ووجه الاحتجاج بالخبر: من أوجه أربعة:
أحدها: قوله عليه السلام: (( إنما الأعمال بالنيات )) فإنه لم يرد أن صور الأعمال لا توجد إلا بالنية؛ لأن صورها قد توجد من غير نية، وإنما أراد أن حكم الأعمال لا توجد إلا بنية ومن حكمها الإجزاء، فقد دل ظاهر الخبر على أن العمل لا يجزي من غير نية وهو المقصود.
وثانيها: قوله ً: (( وإنما لكل امرئ ما نوى)). وإنما ظاهرها الحصر؛ لأنها في معنى النفي والإثبات، والتقدير فيها: ما الأعمال إلا بالنيات، كقولك: إنما العالم زيد، أي: ما العالم إلا زيد. فحاصلها: نفي جميع أحكام الأعمال إلاّ بالنية.
وثالثها: قوله: (( وإنما لكل امرئ ما نوى)).
وهذا من أقوى أدلة الخطاب أعني ما كان متردداً بين النفي والإثبات، فحاصل خطابه: أن كل ما ليس فيه نية فليس له [وجود عملي] أي أنه غير مجزٍ له ولا ثواب له عليه.
ورابعها: أن الخطاب وارد على سبب خاص، وذلك أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة بسبب امرأة يقال لها: أم قيس، فبلغ ذلك رسول اللّه ً فقال: (( إنما الأعمال بالنيات )).. الخبر إلى آخره، فأخبر أن الأعمال لا تكون قربة وطاعة إلا بالقصد إلى الطاعة والقربة.
الحجة الثانية: قياسية، وتقريرها أن الوضوء عبادة محضة طريقها الأفعال، فلم تصح من غير نية كالصلاة.
قولنا: عبادة؛ لأنه من جملة العبادات لقوله ً: (( الوضوء شطر الإيمان )). وأراد بهذا أن الصلاة يقال لها: الإيمان، بدليل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيْعَ إِيْمَانَكُمْ }[البقرة:143]. أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فلما كانت الصلاة هي الإيمان وهي لا تصح من دون الوضوء، فلا جرم قال: (( الوضوء شطر الإيمان)). يعني شطر الصلاة؛ لأن فعلها نصف وفعل الوضوء نصف.

وقولنا: محضة. نحترز به عن العدة فإنها وإن كانت عبادة لا يعقل معناها فليس الغرض بها براءة الرحم [فحسب]، ولهذا فإنه لو قال: إذا تيقنت براءة رحمك فأنت طالق، فإنها تجب عليها العدة، فدل ذلك على كونها عبادة لا يعقل معناها لكنها غير محضة، فلهذا لم تكن مفتقرة إلى النية، فلو اعتدت من غير نية أجزأها الاعتداد كما سنوضحه(1).
وقولنا: طريقها الأعمال، نحترز به عن الخطبة في الجمعة فإنها تصح من غير نية لما كان طريقها الأقوال، فتقرر بما ذكرناه اشتراط النية في الوضوء بما أشرنا إليه من الأدلة.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه في ذلك.
قالوا: أصل تستباح به الصلاة فلم يفتقر إلى النية، كستر العورة، وإزالة النجاسة.
قلنا: عن هذا أجوبة ثلاثة:
أما أولاً: فلأن قولكم: أصل تستباح [به] الصلاة باطل، فإن الأصول والأبدال مستوية في الافتقار إلى النية، كالعتق، والصوم، والظهر، والجمعة، وغير ذلك من الأصول والأبدال، فلا وجه لتقييد عدم النية لكونه أصلاً لما ذكرناه.
وأما ثانياً: فلأن ستر العورة لا نسلم أنه لا يفتقر إلى النية بل نقول: إنه يفتقر، لكن نية الصلاة تشتمل عليه؛ لأنه من جملة الصلاة، كما تشتمل على سائر أفعال الصلاة، فلهذا لم يحتج إلى تخصيص بالنية، ثم لو سلمنا أنه لا يفتقر إلى النية؛ فلأنه ليس مقصوداً للصلاة على الخصوص، بل كما يجب للصلاة فهو واجب لغيرها.
وأما ثالثاً: فلأن أقرب ما تمسكوا به قياسهم على غسل النجاسة وهو فاسد من أوجه ثلاثة:
أما أولاً: فلأن إزالة النجاسة نقل عين غير مستحقة فلم تفتقر إلى النية كرد الوديعة، والوضوء تطهير حُكْمِيٌّ فهو كالزكاة والصيام.
__________
(1) إذا يؤخذ من هذا أن العدة ليست عبادة؛ لأنها ليست قربة بدليل أنه لا يشترط فيها نية، بحسب ما سبق من كلام المؤلف في تعريف القربة.

وأما ثانياً: فلأن إزالة النجاسة من جملة التروك فلم تفتقر إلى النية(1)، والوضوء من جملة الأفعال فافتقر إلى النية، ولهذا فإن تروك الصلاة لا تفتقر إلى النية، كالمشي والكلام والضحك، وتفتقر أفعالها إلى النية كالقيام والقعود والركوع والسجود؛ لكنه لا يلزم مداومتها، بل قد اندرجت تحت النية الأولى، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه أن جميع التروك الشرعية غير مفتقرة إلى النية كالزنا والغصب والسرقة، بخلاف الأفعال الشرعية فإنها كلها مفتقرة إلى النية كالصلاة والصوم والحج وجميع العبادات.
وأما ثالثاً: فلأنه لا تأثير للنية في النجاسة فلهذا بطل كونها مشترطة فيها بخلاف الوضوء فإن للنية فيه تأثيراً، ولهذا فإنه لوصب الماء النجس على الماء الطاهر صار نجساً نوى أو لم ينو. ولو صب الماء على الحدث ونوى كان مستعملاً ولم يجز التوضؤ به، على رأي من زعم ذلك. ولولم يكن ناوياً لم يصر مستعملاً وجاز التوضؤ به، فظهر بما ذكرناه أن للنية مدخلاً في الوضوء، وليس لها مدخل في غسل النجاسة، فبان أنها مفارقة للوضوء من هذه الأوجه فبطل قياسه عليها.
قالوا: التيمم بدل ضعيف فلا جرم افتقر [إلى النية] كالكناية، والوضوء أصل قوي فلهذا لم يكن مفتقراً إلى النية كالصريح.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) بل إزالة النجاسة فعل هو الغسل، وإنما الترك تجنبها، ولعل المؤلف قصد أن الإزالة فعل سالب وليس موجباً، ولذا لا تقاس على الوضوء.

أما أولاً: فلأن الكناية إنما افتقرت إلى النية من أجل أنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالاً واحداً، فلهذا افتقرت إلى النية لتخصيص أحد الاحتمالين إلى الآخر، بخلاف الصريح فإنه نص في الطلاق لا يحتمل غيره فلم يكن مفتقراً إلى النية، وهاهنا هو الوضوء كالتيمم في الافتقار إلى النية من أجل كونهما طهارتين، بل نقول: التيمم أظهر في القربة من جهة أنه لا يُفعل إلا عبادة، بخلاف الوضوء فإنه قد يُفعل للتبرد، فإذا كان التيمم مفتقراً إلى النية فالوضوء أحق بذلك وأولى.
وأما ثانياً: فلأن المسح على الخف والمسح على الجبيرة قد اشتركا في كونهما مسحين، كما اشترك الوضوء والتيمم في كونهما طهارتين، ولا شك أن المسح على الخف على رأيكم أقوى، والمسح على الجبيرة بدل ضعيف، ومع ذلك فإنه لا يفتقر إلى النية، فبطل ما توهموه من أن كل ما كان بدلاً ضعيفاً افتقر إلى النية.
قالوا: التيمم يقع تارة بدلاً عن الطهارة الصغرى وهو الوضوء، وتارة يقع بدلاً عن الطهارة الكبرى وهو الغُسل، بخلاف الوضوء فإنه لا يقع بدلاً عن غيره، فلما كان التيمم مختصاً بالأمرين جميعاً احتاج إلى النية؛ لتكون إحداهما متميزة عن الأخرى، ولما كان الوضوء لا يقع إلا عن نفسه لم يكن مفتقراً إلى النية.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فمن جهة الفرق، وحاصله هو أن الوضوء لما كان هو رافع للحدث لا جرم لم يكن إلا للطهارة الصغرى وهي طهارة الحدث، وهكذا الغسل فإنه لما كان رافعاً للحدث [الأصغر] كان رافعاً للحدث الأكبر وهو الجنابة بخلاف التيمم، فإنه غير رافع للحدث، ثم يستباح به ما كان محظوراً؛ فلأجل هذا جاز أن يكون بدلاً عن الطهارتين جميعاً بصفة واحدة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأنه إذا كان حاجة التيمم إلى نية ليكون مميزاً لإحدى الطهارتين عن الأخرى، فيجب أن يشترطوا نية التمييز، وعند أبي حنيفة: أنه لا يحتاج التيمم إلى نية التمييز فبطل ما ظنوه.

قالوا: التيمم وردت فيه الأدلة الشرعية بالنص على اشتراط النية، فيه حيث قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً}[النساء:43]. ولا شك أن التيمم هو القصد، والوضوء لم يرد فيه نص يكون مقتضياً للنية، ومن حق المنصوصات أن لا يقاس بعضها على بعض؛ لأن النصوصية تمنع من جري القياس.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم التنصيص على النية في التيمم، وبيانه: ما تريدون بقولكم إن التيمم ورد فيه النص على النية؟ فإن أردتم أنه قال: تيمموا، ولا شك أن التيمم هو القصد، فهذا خطأ فإن هذا ليس نصاً على النية التي نريدها في الإجزاء للصلاة، فإنه قال:{فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً} والقصد إلى الصعيد ليس نية شرعية مقصودة للصلاة، وإن أردتم أن التنصيص من جهة الفاء حيث قال:{فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً فَامْسَحُوْا بِوُجُوْهِكُمْ} فرتب الفاء على ما قبلها، فليس هذا من قبيل التنصيص على العلة، وإنما هو من قبيل الإيماء، وقد حصل في الوضوء ما هو أقوى منه حيث قال تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. والغرض إذا قصدتم إلى الصلاة فاقصدوا إلى الغسل فيكون حالهما على جهة الاستواء من غير تفرقة.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنه نص على القصد في التيمم، وعلى اعتباره فيه ولم ينص على اعتبار النية في الوضوء، فجائز أن يقاس أحدهما على الآخر كونهما طهارتين تؤدى بهما الصلاة، فإذا افتقر أحدهما إلى النية وجب في الآخر مثله، ومن جهة أن كل عبادة افتقر بدلها إلى النية وجب افتقارها إلى النية أيضاً كالعتق مع الصوم في الكفارة عن الظهار.

قولهم: المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض، إنما لا يقاس المنصوص على المنصوص في الحكم الذي نص عليه، إذ لا فائدة في ذلك لأنهما جميعاً ثابتان بالنص فاستغنيا عن القياس، ولا شك أن النية في الوضوء غير منصوص عليها، فلهذا جاز قياسه على التيمم بالجامع الذي ذكرناه فسقط ما زعموه.
الفرع الثاني: في صفة النية، فإن نوى المتوضئ بوضوئه رفع الحدث، فهل تجزيه هذه النية أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يرتفع حدثه ويؤدي به ما شاء من الصلوات، وهذا هو رأي المؤيد بالله، وهو قول الشافعي وأصحابه، وأبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: هو أنه إذا نوى رفع الحدث على الإطلاق أو الطهارة عن الحدث فقد نوى ما هو المقصود، فيجب أن يؤدي به ما شاء من الصلوات؛ لأن الغرض هو رفع الأحداث وزوالها بالطهارة عنها.
المذهب الثاني: أنه لو نوى رفع الحدث لم يكن رافعاً للحدث ولم يُؤد به شيئاً من الصلوات، وهذا هو الذي ذكره محمد بن يحيى، وهو اختيار السيدين: أبي طالب وأبي العباس.
والحجة على ذلك: هو أن الواجب في الوضوء أن يكون له تعلق بالصلاة واختصاص، بدليل قوله تعالى:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ}[المائدة:6]. لأن المراد فاغسلوا وجوهكم للصلاة التي قمتم إليها، ولا شك أن القيام إنما يكون إلى صلاة معينة؛ لأنه في حالة واحدة أو وقت واحد يستحيل أن يكون قائماً إلى جميعها، ومن توضأ ونوى به رفع الحدث، فإنه لا تعلق له بالصلاة بحال كما لو نوى التبرد به، أو نوى الطهارة من النجس.
والمختار: ما عول عليه المؤيد بالله وهو رأي الأكثر من علماء الأمة، ويدل عليه ما حكيناه عنه، ونزيد هاهنا وجوهاً من القياس:
أما أولاً: فلأن امتناع الصلاة إنما كان من أجل الحدث، فإذا نوى رفع الحدث فقد نوى رفع ما يكون مانعاً من الصلاة، فلهذا كان ذلك مجزياً في تأدية كل صلاة من فرض أو نفل.

وأما ثانياً: فلأن الإجماع منعقد على أن الخطاب في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا}. إنما يتناول المحدث دون من كان على طهارة، فهو مخصوص بالإجماع أنه لا يجب عليه الوضوء، وعلى هذا يكون التقدير في الآية: يا أيها الذي آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون فاغسلوا، فرتب الفاء على قوله: وأنتم محدثون، وهي دالة على السببية، وهذا يقتضي بأن الحدث [حامل] على الوضوء وسبب فيه، وهذا يصدق ما قاله المؤيد بالله من أن الحدث إذا نُوي رفعه جازت به الصلوات كلها لما ذكرناه من أن الحدث لابد من اعتباره في الوضوء بالإجماع.
وأما ثالثاً: فلأن الحدث لما كان مبطلاً للصلاة ناقضاً للطهارة، فيجب أن يكون الوضوء والتطهير مؤثراً في الطهارة وسبباً في صحة الصلاة، فكيف يقال بأنه لا تعلق للوضوء بالصلاة كما زعموه؟ والعجب ممن قال بأن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة مع إشارة الآية إلى ذلك كما قررناه من إيمائها ولا تعلق أعظم من إشارة اللفظ إليه، ولهذا فإن الإيماءات الشرعية في تقرير العلة تِلْو للنصوص الشرعية عليها، وهي في الرتبة الثانية من بيان العلة، وقد أشارت إلى اعتبار الوضوء في الصلاة وتعلقها به مع ما ذكرناه من وجوه المقاييس الدالة على تعلقه بالصلاة وكونه مختصاً بها.
الانتصار: يكون بإبطال ما عداه.
قالوا: الواجب في الوضوء أن يكون له تعلق بالصلاة، بدليل الآية وهي قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا}[المائدة:6]. وليس الغرض القيام إليها أجمع ولا إلى صلاة مبهمة وإنما الغرض إلى صلاة معينة؛ فلهذا وجب تعيينها. ورفع الحدث لا تعلق له بالصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:

أما أولاً: فلأن اسم الصلاة اسم جنس لكونه مستغرقاً باللام، وعلى هذا يكون معنى الآية وفائدتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ}[المائدة:6]. أَي صلاة كانت، إما مؤداة في وقتها أو مقضية، أوكانت فرضاً أو نفلاً، فلابد من أن تكونوا على صفة الطهارة وشرطها، بأن تغسلوا وجوهكم، إلى آخرها، فهذا هو الذي تشير إليه الآية، فأين هذا عن قولهم: إن الصلاة لابد أن تكون معينة ليصح القصد إليها؟ والقصد صحيح إلى جميعها بالاعتبار الذي أشرنا إليه. وكان يصح ما ذكروه من اعتبار قصد الوضوء لصلاة معينة لو قال: إذا قمتم إلى الصلاة، أي وغرضكم الصلاة، فكان ذلك ظاهراً في تخصيص النية لفرض مخصوص، فأما إذا جعل الصلاة غاية كما في ظاهر الآية حيث قال:{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الْصَّلاَةِ} كما تقول: قمت إلى عملي، وقمت إلى شغلي، فتجعله غاية، وانتهاء للفعل كما جعل القيام إلى الصلاة غاية للقيام وانتهائه، وعلى هذا يكون اعتبار القصد بالوضوء لفرض معين غير معتبر من ظاهرها، فبطل قولهم: إنه إذا نوى به فرضاً معيناً لم يجز أن يؤدي به فرضاً آخر.
وأما ثانياً: فكيف يصح ما زعموه(1) من أن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة؟ وأي تعلق أعظم من أنها لا تكون صحيحة إلا بوجوده وثبوته على شرائطه الشرعية المعتبرة فيه، فمتى ارتفع الحدث فالصلاة صحيحة، ومتى لم يكن مرتفعاً فلا وجه للصلاة، فقد اطرد صحة الصلاة، وانعكس بشرط ارتفاع الحدث ووقوعه كما قررناه، ولا تعلق أعظم من ذلك.
قالوا: من نوى بوضوئه رفع الحدث فقد نوى أمراً غير مختص بالصلاة، فيجب أن لا يكون صحيحاً، ولا ينعقد كما لو نوى به التبرد؛ لأنهما قد اجتمعا في كونهما غير مختصين بالصلاة.
قلنا: عن هذا جوابان:
__________
(1) في الأصل: فكيف يصح ما زعموه مع أن. والصواب: ما زعموه من أن...إلخ. وإلاَّ انقلب المعنى والله أعلم.

أما أولاً: فلأنا قد أوضحنا وجه اطراد صحة الصلاة وانعكاسها برفع الحدث وثبوته فأغنى عن إعادته.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: ما تعنون بقولكم إن رفع الحدث لا تعلق له بالصلاة فهو كالتبرد؟ فإن أردتم أن رفع الحدث مباح كما أن التبرد بالماء مباح فهذا خطأ، فإن رفع الحدث قربة تعتبر في الصلاة بخلاف التبرد فإنه مباح لا تعلق له بالقُربة، وإن أردتم أن كل واحد من رفع الحدث والتبرد لا تعلق لهما بعين الصلاة المؤداة المفروضة، فهذا مسلم ولا يضرنا، فإنا نقول: إن رفع الحدث وإن كان غير متعلق بصلاة معينة فإنه إذا نوى به رفع الحدث فإنه يصلح أن يؤدي به جميع الصلوات، وإن كان لا تعلق له بصلاة معينة مفروضة ولا نافلة، بخلاف التبرد فإن غايته أمر مباح لا تعلق له بالقُرب، فلهذا لم يكن الوضوء المقصود به التبرد يصلح لتأدية شيء من الصلوات لعدم القربة فيه فافترقا.
قالوا: من ينوي بوضوئه رفع الحدث فقد يكون بنية متعلقة بنفس الطهارة دون أداء الصلاة بها بأن يكون ناوياً رفع الحدث فيكون على طهارة فقط، فلهذا قلنا: إنه لا يجوز تأدية شيء من الصلوات إذا كان ناوياً بوضوئه ذلك.

قلنا: ليس يخلوا لحال إما أن ينوي الطهارة مطلقاً أو ينوي الطهارة عن الحدث، فإذا نوى الطهارة مطلقاً لم يكن مجزياً له أن يؤدي بهذا الوضوء شيئاً من الصلوات؛ لأن الطهارة المطلقة لا تعلق لها بالصلوات كما لو نوى به التبرد، وقد حكى البويطي عن الشافعي: أنه إذا نوى الطهارة المطلقة بوضوئه أجزأه، والصحيح عند الأكثر من أصحاب الشافعي أنه لا يجزيه. وقالوا: إنما ذكره في (البويطي) محمول على أنه نوى به الطهارة عن الحدث لا مطلق الطهارة، وإن أراد الثاني وهو أنه نوى به الطهارة عن الحدث أجزأه لا محالة كما مر تقريره؛ لأنه مع نية رفع الحدث لا يحتمل إلا الصلاة، بخلاف ما إذا أطلقه فإنه كما يحتمل الصلاة فإنه محتمل لغيرها فافترقا، فوضح بما لخصناه: أنه مهما نوى بوضوئه رفع الحدث فإنه يكون مجزياً لتأدية جميع الصلوات، ولولا أن الأمارات الشرعية مختلفة باختلاف قرائح المجتهدين في مواقع الأنظار الفقهية والمضطربات الاجتهادية فحالها كحال المغناطيس يجذب الحديد ولا يجذب الرصاص والنحاس، لكنت شديد التعجب من نظر الإمام أبي طالب مع ما خصه اللّه تعالى به من اتقاد القريحة وجودة الفطنة والرأي الموفق حيث قال: بأن الوضوء المقصود به رفع الحدث لا يكون مجزياً لتأدية الصلاة على الإطلاق.
الفرع الثالث: في تقرير مسائل صفة النية على رأي المؤيد بالله.
إذا نوى المتوضئ بوضوئه رفع الحدث أو الطهارة عن الحدث أوالطهارة من أجل الحدث أجزأه ذلك؛ لأنه قد نوى به المقصود فلهذا كان مجزياً له، فإن نوى الطهارة المطلقة ولم ينو رفع الحدث لم يجزه؛ لأن الطهارة قد تقع عن حدث وتقع عن نجس، فلابد من النية ليحصل الميز بينهما، فقد حكينا ما كان في (البويطي) عن الشافعي وتأويل أصحابه له، وإن نوى المحدث بوضوئه رفع الجنابة لم يجزه على رأي المؤيد بالله وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه يجزيه.

73 / 279
ع
En
A+
A-