصر وأطر المنهج، في الآراء والمذاهب والأقوال والحجج وما إليها. وقد أغنى ذكرها في النموذج الأول، عن تكرارها في الثلاثة التالية له.
3- لم نقصد باختلاف النماذج الأربعة لمنهج المؤلف وما ينتج عن توصيفها من فوارق بينها، الإشارة إلى خروج المؤلف عن أسس وأطر منهجه العامة، بل إن العكس هو الصحيح، وهو أن الغرض من التوصيف تأكيد اتساع وغنى وشمولية هذا المنهج، وقدرة المؤلف على اختيار الأطر المناسبة لكل باب أو فصل أو تفريع، وفي حدود اللازم الذي يميز أسلوبه في تفصيل الأطر وعناوينها على أجزاء الباب أو الفصل أو المسألة بحسب موضوعاتها، تعدداً وتنوعاً واتساعاً، وبدقة متناهية وتلاؤم دقيق، يؤكدان عمقاً في النظر ووضوحاً في الرؤية وسعة في الآفاق ومهارة في التشكيل، بصفة نادرة باهرة.
الثانية: مبادئ منهجه العامة.

في هذه الفقرة الثانية من الفقرات الثلاث الخاصة بالحديث عن منهج الكتاب.. نخلص إلى المبادئ والأصول العامة لمنهج الكتاب، أو منهج المؤلف في هذا الكتاب، وهي لا شك تعم كل مؤلفاته في هذا الموضوع، ولكنا نسبناها إلى (الانتصار) لسببين:
أولهما: أنه موضوع هذا الحديث الذي يهمنا هنا، عن منهجه.
ثانيهما: أن منهج المؤلف في (الانتصار) أوسع وأوضح وأشمل وأكمل، وفيه الإضافات والجدة والريادة والتميز عن سواه، وبالتالي فإن مبادئ وأصول منهج المؤلف هنا، أكثر ظهوراً وشمولاً، وأشمل ظهوراً وكثرة، ثم إن نسبة المبادئ والأصول إلى هذا الكتاب من كتب المؤلف، هي نسبة اشتراك وعموم لا نسبة تغاير وحصر. ثم من جانب آخر، فإن مبادئ وأصول المؤلف في منهج كتابه وكتبه، ليست مبادئ و أصولاً خاصة به ومقصورة عليه، بل إن من المقطوع به سلفاً أنه يلتقي في كلها أو جلها مع أعلام مدرسته الذين توارثوا العلم حتى أوصلوه إليه، ومع غيرهم من نظرائه وزملائه، ومع أعلام الفكر الإسلامي عموماً، ثم مع تلامذته ودارسي فكره، ومؤلفاته والمتأثرين بآرائه ومنهجه، ويظل مع كل ذلك محتفظاً بما له من قصب السبق وحق الريادة، وجديد ما أضافه وإبداع ما تميز به بحثه وأوصله إليه اجتهاده، وهو الجانب الذي نركز فيه على أبرز مبادئ وأصول منهجه في (الانتصار).

وكما أن الحديث عن مبادئ وأصول منهج (الانتصار)، لا بد أن يكون في جوانب منه حديثاً عن منهج المؤلف عموماً، فإن الحديث عن منهج المؤلف من حيث مبادئه وأصوله، لا بد وأن يكون كذلك حديثاً في بعض جوانبه عن منهج الفكر أو الفقه الزيدي في اليمن، لعمومية وتداخل هذه المبادئ والأصول فيما بينها متفرقة ومجتمعة، وهذا الترابط أو التداخل يفرض شيئاً من الإشارة إلى المبادئ والأصول المنهجية العامة في فكر المدرسة الزيدية، لتكون شبه مدخل للحديث الذي قد يظهر بدونها مبتوراً وذلك بالقدر الذي يهمنا هنا، من هذه المبادئ والأصول العامة، ونركز في مبادئ عامة ثلاثة تميز المدرسة الزيدية.
الأول: وحدة المبدأ في (علم الأصول):
يجمع أئمة وعلماء الزيدية، على مبدأ واحد في علم الأصول (أصول الدين) ويمثل اتفاقهم على كل مسائله (الإلهية) اتفاقاً متطابقاً لا يكاد يوجد بينهم خلاف في أية واحدة من مسائل الأصول الأساسية، مثل: مسائل العدل والتوحيد، والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ويجمعون كذلك على أن القضايا أو المسائل الأولى العامة والكلية من أصول الدين، هي مسائل لا مجال فيها للاجتهاد واختلاف الرأي في مبدأ الإثبات والنفي الكليين؛ لأن الحق فيها كلٌ لا يتجزأ وواحد لا يتعدد، وإذا وجد بين بعضهم خلاف في الرأي حول أي شيء منها، فإنه لا يتجاوز المسائل الفرعية التي تترتب عليها وتنشأ عنها من فعل أو نظر أو اعتقاد أو تعامل، مثل: هل يجب إكفار أو تفسيق المخالف في الأصول، أم أن بحثه ونظره اللذين أوصلاه إلى الاجتهاد فالاعتقاد برأيه، يحصنانه من ذلك؟
الثاني: حرية الرأي في الاجتهاد:
فالزيدية يرون بالإجماع، أن مجال الاجتهاد فيما عدا الأصول المشار إليها، مجال متاح وأن بابه مفتوح في كل مسائل الفقه من الفروع، مهما توفرت وسائل الاجتهاد وأسسه وشروطه، ولعل أهم ما يجب توفره منها لديهم ثلاثة:

1- العلم عن طريق الاطلاع الكامل والاستقراء الواسع، لكل العلوم الدينية وغيرها مما لا تتحقق بدونه.
2- العقل، ويراد به العقل القادر على البحث والنظر ومعرفة الأدلة واستنباط الأحكام.
3- المنهج الصحيح، سواء في معرفة طرق الاجتهاد أو الإلمام بأسس الاستدلال، وأنواع الأدلة النقلية والعقلية وأصنافها وحالاتها من الأولويات والتناسخ والتساقط والتعارض والترجيح، وفي هذه الحال فإن كل مجتهد مصيب.
الثالث: العقل:
إذ ترى الزيدية أن العقل السليم هو معيار الأدلة ومناط التكليف ومدار الأحكام ووسيلة البحث والنظر والاجتهاد.. ومن هنا يتميز المذهب الزيدي بأمرين شائعين فيه أكثر منهما في غيره، وهما:
1- عدم ظهور التناقض في البحث والنظر والرأي والاعتقاد، في كل القضايا والاجتهادات برغم كثرتها وانتشارها واختلافها، ولذا يندر أن تجد لأي منهم في المسألة، أكثر من قول ورأي واحد.
2- الاختلاف الواسع بين علمائه في الأقوال والآراء في مجال الفقه، على اختلاف وتعدد أعلامه ومؤلفاته وأجياله ومسائله.
وكما أن كتاب (الانتصار) هذا، واحد من أشهر وأوسع كتب التراث الفقهي للمدرسة الزيدية، فإن مؤلفه الإمام يحيى بن حمزة، واحد من أئمتها وعلمائها المجتهدين المشاهير. ولذا فإن الحديث عن مبادئ وأصول منهجه في الانتصار، يدخل ضمن المبادئ والأصول العامة للزيدية، كما أشرنا إليها سلفاً. ولكنا نحاول إكمال الصورة في هذا الجانب عن منهجه، بما نستطيع إيراده من مبادئه وأصوله التفصيلية التي تميزه بصفة أو بأخرى. وأعود لتطبيق المبادئ الثلاثة السالفة في جوانبها التفصيلية، وفي محيط منهج المؤلف في هذا الكتاب:
أولها: في أصول العقيدة:
نختار ثلاثة نماذج من مبادئ الإمام يحيى بن حمزة الأصولية التفصيلية، الواردة في كتاب (الانتصار).
1- في الفصل الخامس من باب (الأذان) جاء في التفريع عليه: (الفرع الأول.. الكافر لا يصح أذانه..). ثم صنف الكفار إلى صنفين:

الصنف الأول: كفار التصريح، ثم ذكر منهم الملاحدة وعبدة الأوثان والنجوم (والمعطلة والدهرية والفلاسفة والزنادقة والطبائعية، وكذا حال أهل الكتب المنزلة، كاليهود والنصارى والمجوس). (فهؤلاء لا خلاف في كفرهم بين أهل القبلة وأهل الإسلام، ولا يصح أذانهم).
الصنف الثاني: كفار التأويل. وذلك أنهم من المسلمين، يُقِرُّون بوحدانية اللّه وحكمته، ويصدقون بالنبوءة والقرآن والشريعة، (خلا أنهم يعتقدون اعتقاداً يوجب إكفارهم، مع كونهم على هذه الصفة) ومثَّل عليهم بأربع فرق (المجبرة والمُشَبِّهة والروافض والخوارج..)، (فهؤلاء اختلف أهل القبلة في إكفارهم..) (فالذين ذهبوا إلى إكفار المجبرة والمشبهة، أئمة العترة وجماهير المعتزلة والزيدية..). ثم وبحسب أسلوب منهجه، يوضح رأيه في قوله: (والمختار أنهم ليسوا كفاراً؛ لأن الأدلة التي تُذكر في إكفارهم، فيها احتمالات كثيرة..).
2- في القسم الثاني: في بيان من لا تجوز إمامته في الصلاة.. جاء ضمنه إيراد المؤلف للأقوال في حكم صحة الصلاة خلف المخالف في مسائل أصول الدين، والمخالف في الأراء الاجتهادية، وذلك في فرعين. ملخص ما نريده منهما كالآتي:
أولهما: (الفرع الخامس في حكم أهل البدع والضلالات..)، ويقصد بهم المخالفين في أصول الدين، لما عليه إجماع (العترة والمعتزلة والزيدية). وذكر أمثلة ونماذج منهم، ثم انتهى إلى: والمختار أن الصلاة خلف هؤلاء جائزة، إذا سلموا من ملابسة الكبائر وظهور الخلل في العدالة. مع كونها مكروهة، فأما الإجزاء فهي مجزية).
ثانيهما: (الفرع السادس)، الذي يلي سابقه، وفيه شرح مسألة الصلاة خلف المخالف في المسائل الاجتهادية والأقوال فيها، وانتهى إلى الفرع السابع في ذكر المختار لرأيه، فقال: (فنقول: القوي من جهة النظر الشرعي والتصرف الأصولي، جواز الإئتمام بمن خالف مذهبه مذهب المؤتم، سواء علم المؤتم بالمخالفة أم لم يعلم).

3- في الفصل الثالث في بيان حكم الاجتهاد، وفيه ناقش المؤلف مسألة المخالفين في العقائد الإلهية (أصول الدين) هل يُعتد بآرائهم في أية مسألة في انعقاد الإجماع أو عدمه. وانتهى إلى طرح رأيه بقوله: (.. نقول: بأن جميع أهل القبلة سواء في كونهم معدودين من أهل الإجماع إذا كانوا مجتهدين، وأن خلافهم في هذه المسائل الإلهية وغيرها لا يقطع الاجتهاد، ولا يبطل كونهم معدودين من أهل الإجماع والاجتهاد في المسألة، بعد إحراز منصب الاجتهاد في كل واحد منهم..).
ثانيها: في قضية الاجتهاد:
لعل ما سبق آنفاً إيراده من نصوص المؤلف في كتابه هذا، يُعتبر كافياً في تحديد أصول منهجه في هذه القضية. ونشير هنا إلى أمور وأقوال ومواقف للمؤلف في انتصاره، تؤكد عدة مبادئ في جانب قضية الاجتهاد منها:
1- سعة مبدأ الزيدية في حرية الاجتهاد إذا توفرت شروطه وذلك فيما عدا الأصول، ويظهر المؤلف نموذجاً واضحاً ومقنعاً من نماذج هذه المدرسة.
2- يختار المؤلف رأيه من بين الأقوال التي يوردها في كل مسألة من مختلف اجتهادات علماء الأمة، بحسب ما يراه مطابقاً لمنهج اجتهاده ومنطق أسس وأصول هذا المنهج، دون اعتبار بأصحاب الأقوال الذين سيخالفهم من أعلام مدرسته، أو الذين سيلتقي معهم من أعلام المدارس والمذاهب الأخرى. وانظر في مثل آرائه السابقة الذكر التي خالف فيها ما يشبه إجماعاً للزيدية.

3- يلاحظ المستقرئ لمختاراته في (الانتصار)، رداً نظرياً وتطبيقياً للقول الشائع في أوساط بعض المدارس والمذاهب الفقهية، بأن المذهب الزيدي ومجتهديه يتميز بمخالفته في الفقه لآراء الحنفية والشافعية، وهذا القول تظهر مجانفته للحقيقة في جانب كبير منه؛ لأنه لم يقم على أسس موضوعية ونتيجة بحث ونظر، ولكنه أشبه بالرجم بالغيب منه بالقاعدة المطردة في أغلب أحوالها، وهذا ما يؤكده المؤلف بصورة عملية في هذا الكتاب بصفة ضمنية وغير متعمدة لذاتها، فتراه في عموم (مختاره) يلتقي مع الشافعية تارة ومع الحنفية أخرى أكثر - ربما - مما تلتقي الشافعية والحنفية في أقوالهما في المسألة الواحدة.
4- كما يلاحظ المستقرئ لمختارات المؤلف في هذا الكتاب من ناحية، وأقوال أئمة علماء الزيدية من ناحية ثانية، أيضاً.. فساد القول الشائع الآخر، وهو أن النظرة العامة إلى فقه الزيدية، أنه قائم على قاعدة شبه مطردة، هي التشدد في الأقوال والآراء، فترى آراء المؤلف في (المختار) وآراء أئمة وعلماء الزيدية في أغلب المسائل، أقل تشدداً من آراء المذاهب الأخرى، برغم أن أكثر من يعرض المؤلف لأقوالهم من أعلام الزيدية، هم الهادي والقاسم والناصر والأخوان(1). وهؤلاء الأئمة في مقدمة من يؤخذ عليهم شيء من التشدد في الرأي في هذه المدرسة ومذاهبها.
ثالثها: في إعمال العقل:
كما سبق.. فإن العقل لدى أئمة وعلماء الزيدية، هو مناط التكليف وأساس البحث والنظر، وهو كذلك لدى المؤلف بصفة عامة وخاصة، فهو رائده في الاختيار والاجتهاد وفي عرض الأقوال ونقدها والمقارنة فيما بينها فالحكم في مدى التساوي فيما بين أدلتها، أو ترجيح بعضها على بعض.
__________
(1) المؤيد بالله وأبو طالب أحمد ويحيى ابنا الحسين الهاروني.

ولذا فإن من أصول منهج المؤلف في المسائل الدقيقة القابلة لأكثر من احتمال، أو لاختلافها في بعض الحالات أو الظروف.. عدم البت فيها بقول واحد، بل كثيراً ما يحدد المختار بقوله: (والمختار تفصيل نشير إليه..)، أو (والمختار. إذا عرضت هذه المسألة .. نظرت فإن كان.. وإلا فإنها..).
الثالثة: طريقته في الاستدلال (أسلوبه):
الفقرة الثالثة من التصنيف الخاص بمنهج (الانتصار) هي أسلوبه أو طريقته في الاستدلال، ونحن بالتأكيد لا نقصد من هذه الفقرة، الحديث عن طريقة المؤلف في الاستدلال بصفة عامة؛ إذ أن ذلك موضوع بحث مستقل، ولكن الغرض هو الاتساق مع الفقرات السابقة في تناول العناصر والمبادئ والأصول التفصيلية في أغلبها، المميزة لمنهج المؤلف في هذا الكتاب.
نتناول هذه الفقرة عبر ملامح عامة ثلاثة، تشمل اللغة، وعنصري الاستدلال الرئيسين: (النص والعقل) والمبادئ والأسس العامة للاستدلال.
الملمح الأول: لغة الكتاب:
معروف سلفاً، أن الإمام يحيى بن حمزة من أكبر علماء اللغة في مختلف علومها، وأن له مؤلفات وبحوثاً، منها ما هو واسع ومشهور، مثل: (كتاب الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز). وهو (يعد من أهم المراجع في البلاغة، والذي يعول عليه الباحثون والدارسون في هذا المجال ..) كما يقول الدكتور أحمد محمود صبحي(1).
وفي جانب لغة الكتاب، يمكن الاقتصار على إيراد نماذج ثلاثة عن المؤلف، من علمه باللغة، وأسلوبه العام، ومصطلحاته المميزة.
__________
(1) في كتابه (الإمام يحيى بن حمزة وأراؤه الكلامية).

9 / 279
ع
En
A+
A-