والمختار: ما عول عليه الأخفش من أن المصدر بالضم، والاسم بالفتح في الفاء، واشتقاقه من قولهم: وضئ الرجل إذا صار وضيئاً، والوضاءة هي الحسن والنظافة، فلما كان الوضوء للصلاة يُحَسّن الإنسان ويزيد في جماله ووضاءته قيل له: وضوء، ويزيل عنه سائر الأقذار ومصادمة الغبرات. وفي الحديث: (( الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر، والوضوء بعده ينفي اللمم ))(1).
فإذا تمهدت هذه القاعدة، فلنذكر الفروض الواجبة في الوضوء ثم نذكر سننه ثم نردفه بذكر حكم الشك في تطهير الأعضاء ثم نذكر نواقضه، فهذه فصول أربعة نذكر ما يختص كل واحد منها بمعونة اللّه تعالى.
__________
(1) جاء بلفظ: ((الوضوء قبل الطعام وبعده مما ينفي الفقر وهو من سنن المرسلين)). رواه الهيثمي في مجمع الزوائد، والحاكم في المستدرك.
---
الفصل الأول: في بيان الفروض الواجبة في الوضوء
اعلم أن الطهارة بالماء جارية في لسان حَمَلَةِ الشريعة على نوعين: طهارة عن النجاسة، وطهارة عن الأحداث، فأما الطهارة عن النجس(1) فالذي عليه أئمة العترة والجماهير من علماء الأمة والحنفية والشافعية وغيرهم من الفقهاء، أنها غير مفتقرة إلى النية.
والحجة على ذلك: هو أن الأصل عدم النية ولا تفتقر إلى النية إلا بدلالة ولا دلالة عليها لا من جهة النصوص ولا من جهة الظواهر، ولا من جهة الأقيسة. فلما كان الأمر فيها كما قلناه لم يجز إثباتها إلا بدلالة شرعية تدل عليها، وحكى العمراني صاحب (البيان) عن صاحب (الإبانة)(2) منهم، أنه حُكي عن أبي العباس بن سريج: أن الطهارة من النجس لا تصح من غير نية كطهارة الحدث.
والحجة على ذلك: هو أنها طهارة بالماء لا يمكن تأدية الصلاة إلا بها فافتقرت إلى النية كطهارة الحدث.
والمختار: ما عول عليه أئمة العترة وعلماء الأمة من كونها غير واجبة.
والحجة على ذلك: ما نقلناه عنهم ونزيد ههنا حجتين:
__________
(1) هكذا في الأصل، والمراد: النجاسة.
(2) لأبي جعفر الهوسمي، وقد تقدمت ترجمته.
الحجة الأولى: هو أن المرجع لحقيقة الإزالة للنجاسة إلى أمر عدمي، وهو إزالة النجاسة وإعدامها وإذهابها، وما هذا حاله من التروك فلا يفتقر إلى النية كما تقول في ترك الزنا والسرقة وشرب الخمر، فإن هذه الأمور لما كانت حقائقها آيلة إلى الكف والترك عن الفعل لم تكن مفتقرة إلى النية، فهكذا إزالة النجاسة لا تفتقر إلى النية أيضاً؛ لأن النية غير متعلقة بالأمور العدمية، وإنما يكون متعلقها الأمور الثابتة. لا يقال: أفليس الصائم حقيقته آيلة إلى الكف عن المفطرات كالأكل والشرب والوقاع ومع ذلك فإنه مفتقر إلى النية عندكم، فهكذا ما نحن فيه؛ لأنا نقول: إنه ليس مطلق ترك وعدم، وإنما [هو] ترك شرعي يتعلق بالعبادة، فلهذا كان مفتقراً إلى النية وإن كان تركاً لما كان تركه مقرراً من جهة الشرع؛ فكان شرعياً بخلاف ما نحن فيه فإنه عدمٌ محضٌ فافترقا.
الحجة الثانية: هو أن طهارة النجاسة ليست من قبيل العبادات في شيء، ولهذا فإنها تصح ممن ليس من أهل العبادة كالكافر والصبي، فإنه يتأتى منهما إزالة النجاسة وإعدامها عن الأثواب والأماكن، ولو كانت عبادة لم يصح ذلك منهما كما لا يصح منهما تأدية الصلاة والصوم وسائر العبادات.
الانتصار: يكون بإبطال ما يمكن أن يكون عمدة لهم ووسيلة في تقرير ذلك.
قالوا: طهارة بالماء فافتقرت إلى النية كالطهارة من الحدث.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن المعنى في الأصل هو أنها عبادة فافتقرت إلى النية، بخلاف طهارة النجس فإنها غير عبادة كما مر بيانه فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن هذا معارض بطهارة التبرد فإنها طهارة بالماء، ومع ذلك فإنها غير مفتقرة إلى النية فبطل ما قالوه.
قالوا: طهارةٌ، صحَّة الصلاة مشروطة بها فوجب افتقارها إلى النية كطهارة الأحداث.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه لا يلزم في كل ما كان شرطاً أن يكون مفتقراً إلى النية، ولهذا فإنها(1) مفتقرة إلى الزمان والمكان واللباس، ومع ذلك فإنها(2) غير مفتقرة إلى النية.
وأما ثانياً: فلأن المعنى في الأصل كونها عبادة مستقلة كما سنوضح القول فيه، فلهذا افتقرت إلى النية بخلاف طهارة النجاسة فافترقا.
قالوا: قد قلتم إن طهارة الحدث مفتقرة إلى النية، فأخبرونا عن افتقارها إلى النية، هل كان لأنها طهارة مطلقة؟ فطهارة النجاسة مثلها، وإن كان لأنها مشترطة في الصلاة فطهارة النجاسة مثلها. وإن كان لكونها عبادة فلا نسلم ذلك، فأقيموا برهاناً عليه ليتم ما ذكرتموه.
قلنا: افتقرت إلى النية لكونها عبادة ومن حق ما يكون عبادة ألا يكون عبادة من دون النية، كالصلاة والصوم وسائر العبادات.
قولهم: دلوا على ذلك.
قلنا: سنوضح الكلام على كونها عبادة وعلى افتقارها إلى النية بعد هذا بمشيئة اللّه وعونه.
مسألة: النية في اللغة هي القصد، ولهذا يقال: أين نيتك؟ يعني أين قصدك يكون إلى أي موضع؟ وقد تطلق على العزم يقال: نويت كذا أي عزمت عليه. قال الشاعر:
صرمت أميمة خلتي وصلاتي ... ونوت ولما تنتوي كنواتي(3)
__________
(1) الصلاة.
(2) الزمان والمكان واللباس.
(3) هذا البيت استشهد به ابن منظور في اللسان في مادة (نوى) ولم ينسبه لأحد.
والنواة: الحاجة، وأراد: أنها لم تنتو كما نويت في المودة والمواصلة. ويروى: تنتوي بنواتي، أي لم تقض حاجتي، يقال: نواه بنواته أي رده لحاجته، وحقيقتها آيلة إلى أنها الإرادة المؤثرة في وقوع الأفعال على وجوه مخصوصة كوقوع الفعل عبادة لله تعالى وعبادة للشيطان، فإن السجود واحد واختلاف أحواله إنما يكون بالإرادة كما قررناه، واشتقاق النية من النوى، وهو البعد والغَيبة. فلما كانت النية غائبة عن الناس لكونها حالَّة في القلب، قيل لها: نية. فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن الكلام في النية واسع لانتشارها وسعة أطرافها، لكنا نقتصر منها على ما يختص بالمقاصد الفقهية فنذكر جنسها ثم نذكر محلها ثم نذكر وقت فعلها ثم نذكر قسمتها ثم نردفه بذكر كيفيتها في الوجوب وغيره، فهذه مواقع النظر للكلام في النية نأتي على كل واحد منها بمعونة اللّه تعالى:
النظر الأول: في بيان جنس النية:
اعلم أن النية قصد مقارن للفعل وهي جنس برأسها مخالفة للاعتقاد والظن والشهوة، والكلام في كل واحد من هذه الأجناس يميز الأمر فيه، فلا يجوز أن تكون من قبيل الإعتقادات على أنواعها، من جهة أن الإرادة والقصد تابعان للعلم، لأن الواحد منا لا ينوي بالعبادة وجه اللّه تعالى حتى يكون عالماً بكونه فاعلاً لها، والتابع لا محالة غير المتبوع، فلهذا بطل كونها من قبيل الاعتقادات، ولا يجوز أن تكون من قبيل الظنون؛ لأنه قد يكون ناوياً بالعبادة القربة إلى اللّه تعالى وليس ظاناً لها، وإنما هو عالم بها، والظن لا يكون مصاحباً للعلم في متعلقه، فبطل كونها من قبيل الظنون. ولا يجوز أن تكون من قبيل الشهوات؛ لأن العبادات كلها غير مشتهاة بل منفور عنها، ولا تكون عبادة إلا بأن يقصد بها وجه اللّه تعالى، ولا يجوز أن تكون من قبيل الكلام، ولهذا فإنه لو اقتصر على التلفظ بلسانه من غير ضمير في قلبه لم تكن مجزية له، ولو اقتصر على ما في قلبه وضميره كان مجزياً له، وإن جمع بينهما كان التعويل على ما في القلب لا على اللسان، كما سنوضحه من بعد هذا.
فحصل من مجموع ما ذكرناه، بيان جنسية النية وأنها من قبيل الإرادات دون غيرها من سائر الأغراض المختصة بالقلوب، ولا يجوز أن تكون من قبيل العزوم؛ لأن العزم وإن كان إرادة لكن النية مخالفة من جهة أن النية من حقها أن تكون مقارنة لما هي نية فيه، بخلاف العزم فإنه من حقه التقدم على معزومه؛ لأن العزم إنما يؤتى به من أجل أن يكون الفعل خفيفاً على الفاعل؛ لأنه إذا أراده من قبل فعله خف عليه تحمله، ولهذا منعنا في حق اللّه تعالى أن يكون موصوفاً بالعزم لما كان هذا المعنى غير حاصل في حقه، فلا يجوز أن يكون من قبيل المحبة والرضا وإن كانا جميعاً من باب الإرادة، لأن الواحد منا قد يكون راضياً للفعل ومحباً له، ولا يكون قاصداً به وجه اللّه تعالى ومطابقة مراده، ولهذا فإنه إذا رضي الصلاة وأحبها ولم ينوبها وجه اللّه تعالى ولا أداها بنية الفريضة لله تعالى، لم تكن مجزية، فبان لك أن النية مخالفة لما ذكرناه من أجناس هذه الإرادات، فإن قال قائل: فإذا كانت النية من قبيل الإرادة كما ذكرتم فالمتكلمون مختلفون في الإرادة على ثلاثة مذاهب، فالذي عليه أصحاب الشيخ أبي هاشم من المعتزلة إثباتها شاهداً وغائباً، وذهب الشيخ محمود الملاحمي ) إلى نفيها شاهداً وغائباً، وقال: إن الداعي كاف عنها فلا يحتاج إلى تخصيص الإرادة. وذهب الشيخ أبوالحسين محمد بن علي البصري، [إلى] أنها ثابتة في الشاهد ونفاها في الغائب، فعلى أي هذه المذاهب تعولون في الإرادة؟
__________
(1) الملاحمي من كبار علماء المعتزلة البصريين، وهو مصنف (المعتمد الأكبر). (راجع طبقات المعتزلة ص119).
فجوابه: أن الصحيح عندنا أن الحق ما قاله أبوالحسين وهو إثباتها في الشاهد، من جهة أن الإرادة هي ميل القلب، وهذا إنما يكون في حق الشاهد دون الغائب، وعلى هذا تكون النية أيضاً في حق العبادات؛ لأنها إرادة مخصوصة مقارنة للفعل المَنْوِّي، فأما في الغائب فلا حاجة إلى إثباتها؛ لأن الداعي كاف عن تخصيص بعض الأفعال بوجه دون وجه، ولا حاجة إلى الإرادة، ولهم في ذلك شرح طويل قد أودعناه الكتب العقلية لكونها أخص به.
ثم تنقسم إلى ما تكون كاملة وهو ما يحصل الإجزاء بدون ذلك(1). وهذا نحو أن ينوي الظهر فرضاً لله تعالى مصلحة في الدين وتقرباً إلى اللّه تعالى وامتثالاً لأمره؛ ولكونه واجباً، ولأن اللّه تعالى أوجبه [فريضة] حاصلة على جهة الخضوع والذلة، إلى غير ذلك من الوجوه التي تستحق تأديتها عليها من طريق الاستحباب، وإلى ما تكون مجزية، وهذا هو القدر الذي لا تكون مجزية إلا به من غير زيادة ولا نقصان، وهذا نحو أن ينوي الظهر لله فلابد من هذا، فيذكر الظهر بذكر الفريضة وبالإضافة إلى اللّه تعالى تحصل القربة، فلابد من تأدية العبادة بالنية على أحد هذين الوجهين وسنوضح القول في ذلك في كيفية الإرادة إذا تكلمنا فيه، والله الموفق.
النظر الثاني: في بيان محل النية.
اعلم أن محل النية تارة يكون باعتبار وجوبها وحلولها، وتارة يكون باعتبار كيفية تأثيرها في منويها من المقارنة وعدمها، فهذان موقعان كلاهما مندرج تحت مسمى قولنا: محل النية. فنذكر ما يتعلق بكل واحد منهما بمشيئة الله:
الموقع الأول: في بيان محلها باعتبار وجودها وحلولها.
واعلم أنها في وجودها مفتقرة إلى ثلاثة شروط:
__________
(1) يقصد بأقل منها.
أولها: المحل، فلا يجوز وجودها في غير محل إلا في حق اللّه تعالى، على رأي الشيخ أبي هاشم، فإن إرادته تعالى موجودة على حد وجوده ولا شك أن وجوده ليس في محل ولا جهة لا على جهة الاستقلال كوجود الجواهر والأجسام، ولا جهة التبعية كوجود العرض فإنه يوجد في الجهة تبعاً لمحله، فإرادته بزعمهم حاصلة على حد حصوله كما ذكرناه، فأما من نفى الإرادة عن اللّه تعالى كما هو المختار، وهو رأي الشيخ أبي الحسين البصري، فإنه يجعلها نفس الداعي وهو العلم بالمصالح، فإرادته لفعل نفسه هو كونه يفعله لأجل المصلحة الحكمية، وكونه مريداً لفعل غيره على معنى أنه أمر به ومثيب له عليه.
وثانيها: أن المحل لابد أن يكون فيه حياة، فلا يجوز وجودها في الجمادات كالحجر والشجر وغيرهما، وتشاركها القدرة في هذين الأمرين أعني في المحل والحياة.
وثالثها: أن محلها القلب، فلا يقتصر فيها على محل فيه حياة بل لابد من تنبه القلب وتحالف القدرة في ذلك وتوافق العلم، أعنى الإرادة. لأن كل واحد منهما يفتقر في وجوده إلى هذه الشرائط الثلاث؛ لأنها من أعمال القلوب وأفعالها، فإذا تقرر أن محلها القلب فبأي شيء يكون فعلها في القلب؟
فعلى رأي الشيخ (1) وأصحابه من متكلمي البصريين، يكون فعلها بالقدرة الحاصلة في القلب كما تفعل الحركة في الجوارح كلها بقدرة الجوارح كاليد والرجل؛ لأن كل قدرة تختص بالفعل في محلها كما هو مقرر في كتبهم، وعلى رأي الشيخ أبي الحسين وأصحابه، حيث نفى القدرة التي هي جزء عرضي، يكون فعلها بالقلب نفسه على جهة الإيجاب كما تفعل الحركة تنبه اليد والرجل من غير حاجة إلى قدرة هي جزء عرضي.
__________
(1) أبي هاشم الجبائي.
والمختار: هو نفي القدرة أن تكون جزءاً عرضاً كما هو رأي الشيخ أبي هاشم وأصحابه، وإثبات القدرة بنية كما هو رأي الشيخ أبي الحسين البصري، وهذا المذهب قد قررناه في الكتب العقلية فلا نطيل ذكره هاهنا، وعلى الجملة فإن محلها القلب، سواء قلنا: إنها تفعل بالقدرة كمقالة أصحاب أبي هاشم، أو قلنا: إنها بإيجاب القلب كما هو رأي الشيخ أبي الحسين، فقد تقرر بما لخصناه أنه لابد من محل باعتبار وجودها وحلولها.
الموقع الثاني: في بيان محلها باعتبار كيفية تأثيرها فيما تؤثر فيه.
اعلم أن الأصل في النية أن تكون مقارنة لمنويّها فتجب مقارنتها لأول جزء منه، بحيث لا يجوز خلو جزء من الفعل عن النية فإذا قارنت الجزء الأول كانت مسترسلة على جميع تلك الأفعال لما كانت مقارنة لأولها، وإنما وجب اعتبار ذلك في النية من جهة أنها مؤثرة في كون هذه الأفعال عبادة وفي كونها قربة وفي إيقاعها على وجوه مختلفة من الخضوع والتذلل والخشية والمراقبة، وأنها خالصة لله تعالى دون غيره، وهذه الوجوه مستندها النية ومعتمدها عليها فمن حقها أن تكون مقارنة لأول جزء من تلك العبادة بحيث لا تكون متأخرة عن أول الفعل فيمضي بعضها من غير نية، فهذا هو الأصل في النية أعني المقارنة لما ذكرناه، ولا تكون على خلاف ذلك إلا بدلالة منفصلة تدل على ذلك من مخالطة أو تقديم أو تأخير، فصارت النية بالإضافة إلى الأفعال المفتقرة إلى النية واقعة على أربعة أضرب نفصلها: