ويمكن الحديث عن موضوع كتاب (الانتصار)، من خلال تحديد مؤلفه فيه لعنوانه وغايته وموضوعاته:
1- العنوان:
(كتاب الانتصار على علماء الأمصار، في تقرير المختار من مذاهب الأئمة، وأقاويل علماء الأمة، في المسائل الشرعية، والمضطربات الاجتهادية).
والعنوان كما ترى، مصوغ على طريقة المؤلفين القدماء من حيث الشكل، في بلاغته وجزالة وانتقاء ألفاظه، والتزامه السجع، ومن حيث المحتوى، في أنه تضمن الغاية والموضوع والمنهج، بمعان منطوقة ومفهومة، توضحها قراءة الكتاب، وهي معان تكاد تتمثل ملخصة في الصيغة التالية.
(كتاب) يتغيا (الانتصار) بالأدلة طبقاً للمنهج الأصولي(1) وقواعده الثابتة، (على) المخالفين لمذهبه في كل مسألة، ومع كل مجتهد من (علماء الأمصار) (في تقرير المختار) الذي يحدد به رأيه ضمن ما يورده من الآراء، وهو مختار (من مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة) الإسلامية (في المسائل الشرعية) الإسلامية الفقهية. (والمضطربات الاجتهادية). وتأتي العبارة الأخيرة معطوفة على المسائل الشرعية في مكان النعت لها، لعدم وجود التغاير الذي يسوغ التعاطف بين المسائل الشرعية والمضطربات الاجتهادية، وقد نفهم من ذلك أنه أراد إبراز شيئين:
أولهما: تحديد موضوع الكتاب لمسائل الفقه التي يجوز فيها الاختلاف عن طريقة الاجتهاد.
وثانيهما: استثناء علم أصول الدين.
__________
(1) نسبة إلى منهج أصول الفقه في طرق الاستدلال.
والذي نريد توضيحه أكثر، هو أن المؤلف في عنوان الكتاب، لم يقصد أنه انتصار على مجموع علماء الأمصار ومجمل آرائهم، بمعنى أنه يختلف في كل مسألة مع كل علماء الأمصار، ثم ينتصر عليهم بالاستدلال ونقد الرأي، وإنما قصد أنه يورد في كل مسألة (مذاهب الأئمة وأقاويل علماء الأمة) ثم يختار منها رأيه الذي يحدده منهجه في الاستدلال النقلي والعقلي، ثم يسبب في الانتصار اختياره لذلك الرأي. مبرراً انصرافه عن آراء مخالفيه بطرح ومناقشة جوانب الضعف في أدلتها، أو في طريقة الاحتجاج بها.
ولعل توضيحنا هذا، جاء تحصيلاً لحاصل، ولكنا رأينا أنه قد يوضح لبسا وارداً، ولو بنسبة ضئيلة واحتمال بعيد.
2- الغاية من الكتاب.. حددها المؤلف في بداية الكتاب في غرضين:
أولهما: ديني، وهو أن يكون (لي بعد الموت ما عسى أن يبقى ثوابه، ولا ينفد أجره..).
ثانيهما: موضوعي، وهو أنه لما ألف كتابه (العمدة)، كان قد اقتصر فيه (على ذكر المذهب ودليله وذكر من خالف مذهبنا، أو وافق من علماء الأمة وفقهاء العامة. وألغيت ذكر أدلة المخالفين، وذكر المختار من الأقاويل في المسألة وتقرير الحجة عليه). وأنه وعد في صدر كتاب (العمدة) إن مد اللّه في أجله أن يؤلف هذا الكتاب، يستوفي فيه آراء المخالفين وحججهم. وكان أن مد اللّه في عمره فوفى بوعده وعهده، من اللّه الذي جعل لكل أجل كتاباً، ولكل كتاب أجلاً.
3- موضوع الكتاب في نهاية كتاب الحج في الجزء السابع ص(245) من المخطوطة، حدد المؤلف مضمون الكتاب في أربعة أقسام أو أرباع:
أ - (الربع الأول: العبادات، ويشتمل (على ما كان قربة من الصلاة والزكاة والصوم والحج).
ب - (الربع الثاني: مشتمل على ما كان مألوفاً من العادات، كالنكاح والطلاق والإيلاء والرضاع والظهار، وغير ذلك).
ج - (الربع الثالث: مشتمل على المعاوضات من البيع والشراء والإجارة والشفعة والفرائض. وغير ذلك).
د - (الربع الرابع: مشتمل على المعاملات للكفار والبغاة، وأنواع الجهاد).
فهي أربعة أقسام ملخصة: في العبادات والعادات والمعاوضات والمعاملات للكفار والبغاة.
(المذهب) في فقه الزيدية.
يلاحظ القارئ المطلع على هذا، ورود كلمة (ذكر المذهب) في الغرض الثاني لتأليف الكتاب، ولعل المطلع غير الباحث على الأقل يظن بأن إطلاق كلمة (المذهب) في كلام المؤلف، تعني مذهبه وحده، وخاصة أن بعدها مباشرة عبارة: (وذكر من خالف مذهبنا أو وافق). وكلمة (مذهبنا) قد تعطي مفهومات ثلاثة محتملة، وهي:
1- توضيح كلمة (المذهب) التي أطلقها المؤلف، وتؤكد أنه قصد مذهبه هو، بإطلاقه الأولى ونسبته للثانية إلى ضمير الجماعة الذي كثيراً ما يأتي ويفهم بمعنى المتكلم.
2- صرف كلمة (المذهب) عن المؤلف منفرداً إلى جماعة علماء الزيدية، التي عبر عنها بضمير الجماعة في كلمة (مذهبنا)، وهو أقرب الاحتمالات إلى الصواب وإن لم يكن بالدقة التي دفعت إلى هذا التوضيح دون تمييز للغرض، والمقصود والمدلول لكل منهما، وهنا.. يأتي موضع التوضيح لكلمة (المذهب) إذا أطلقت في الفكر الفقهي الزيدي، وهي مسألة واسعة نحاول تلخيصها في ثلاثة جوانب:
أولها: تكثر كلمة (المذهب) في كتب الفقه الزيدي، ويكاد ذكرها ينحصر في جمل وصيغ محددة، يأتي كل منها بحسب المواقع والمواضع والحالات وسياق المعاني، مثل: (رأي المذهب) و (على قاعدة المذهب) و (به قال أهل المذهب) و (نقله للمذهب) و (رواه أو أخرجه للمذهب)...إلخ. وله مصطلح رمزي، يمثل اختصاراً للكلمة في حرفي (هب) مع نقطة فوق حرف الباء الموحدة ضمن الرمز، ويكتفى في كتابة المخطوطة بحرف الهاء ممدودة إلى اليسار (هـ) ويعني وجود هذا الرمز فوق المسألة أو الرأي، أنه على رأي (المذهب). ويكثر وجود المصطلح الرمزي هذا في أشهر كتب الفقه الزيدي، مثل: (شرح الأزهار). ويرادفه في حواشي الكتب المطبوعة رمز (قرز) وهي حروف القاف والراء مكرراً، والنقطة فوق الأخيرة منها علامة (المذهب).
ثانيها: أن (المذهب) يمكن القول بأنه ذو دلالتين: عامة وخاصة. فالعامة تعني: أنه يمثل المذهب الزيدي في مجمله وعمومه، والخاصة لا تعني ذلك، إذا كان القصد بها أنه يوافق في كل مسائله آراء كل عالم من علماء الزيدية، أو حتى بعضهم، أو واحداً منهم.
ثالثها: ويوضح ما قد يكون ظهر من لبس في الجانبين السالفين نتيجة التركيز ربما.. أن (المذهب) يعني قواعد وأسساً وأصولاً عامة، تجتمع عليها آراء أئمة وعلماء الزيدية تم وضعها لتؤدي غرضين أساسين:
أحدهما: أن تكون محاوراً للرأي، ومعياراً لمدى موافقته للمذهب في أية مسألة، ثم تتفرع وتتسع الآراء، وتتشعب في اتجاه تلك القواعد والأصول الثابتة، هذه هي القضية المبدئية الأولى. ثم تأتي قضية اختيار رأي المذهب في وسط الآراء والخيارات والأقوال المختلفة في المسألة الواحدة. وهنا.. يمكن القول بأن هناك شبه اتفاق بين علماء الزيدية في مختلف العصور وتتالي أجيال أعلامها.. بأن يتم اختيار رأي المذهب من بين الآراء المختلفة طبقاً لمبادئ أو أسس ثانوية محددة تقريباً، منها على سبيل المثال:
- الأخذ بالأحوط، فالإختلاف مثلاً بين العلماء في المضمضة والاستنشاق بين من يقول بوجوبها بوصفها من أعضاء الوضوء استناداً إلى فعل الرسول (عليه وآله الصلاة والسلام) ومن يقول: بأنها سنة استناداً إلى عدم تضمن آية الوضوء لها، فالمختار للمذهب يؤخذ فيه الأحوط، وهو الوجوب باعتبارهما من غسل الوجه.
- أقرب الآراء إلى تطبيق الدليل والعمل به أكثر.
- أرجح الأقوال وأكثرها اتفاقاً في المسألة.
ومثل هذه المبادئ ليست قواعد مطردة في كل الأحوال، بل يدخل عليها الترجيح بين المبدأ وما يقابله، فيرجح مثلاً، أيسر وأسهل الآراء تناولاً أو أداء أو إلزاماً أو تسامحاً على مقابله الذي قد يكون القائلون به أكثر.
ثانيهما: أن تمثل هذه الأسس العامة (المذهب) الثابت والسائد في الأغلب، في مجالات المعاملات والعلاقات وقضاياها ومسائلها ومشاكلها العامة في مجتمعات عامة الناس، مثل: مجالي القضاء والإفتاء، ووضع القوانين المختلفة ذات العلاقة المباشرة بالفقه الإسلامي؛ وذلك تجنباً لتناقضها عند تركها للاجتهادات والأقوال المختلفة.
ويجدر التعريج هنا على موضوع أسس وقواعد (المذهب)، وذلك من ناحيتين:
الأولى: إيراد نماذج من هذه الأسس والقواعد التي يتم وفقاً لها، تخريج واختيار رأي المذهب في مسألة ما، بحيث لا يقبل تخريج من يخرج للمذهب بخلافها، ومنها ما يمكن اختياره ضمن أطر عامة في الصورة التالية(1) :
1- قضية الاجتهاد:
- مطلوب اللّه من عباده الاجتهاد.
- إذا تعذر الاجتهاد، جاز التقليد.
- يعتبر الجاهل فيما فعله معتقداً صحته ولم يخرق الإجماع، مقلداً لمن وافقه.
- الخلاف في المسألة، يصيرها ظنية.
2- التعارض والتناقض:
- إذا اجتمع حظر وإباحة، فالحظر أولى لأنه الأصل.
__________
(1) هذه الأسس مأخوذة من أصول المذهب الزيدي التي وضعها العلامة أحمد بن محمد الشرفي وألحقها العلامة الجنداري بمقدمته لشرح الأزهار ـ ج1ـ ص46.
- إذا تعارض واجب ومحظور، فترك الواجب أهون من فعل المحظور.
- إذا تقارن أصل وظاهر، قُدِّم الظاهر.
- إذا كان فعل الحسن سبباً لفعل القبيح، وجب تركه.
- إذا اجتمع في العقد وجها صحة وفساد، حمل على الصحة.
- إذا تعارض أصلان قريب وبعيد، فالقريب هو المعمول عليه.
- إذا تعارضت مصلحة ومفسدة مساوية أو راجحة، وجب توقي المفسدة.
- إذا التبس موت الشخص وحياته، فالحياة هي الأصل.
3- العلم والظن:
- ما كان من الأحكام الشرعية يمكن الوصول إليه بالعلم، لم يكف الظن فيه، وما لا سبيل منها إلى تحصيل العلم فيه، فالظن معمول عليه.
- الظن لا ينقض الظن.
- علم الإنسان أقدم (أولى) من علم غيره.
- و علم الغير أقدم من ظن نفسه.
- وظن نفسه أقدم من ظن غيره بالنظر إلى العمل.
- خبر العدل معمول به في العبادات على كل حال(1).
4- في الواجب، وفصل القضاء:
- ما لا يتم الواجب إلا به، يجب على حدّ وجوبه.
- الإقدام على ما لا يؤمن قبحه، قبيح.
- العبرة في العبادات بالانتهاء، وفي المعاملات بالابتداء.
- الإكراه يُصَيِّر الفعل كَلاَ فعل.
- نية المكره تُصَيِّر الإكراه كَلاَ إكراه.
- لا يجتمع على الشخص غرمان في ماله وبدنه.
- يلحق الضمان المباشر لا المسبب، إلا إذا لم يوجد المباشر، فعلى المسبب.
- يُعمل بالعرف في الصحة والفساد واللزوم والسقوط، ما لم يصادم نصاً.
- البينة المركبة غير مقبولة.
__________
(1) هذا الأصل منسوب للمؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، وهو أصل يغاير أصل المذهب في هذه المسألة؛ إذ ينص على أن (يقبل خبر العدل في الصحة وفي الفساد مع الشك).
الثانية: كيف تم وضع هذه القواعد والأسس؟ وهذا السؤال في هذه الناحية، يصعب استقصاؤه ويطول استعراضه دون حاجة إلى التوسع فيه، كون التعريج عليه هامشياً، ولغرض التوضيح السريع، ثم إن شيئاً من هذا يحتاج إلى عالم مطلع استقرأ المذهب من حيث بداية وضعه وواضعي أسسه ومن اقتفى أثرهم في تخريج أصوله وتوسيع قواعده واطراد مسائله وتصنيف اختياراته؛ لأن الحصيلة التي يمكن أن نجمعها من كل جوانبها، ليست كما نعتقد منحصرة في مرجع واحد، بل إن كثيراً منها (تحديد بداياتها، وواضعيها استطراداً واختياراً وتخريجاً وزمناً).. لا يزال شتاتاً وموضوع تحقيق وتسجيل، وكنت قبل عامين تقريباً قد سجلت جملاً في صيغ أسئلة تتناول أصول (المذهب) وبداياته واختياراته وتخريجاته وأعلامه وما يتعلق بها، وقدمتها إلى واحد من أكبر علماء الزيدية المعاصرين، ومن أكثرهم اطلاعاً وتحقيقاً وتدقيقاً في الفكر الزيدي بمختلف علومه، وهو المولى العلامة الوالد مجدالدين بن محمد بن المنصور المؤيدي (مد اللّه في عمره) والتمست منه إمكان الرد على تلك التساؤلات لتكون مرجعاً في تحقيق أصول (المذهب). برغم ما أعرفه من مشاغله بالتأليف والتدريس والفتيا وغيرها، ولا يزال الأمل موجوداً.
ويمكن القول باختصار، بأن أسس المذهب بدأت من قبل الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم، ثم من بعده ابناه: المرتضى محمد والناصر أحمد. ومن أعلام واضعي هذه الأسس وناقليها تخريجاً واختياراً، السيدان الأخوان: الإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني، وأبو طالب يحيى بن الحسين، والقاضي زيد(1) وغيرهم.
ثانيها: منهج الكتاب:
__________
(1) زيد بن علي الكلاري. ترجمته موجودة ضمن تراجم أعلام الكتاب.
منهج الكتاب (الانتصار) أو منهج المؤلف في كتابه هذا، هو منهج يكاد يكون متميزاً عن غيره ممن سبقه وتلاه من المؤلفين والكتب في الفقه في اليمن على كثرتهم وكثرة مؤلفاتهم، وهو تميز لا نعني به العادي الذي يمكن به التفريق بين مؤلف وآخر، ولكنه تميز رائد في المنهج عامة شكلاً وتصنيفاً وتبويباً ومحتوىً ورأياً واختياراً، وطريقة بحث واستنتاج واستدلال.
ولا نشك في قصورنا عن القدرة على إعطاء الكتاب حقه عامة، وفي جانب منهجه خاصة، ولكنا لا نزال وسنظل متمسكين بمبدئنا السالف ذكره، وهو {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}. ومع بذل الوسع ندعوا اللّه تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدَا}.
ونخلص إلى منهج الكتاب للحديث عنه في فقرات ثلاث:
الأولى: منهجه في تصنيف الموضوعات.
سبقت الإشارة إلى أنه تتركز مقدمة الكتاب عموماً، على أبرز الملامح والجوانب لصور الكتاب العامة، وخاصة ما جاء منها ضمناً أو شائعاً، بصفة يصعب معها تحديده عن طريق غير القراءة والاستقراء للكتاب ومصادره ومراجعه المتاحة؛ وذلك حرصاً على أن تظل المقدمة ضمن مفهومها العام وإطارها المحدد؛ إذ إن الخروج عن نصوص وأصول منهج الكتاب الواردة فيه مفصلة، يخرج المقدمة عن غرضها إلى الاستطرادات الواسعة الداخلة في باب لزوم ما لا يلزم دون حاجة تدعو إليه، وتتحول إلى شبه عرض لمحتوى الكتاب، وهذا العرض قد يكون مطلوباً في موضعه حيث يُستغنى به عن الكتاب في تقديم صورة وصفة ملخصتين عنه، وهذا ليس مكانه؛ لأننا هنا نقدم الكتاب إلى القارئ بذاته كاملاً كما هو، والصورة لا تُستخدم للتعريف بالذات مع وجودها.
ولذا.. نكتفي في الحديث عن منهج الكتاب في تصنيف وتبويب الموضوعات، بإحالة المطلع إلى الصفحة أو الصفحات الأولى منه، حيث تناوله المؤلف مركزاً وافياً، وكافياً لتحديد ذلك في جانبين:
أولهما: تبويب وتصنيف موضوعات الكتاب عند قوله: (فلما أنجز اللّه العِدَة وصدَّق الرجاء بتنفيس المدة، ابتدأت بتأليف هذا الكتاب فأجعله كتبا ثم أضمن الكتب أبواباً ثم أحشو الأبواب فصولاً...إلخ).
وثانيهما: أنواع المسائل، وطريقة تناوله إياها وتقريره المختار منها لرأيه واجتهاده، وتعليل وإثبات مذهبه فيها بالأدلة النقلية والعقلية المناسبة الكاملة، ولخصها في المراتب الثلاث التالية لتحديده الكتب والأبواب والفصول.
ولنا هنا، وقفة نتأمل فيها طريقة المؤلف في التصنيف والتبويب للكتاب في عناصر ثلاثة:
الأول: أسسه العامة في التصنيف.
يلاحظ من تحديده في بداية الكتاب لأسس منهجه، في تصنيف الموضوعات وتبويبها.. أن الأسس التي حددها هي الرئيسية، ولذا حرص على ذكرها وتسميتها، وضرب صفحاً عن ذكر الأسس الأخرى التي تعتورها، بوصفها أسساً فرعية أو متفرعة عن الأولى التي هي الرئيسية وجملتها أربعة: الكتب والأبواب، والفصول والمسائل.
وبحسب ما حدده وطبقه المؤلف.. فإنها تبدأ في هذا الترتيب، بالأعم فالأخص، بداية بالكتب وانتهاء بالمسائل. وكما يعني هذا الترتيب التدرج من الأعم إلى الأخص.. فإنه يعني أيضاً أن الأسس الفرعية الأخرى التي لم يذكرها ولكنه استخدمها في التبويب، ستظل فروعاً للأسس العامة الأربعة، وضمن تقسيماتها التفصيلية في مختلف الموضوعات، إما بشكل مباشر عن أي من الأسس العامة، أو متدرجة عن مجموعها، وهذا هو الذي يُفهم من تصدير المؤلف.
وقد ظل كذلك في الأسس الثلاثة الأولى، وهي: الكتاب والباب والفصل، في الغالب السائد. وأما الرابع وهو المسألة، فلم تظل أساساً في معظم الكتاب، وخاصة من الجزء الثاني منه؛ إذ أصبحت (القاعدة) و(الفرع) بصفة خاصة إطارين كلاهما أوسع وأشمل وأعم من المسألة، وأصبح (التفريع على هذه القاعدة الفرع الأول)، يلي الكتاب والباب والفصل مباشرة، ثم تأتي المسائل ضمن الفروع بينما ظهرت المسألة في أماكن أخرى كالجزء الأول مثلاً، أعم من الفرع، فيبدأ بالمسألة ثم يصنفها في فروع مسلسلة.
الثاني: اتساع أطر منهجه.
من يقرأ كتاب الانتصار من المهتمين بأسس المنهج الحديث في البحث.. يقف مأخوذاً باتساع منهج المؤلف فيه، وبخصوبته وغناه وتنوع وتعدد جوانبه. وبقدرة المؤلف على بناء منهجه في متانة ومرونة، بناء فنياً وعلمياً محكماً ودقيقاً وقائماً على قواعد منطقية وموضوعية، فلا يكاد واحد من موضوعاته يبدأ حتى يتسع ويتسلسل في أطر وعناوين تتفرع وتنمو وتتعدد في اتساق وانسجام، ينساب موضوعه في مجراهما انسياباً سهلاً وثرياً ومتنامياً بتنامي القضايا والمسائل من داخلها، تنامياً يتناسب مع أصل واتساع الموضوع العام، ومع العلاقات الطبيعية القائمة بين المضامين وأطرها ومسمياتها، حتى لا تكاد تُحِسُّ نوعاً من التكلف في تصنيفها أو الإقحام لشيء منها على غيره أو بعيداً عن موضعه، ولا فراغاً بين أي منها أو إهمالها لدقيقة قد تشذ عنها، أو أي شيء آخر من سهو أو تكرار أو انحراف عن جادة المنهج وأسسه العامة والمتفرعة عنها.
ولعل النظائر كالأضداد في القدرة على توضيح التميز والتفوق والفوارق بين الأشياء، ولذا نلاحظ مثلاً، أن منهج كتاب (الانتصار) منهج رائد وفذ، في سبقه واستخدامه، سواء في شكله من حيث تنوعه، وتعدد أسسه وبنائه، أو في محتواه من حيث اتساعه ودقته وانسجامه وشموليته وغناه، ويزداد الإعجاب بهذا المنهج، إذا أخذنا في الاعتبار الظروف والنظائر في أمثلة: