والحجة على ما قلناه: أنه نوى غير ما هو المقصود فلم يكن مجزياً له كما لو نوى به التبرد، وإن نوى الجنب رفع الحدث عن جميع بدنه اجزأه ذلك، وإن نوى الجنب رفع الحدث الأصغر فهل يجزيه أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزيه وضوؤه؛ لأنه نوى به غير منويها فلا يجزيه إذ ليس هناك حدث أصغر مع وجود الأكبر.
وثانيهما: أنه يجزيه وهذا هو الأصح، ويرتفع الحدث عن أعضاء الوضوء لا غير، لأنه إذا كان جنباً فهو محدث أيضاً، فإذا رفع الحدث الأصغر أجزأه لكونه متحققاً في حقه. وإذا نوى الطهارة لأمر يتعذر وقوعه من غير طهارة أجزأه ذلك، كأن ينوي بوضوئه الصلاة على الإطلاق أو صلاة الجنازة أو صلاة الضحى أو الطواف أو سجود التلاوة أو سجود الشكر، على رأي من يعتبر الطهارة في هذه الأمور، فإنه يرتفع حدثه من جهة أن فعل هذه الأشياء لا يصح من غير طهارة، فإذا نوى الطهارة لها فقد تضمنت رفع الحدث، وإن نوى الطهارة لفعل يصح من غير طهارة ولا تستحب فيه الطهارة كالأكل والشرب واللباس والدخول على السلطان ودخول الحمام، وغير ذلك، لم يرتفع حدثه لأنه يستبيح فعل هذه الأشياء من غير طهارة، فلأجل هذا لم تكن نيته لها متضمنة لرفع الحدث، وإن نوى الطهارة لأمر يصح من غير طهارة؛ لكنه يستحب فيه الطهارة كقراءة القرآن، والاعتكاف، ورواية الحديث، وغير ذلك، فالأقرب على رأي المؤيد بالله: أنه لا يرتفع حدثه وهو أحد قولي الشافعي؛ وله قول آخر: أنه يرتفع حدثه لأنه يستحب له فعل هذه الأمور وهو طاهر، فلهذا كانت نيته لها متضمنة رفع الحدث.
والحجة على ما قلنا: هو أن فعل هذه الأشياء يصح من غير طهارة فلم تتضمن نيته لها رفع الحدث كما لو نوى بوضوئه أكل الطعام، وإن نوى بوضوئه غسل يوم الجمعة أجزأه ذلك؛ لأن غسل يوم الجمعة إنما يراد للصلاة، لقوله ً: (( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل))(1). فدل على أن الغسل قائم مقام الوضوء، وإن نوى رفع الحدث والتبرد ففيه تردد والأقرب صحته، كما قال الهادي عليه السلام: إن توضأ مُعَلّماً للغير أجزأه الوضوء، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه لا يجزيه من جهة أنه أشرك في النية بين القُربة وغيرها.
والحجة على ما قلناه: وهو المنصوص للهادي، والشافعي: هو أنه قد نوى رفع الحدث وضم إليه مالولم ينوه لحصل مقصوده، فصار كالصلاة ينوي بها الصلاة، وينوي دفع خصمه باشتغاله، فكما أن ذلك لا يؤثر في الصلاة فهكذا ما نحن فيه، وما ذكرناه أنه قول الهادي هو أنه إذا نوى مع نية الصلاة تعليم الغير لا إذا نوى رفع الحدث.
الفرع الرابع: في تقرير مسائل صفة النية على رأي الإمام أبي طالب.
__________
(1) سيأتي في الغسل وصلاة الجمعة.
إذا نوى بوضوئه أن يؤدي به فرضاً على الإطلاق جاز أن يؤدي به ما شاء من الفرائض؛ لأنه إذا نوى به فرضاً مطلقاً فالفرض عام وهو متعلَّق للوضوء، لأنه مفعول لأجله فلهذا كان مجزياً له، ويجوز تأدية النفل به؛ لأن ما صلح للفرض [فهو] صالح [للنفل] من جهة أن الفرض نفل وزيادة؛ لأن الفرض هو: ما الأولى(1) فعله ولا يجوز تركه، والنفل هو: ما الأولى فعله ولا يحرم تركه، فلما كان الفرض نفلاً وزيادة جاز أن يؤدي بالوضوء الذي نوى به الفرض النافلة لما ذكرناه، وإن نوى به فرضاً معيناً لم يجز أن يؤدي به فرضاً آخر من [جهة] أن هذه صلاة مفروضة لم ينوها بوضوئه، فيجب أن لا تكون صحيحة كما لو نوى للتَّبَرُدِ، ويجوز تأدية النفل بهذا الوضوء لما ذكرناه من أن ما صلح للفرض فهو بعينه صالح للنفل، ومن أجل أن النفل في المرتبة دون مرتبة الفرض، فإذا صلح لتأدية الفرض المعين كان صالحاً لتأدية النفل من غير تفرقة بينهما، وإن توضأ بنية النفل فإنه لا يجوز أن يؤدي الفرض، من جهة أن الوضوء طهارة تستباح بها الصلاة، فالمفعول بنية النفل لا يقع عن الفرض كالتيمم، ويجوز أن يؤدي به النفل؛ لأن ما صلح لتأدية النفل جاز أن يؤدى به نفل آخر لاندراجهما جميعاً تحت النافلة.
__________
(1) بمعنى: ما يجب.
ووجه آخر يبطل أن الوضوء للنفل لا يؤدى به الفرض: وهو أن الوضوء عبادة يبطل بالحدث، فالمفعول بنية النفل لا يقع عن الفرض كالتيمم، فحاصل الأمر على ما ذكره السيد أبوطالب: من أن الوضوء لابد من أن يكون له تعلق بالصلاة لقوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6].فالمراد به فاغسلوا وجوهكم للصلاة التي تقومون إليها، والقيام إنما يكون إلى صلاة معينة؛ لأنه يستحيل القيام إليها أجمع ويستحيل القيام إلى صلاة غير معينة، وإذا كان القيام مأموراً به إلى صلاة معينة وجب في الوضوء أن يكون مخصوصاً بها موقوفاً في الصحة والثبوت عليها، وعلى هذا لا يجوز أن يؤدي به فرضاً آخر، ويجوز تأدية النافلة، وإن نوى وضوءه للنفل فإنه يجوز أن يؤدي [به] نافلة أخرى من جهة أن النوافل متسعة وللشرع فيها تساهل، فهكذا يكون تقرير كلام السيد أبي طالب فيما قاله. وقد أجبنا عن الكلمات التي أوردوها في تقرير هذه القاعدة وأوضحنا الانتصار عليها فأغنى عن التكرير.
الفرع الخامس: في تفريق النية:
اعلم أن المراد بتفريق النية في ألسنة الفقهاء: هو إفراد النية لغسل كل عضو من غير نية لغسل ما بعده، ومثاله: أن ينوي بالمضمضة والاستنشاق، ثم ينوي غسل الوجه، ثم اليدين، ثم الرجلين، فهذا معنى تفريق النية على اصطلاحهم. وهل يكون ذلك جائزاً أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: أنه لا يجزيه ذلك من جهة أن الطهارة عبادة واحدة فلم يصح تفريق النية [فيها] كالصلاة والصوم.
وثانيهما: أن ذلك صحيح ويكون مجزياً؛ لأن تفريق النية باعتبار أعضاء الوضوء لا تبطل ما فعله أولاً منها، فلهذا كان مجزياً، وهذا هو الذي عليه أئمة العترة أن النية إذا حصلت أولاً في أول أعضاء الوضوء فإنها تكون مجزية؛ لأنها تكون مسترسلة بحكم الشرع على جميع أعضاء الطهارة، وأما إذا كرر النية فذلك معنى الاستصحاب.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من نية الوضوء أن يكون مراداً به القربة وتأدية الصلاة، وهذا حاصل بالنية في أوله فلا يفسدها تكريرها، ولأنه لا يحصل بالإرادة الثانية إلا ما كان حاصلاً بالأولى فلا مانع من تكريرها، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.
وما يحكى عن المتكلمين من المعتزلة البغدادية والبصرية: من أن المصلي يحتاج إلى أن ينوي القربة لكل ركن من أركان الصلاة والصوم والوضوء والحج وسائر العبادات، فليس ذلك منهم على جهة الاشتراط في الإجزاء، فهذا لا دليل عليه، وإنما الغرض هو تكثير الثواب بتجديد النية في كل عضو من أعضاء الطهارة، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن تفريقها على الأعضاء جائز، وأن ذلك ليس على جهة الشرط في الإجزاء فلا دليل عليه ولا برهان من جهة الشرع بحال.
نعم.. استدامتها وتكريرها في كل وقت تفعل فيه عند غسل كل عضو، يكون مستحباً لقوله عليه السلام: (( نية المؤمن خير من عمله ونية الفاسق شر من عمله)). وإنما كانت أحسن من العمل لما يحصل فيها من مضاعفة الثواب والأجر، ومن أجل أن العمل يكون متصلحاً بها، فمن أجل ذلك كانت خيراً من العمل لا من أجل أن العبادة مفتقرة في صحتها وإجزائها إلى تكريرها ودوامها.
الفرع السادس: في عزوب النية:
العزوب: هو البعد والانقطاع يقال: عزبت الإبل: إذا بعدت عن مراحاتها، وعَزَبَ فلان يَعْزُبُ: إذا بعد وغاب، وعزب عن فلان حلمه: إذا بعد عنه.
واعلم أن كل من أحدث نية الوضوء في أول أعضائه على حد اختلافهم في الأول منها كما مر تقريره، فإذا نوى عند غسل الوجه مثلاً ثم عزبت نيته أي انقطعت فلم يجددها مرة بعد مرة أجزأه ذلك؛ لأنه إذا نوى الوضوء في الابتداء ثم عزبت نيته بعد إحداثها، ثم غسل باقي الأعضاء، فإن الوضوء يكون مجزياً له، ما لم يصرفها عن منويها.
والحجة على ذلك: هو أنه فاعل لغسل باقي الأعضاء، والفعل من الفاعل لا يقع إلا لغرض، ولا شك أنه لم يحصل تجدد غرض آخر يكون مصروفاً إليه، فلهذا وجب اندراجه تحت الغرض الأول بحكم الشرع. قال السيد أبو العباس: فإن عزبت نيته أجزأه ذلك ما لم يصرفها عن منويها، يشير بكلامه إلى التلخيص الذي ذكرناه، فإن كان عند عزوب النية وانقطاعها صرفها عن منويها بأن أحدث إرادة مخالفة للأولى في متعلقها فسيأتي تقرير حكمه، وهو أنه يرجع إلى العضو الذي غير عنده النية فيستأنف غسله مطابقة للنية السابقة من غير مخالفة لها.
فإن قال قائل: قد ذكرتم فيما سلف أنه إذا نوى الوضوء مع التبرد فإن النية تكون مجزئة له في الوضوء ولا يضر مضامَّة النية ما ليس بقربة، فهلاَّ كانت النية الأولى كافية، وإن قطعها بنية التبرد في بعض أعضائه، فما التفرقة بينهما؟
قلنا: التفرقة ظاهرة، فإنه إذا ضم نية التبرد إلى نية رفع الحدث فقد نواهما جميعاً وفي ذلك تأدية غرضه من العبادة، فلهذا كان مجزياً له، بخلاف ما إذا نوى الحدث في أعضاء الوضوء ثم إنه نوى التبرد في بعضها فإنه إذا نوى التبرد فقد انتقل غرضه ولم تكن إضافته إلى الغرض الأول؛ لأجل كونه مستقلاً بنفسه لاستغنائه عنه، ويفارق ما إذا لم ينو فإنه يكون مندرجاً تحت الأول، ويفارق ما إذا نواهما كما قررناه فافترقا.
الفرع السابع: وإن غسل كفيه ونوى الوضوء عند غسلهما ثم عزبت نيته قبل المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه، فهل يجزيه الوضوء أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنه يجزيه ذلك، وهذا هو رأي أحمد بن يحيى، ورواية عن القاسم، فهو إذا نوى عند غسلهما أجزأه ذلك لأنهما أول أعضاء الوضوء عنده، كما لو نوى غسل الوجه وسنقرر حكمهما من بعد بمعونة اللّه تعالى.
وثانيهما: أنه إذا نوى عند غسلهما ثم عزبت نيته عند غسل الوجه أو المضمضة والاستنشاق لم تكن مجزية له هذه النية في وضوئه، وهذا هو رأي السيدين الإمامين الأخوين، وغيرهما من علماء العترة.
والحجة على ذلك: هو أنه أحدث النية في غير موضعها ثم عزبت عنه عند اشتغاله بأول أعضاء الطهارة، فلم يكن ذلك مجزياً له كما لو نوى عند خروجه من منزله ثم عزبت نيته عند اشتغاله بأول أعضاء الوضوء.
وإن أحدث نية وضوئه عند المضمضة والاستنشاق ثم عزبت نيته قبل غسل الوجه، فهل تكون تلك النية مجزئة أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها مجزئة سواء عزبت نيته قبل غسل جزء من أجزاء الوجه أو بعده، وهذا هو رأي المؤيد بالله؛ وغيره من علماء العترة.
والحجة على ذلك: هو أنه قد أحدث النية في أول عضو من أعضاء الوضوء ثم عزبت عنه بعد شروعه فيهما، فيجب أن يكون ذلك مجزياً في الوضوء كما لو أحدثها عند غسل الوجه، ثم عزبت عنه قبل غسل اليدين، ولأن محل النية هو أول الأعضاء ولا يلزم استمرارها، فانقطاعها وعزوبها لا يطرق خللاً في النية الأولى كما لو غسل الوجه وعزبت نيته بعد ذلك.
وثانيهما: أنه ينظر في ذلك، وهذا هو المحكي عن الشافعي، فإن كان قد نوى الوضوء عند المضمضة والاستنشاق ثم عزبت نيته وانقطعت بعد غسل جزء من وجهه نحو غسل رأس الأنف أو شق الشفة بنيته غسل الوجه، اجزأه ذلك ولم يؤثر انقطاع النية بعد ذلك؛ لأنها وجدت مع أول فرض من فروض الطهارة، وإن غسل جزءاً من الوجه لا بهذه النية فهل يجزي أم لا؟ فيه لهم وجهان:
أحدهما: أنه يجزيه، لأنه فعل مشروع في الوضوء فإذا عزبت نيته عنده أجزأه كغسل الوجه.
وثانيهما: أنه لا يجزيه، وهو الأصح من قولي الشافعي عند أصحابه؛ لأن نيته عزبت قبل غسل المفروض فلم تجز كما لو عزبت نيته عند غسل الكف، ثم لو عزبت نيته وانقطعت بعد غسل الكف فهل تكون مجزية أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنها مجزية كما قاله أحمد بن يحيى.
وثانيهما: أنها غير مجزية كما قاله المؤيد بالله، وقد قدمنا ذكر التوجيه في الوجهين فلا حاجة إلى تكريره.
الفرع الثامن: في صرف النية:
اعلم أن كل من نوى في أول عضو من أعضاء الطهارة، رفع الحدث أو تأدية الصلاة على الإطلاق، ثم صرف نيته عن هذه الجهة وغَيَّرها عنها نظرت، فإن كان صرفه للنية من جهة العبادة إلى جهة المباح كأن يغسل بعض أعضائه بنية رفع الحدث وبعضها بنية التبرد أو بنية التنظيف عن الأدران، فإذا فعل ذلك فإنه يجب عليه أن يعود إلى الموضع الذي صرف النية فيه فيعيد غسله، وما بعده بنية مستأنفة مطابقة للنية الأولى.
والحجة على ذلك: هو أن النية معتبرة في الوضوء كما أسلفنا تقريره فإذا صرفها إلى ما ذكرناه فقد أخرجه عن نية القربة، فلهذا لم يكن مجزياً إلا بالإعادة فيما صرف منه النية ليكون الوضوء كاملاً على الوجه المشروع لتأدية الصلاة، ولا يلزمه غسل ما قد كان غسله بالنية المتقدمة؛ لأنها مطابقة للمقصود فلا وجه لإعادتها.
وإن كان صرفه للنية من جهة من العبادة إلى جهة أخرى نظرت، فإن صرفها من فرض إلى نفل أومن فرض إلى فرض فهل تكون النية مجزية أم لا؟ فيه مذهبان:
أحدهما: أنها مجزية مع هذا النوع من الصرف، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو محكي عن الشافعي.
والحجة على ذلك: هو أن ما ذكرناه لا يطرق خللاً في أصل النية؛ لأنه لو نوى هذه الأمور في أول أعضاء الوضوء كان مجزياً فهكذا إذا وقع الصرف والتغيير إليها يكون مجزياً أيضاً.
وثانيهما: أنه إن أراد بهذا الوضوء تأدية النوافل جاز ذلك وإن أراد به تأدية الفرائض لم يجز ويلزمه العود إلى العضو الذي غير فيه النية، فيغسله وما بعده بنية الفرض، وهذا هو رأي السيد أبي طالب.
والحجة على ذلك: هو أن ما قررناه من قبل من أن للوضوء خصوصاً بالصلاة المفعولة فإذا عينه لفرض تعين له ولم يجز تأدية فرض آخر به، وإن عينه لفرض جاز تأدية النفل به كما مر تقريره، فإن أراد الفرض الأول وجب أن يعود إلى العضو الذي غير النية عنده ثم يستأنف غسله وما بعده بنية مستأنفة، وإن أراد الفرض الثاني وجب إعادة الوضوء من الأصل ليكون الوضوء مؤدى على حالته المشروعة.
الفرع التاسع: في قطع النية، وإذا فرغ من الوضوء بنيته، ثم نوى قطعه فهل تبطل الطهارة أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: وهو المشهو ر لأصحاب الشافعي، أن الطهارة لا تبطل؛ لأنها عبادة فلم تبطل بنية القطع لها كالصلاة بعد فراغه منها.
وثانيهما: أنها تبطل، وهذا هو الذي ذكره بعض أصحابه؛ لأنه نوى قطعها فوجب أن تبطل كما لو ارتد.
والمختار على رأي أئمة العترة: أن الطهارة لا تبطل بهذه النية، لقوله تعالى:{وَلاَ تُبْطِلُوْا أَعْمَالَكُمْ}[محمد:33]. وقوله تعالى:{وَلاَ تَكُوْنُوْا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثَاً}[النحل:92]. ولأنه قد تقرر الوضوء بحكمه وإجزائه، والنية لا تأثير لها في إبطال الأعمال الصحيحة؛ لأن النية لا تكون مؤثرة إلا في الأعمال المستقبلة، ولا تكون مؤثرة بانعطافها على ما قبل إلا بدلالة شرعية؛ ولا دلالة هاهنا تدل على ذلك، فبطل حكمه.
وإن غسل بعض أعضائه ثم نوى قطع الطهارة ففيه وجهان أيضاً:
أحدهما: أنها تبطل، كما لو نوى قطعها بعد الفراغ منها.
وثانيهما: أنها لا تبطل، وهذا هو المختار على رأي أئمة العترة؛ لأن ما مضى قد تم لاستكمال شرائطه، فورود القطع عليه لا يبطل حكمه بعد ثبوته واستقراره ولا يبطل إلا بالحدث.
فإن قال قائل: قد ذكرتم فيما سبق أنه لو نوى بوضوئه رفع الحدث والتبرد جاز ذلك، وجاز تأدية الصلاة بهذا الوضوء، فلو نوى بصلاته الفرض والتطوع وفي صومه كذلك [فيلزم] أن يكون مجزياً، وإن منعتم من ذلك فما التفرقة بينهما؟
فجوابه: أنا نمنع من صحة ذلك في الصوم والصلاة، والتفرقة بينهما وبين الوضوء ظاهرة، وهو أن التبرد لا يفتقر إلى نية فلو غسل أعضاءه حصل التبرد وإن لم تكن هناك نية، فإذا أشرك بين الوضوء والتبرد لم يكن ذلك الاشتراك مؤثراً في نيته بخلاف صلاة الفرض والنفل فإن كل واحد منهما يحتاج إلى نية مستقلة بنفسها فكانا متغايرين، فلهذا كان الاشتراك مانعاً فافترقا. ونظير ما ذكرناه: أنه لو صلى وقصد بالصلاة دفع خصومة غيره فإن صلاته تكون صحيحة من جهة أن قطع خصومة غيره لا تفتقر إلى نية، فلهذا لم يكن بينهما تغاير فلهذا كان جائزاً.
الفرع العاشر: في حكم الأحداث إذا نوى رفع بعضها:
اعلم أن كل من أحدث أحداثاً في بعض الطهارة ونوى عند وضوئه رفعها ارتفعت؛ لأنه قد نوى رفعها فوجب ارتفاعها بحكم الشرع، وإن نوى رفع بعضها من غير تعيين لواحد منها وإبقاء غيره فهل يصح هذا الوضوء أم لا؟ فيه أربعة أوجه لأصحاب الشافعي:
أحدها: أنه لا يصح وضوؤه؛ لأنه لم ينو رفع الأحداث كلها، والأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
وثانيها: أنه إذا نوى رفع الحدث الأول ارتفع الجميع منها، وإن نوى غيره لم يصح وضوؤه؛ لأن الذي أوجب الطهارة هو الأول فإذا نواه ارتفع الجميع.
وثالثها: أنه إذا نوى رفع الحدث الآخر ارتفع الجميع وإن نوى غيره لم يصح؛ لأنها تتداخل فيكون الحكم في التأثير في بعض الوضوء لآخرها.
ورابعها: أنه يصح وضوؤه وهذا هو المختار على رأي أئمة العترة؛ لأن الأحداث متداخلة فإذا نوى رفع واحد منها لا بعينه ارتفع الجميع.