والحجة على ذلك: قوله تعالى: {وَالْرُّجْزَ فَاهْجُرْ}[المدثر:5]. والرجز: هو النجس. فإذا كان مأموراً بهجران الرجز مطلقاً فأمره بهجره عند الصلاة يكون أحق وأولى من جهة أن المصلي مأمور بأن يكون على أحسن هيئة وأبعد عن القاذورات، وهكذا حديث عائشة وهو قولها: مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول. فقد فَهِمَتِ الوجوبَ من جهة الرسول ً، ولهذا أطلقت الأمر، وكل ما ذكرناه دلالة على وجوب غسلهما من أجل ما يلحقهما من النجاسة.
والمختار: ما قاله المؤيد بالله وعليه أكثر العلماء وهو أنهما ليسا من أعضاء الوضوء.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوْا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة:6]..الآية.
ووجه تقرير الحجة من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى ذكر فيها أعضاء الوضوء وبينها، ولم يذكر من جملتها غسل الفرجين، فلو كانا من جملتها لذكرهما فيها لأنه في موضع التعليم، والخلاف بين الأصوليين وإن وقع في جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، هل يجوز أو لا يجوز، فلم يقع بينهم خلاف في استحالة تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولا يجوز تأخير ذلك إلا على رأي من جوز تكليف ما لا يعلم، من الأشعرية، وقد قررناه في الكتب الأصولية.
الحجة الثانية: قوله عليه السلام لمن أمره بالوضوء: (( توض كما أمرك اللّه فاغسل وجهك ويديك وامسح رأسك واغسل رجليك)). ولم يذكر له غسل الفرجين عند تعليمه، فلو كانا واجبين لوجب أن لا يؤخر ذكرهما هاهنا.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في كونهما من أعضاء الوضوء، فأما وجوب غسلهما من أجل النجاسة فقد قررناه من قبل فأغنى عن التكرير.

قالوا: إن اللّه تعالى أثنى على الأنصار لما قالوا له(1) إنهم يستنجون، وجعله من جملة الذي هو عبارة عن غسل الأعضاء فلهذا كان من جملتها كما مر.
قلنا: ظاهر الحديث إنما دل على إيجاب غلسلهما ولم يدل على كونهما من أعضاء الطهارة(2) وهذا لا نزاع فيه، إنما النزاع في أنهما عضوان من أعضاء الوضوء وليس في الخبر ما يشعر بذلك.
قالوا: قد سماه طهوراً، والطهور عبارة عما يجب غسله فيجب كونهما من أعضاء الوضوء لما كان غسلهما واجباً.
قلنا: أما وجوب غسلهما فقد سلمناه ولكن من أين أنه إذا وجب غسلهما أنهما من أعضاء الوضوء؟ ولم يقع النزاع إلا فيه، ولم لا يكونان مثل النجاسة على الأبدان والأثواب فإنه يجب غسلها ولا تكون معدودة في أعضاء الوضوء. على أنه إذا كان مرادكم بكونهما من أعضاء الوضوء، وجوب غسلهما فقد ارتفع النزاع المعنوي، فإنا نريد بكونهما عضوين من أعضاء الطهارة أنهما محلان للنية، فإذا كانا غير محلين للنية فقد سلم المقصود.
قالوا: عضوان من أعضاء الطهارة يؤديان بالماء فكانا من أعضاء الوضوء كالوجه واليدين.
قلنا: المعنى في الأصل كونهما تضمنتهما الآية فكانا من أعضاء الوضوء(3)، بخلاف غسل الفرجين فلم يكونا في الآية، هذا من جهة الفرق، ثم نعارض ونقول: شرطان من شروط الطهارة فلا يكونان من أعضاء الوضوء كطهارة الثوب والمكان.
قالوا: عضوان فلا تكون الصلاة مجزية من دون غسلهما كاليدين.
__________
(1) أي: لما قالوا لرسول الله.
(2) يقصد: من أعضاء الوضوء.
(3) يقصد: الوجه واليدين.

قلنا: المعنى في الأصل هو أن غسلهما يفتقر إلى النية في الأصل، فلهذا كانا من أعضاء الوضوء بخلاف غسل الفرجين فإنه لا يفتقر إلى النية، فلهذا لم يعدا من أعضاء الوضوء، ثم نعارض ونقول: عضوان يغسلان للصلاة من أجل نجاستهما فلا يكونان من أعضائه كما لو وقعت نجاسة على الظهر والبطن، فصح بما ذكرناه أن وجوب غسلهما إنما كان من أجل ما يتصل بهما من النجاسة لا أنهما معدودان في أعضاء الطهارة. والله أعلم.
الفرع الثاني: إعلم أن ثمرة الخلاف بين من عدهما من أعضاء الوضوء وبين من لم يعدهما منها ظاهرة، وهو أنهما إذا كانا عضوين من أعضاء الطهارة فالنية تكون واقعة عند غسلهما للوضوء بعد غسلهما للنجاسة وتطهيرهما منها على رأي الهادي؛ لأن عنده لابد فيهما من غسلتين: الأولى منهما لتطهيرهما من النجاسة؛ لأنهما محل الحدث، والثانية لكونهما عضوين من أعضاء الوضوء، فالأولى تخالف الثانية عنده من جهة أن الأولى تحصيل شرط وهو الطهارة، والثانية عبادة لأنه أول عضو من أعضاء الوضوء فلهذا افتقر إلى النية، وغسل النجاسة ليس عبادة فلهذا لم يفتقر إلى النية، وعلى رأي المؤيد بالله ليسا محلاً للنية، وإنما محل النية هو غسل الوجه عنده فهما عنده في وجوب الغسل للطهارة كغسل الثوب والبدن، فهذه فائدة.
الفائدة الثانية في التفرقة بين المذهبين: هو أن من توضأ ثم انتقض وضوؤه بأمر ليس خارجاً من السبيلين مثل قيء أورعاف أو غير ذلك فإنه على رأي من يقول: إنهما من أعضاء الوضوء، فلابد من غسلهما وإن لم تكن هناك فيهما نجاسة؛ لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة كالوجه واليدين، فأما على رأي من لا يجعلهما من أعضاء الطهارة فإنه لا يلزم غسلهما؛ لأنهما في أنفسهما طاهران.

الفائدة الثالثة: إذا وقع عليهما جرح فلم يمكن غسلهما ثم إنه غَسَل باقي الأعضاء للصلاة، فإنه على رأي الهادي، يكون ناقص الوضوء، من جهة أنه تارك لبعض أعضائه للعذر كما لو ترك الوجه واليدين، فأما على رأي المؤيد بالله فإنه يكون ناقص الطهارة لا غير، والوضوء في حقه قد كمل بغسل سائر الأعضاء كما لو كان الجرح على بطنه أو ظهره.
الفائدة الرابعة: إذا كان الفرجان طاهرين ثم انتقض الوضوء بناقض غير خارج منهما واتفق أنه ليس معه إلا ما يكفي عضوين من أعضاء الوضوء من الماء فإنه على رأي المؤيد بالله يغسل به الوجه واليدين، ويكون على هذا متوضياً إذ لا وجه للتيمم مع كمال عضويه بالغسل، ولا يحتاج إلى غسل الفرجين لأنهما طاهران من النجاسة، وليسا من أعضاء الوضوء. وأما على رأي الهادي، فإنه يغسل به الفرجين لا غير؛ لأنهما من أعضاء الوضوء فلابد من غسلهما، ثم إنه يُيَمِّمُ الوجه واليدين ويكون على هذا متيمماً لكمال عضوي التيمم في حقه مسحاً بالتراب.
الفائدة الخامسة: إذا انتقض وضوؤه بخارج من السبيلين ثم إنه توضأ قبل غسلهما وأيقن أنه لا خارج منهما، فإنه على رأي الهادي لا يصح وضوؤه، وإن تحقق أنه لا خارج منهما لبطلان الترتيب في أعضاء الوضوء وهو مراعى على الوجوب في حق المتوضئ كما سنوضحه، وأما على رأي المؤيد بالله فإن وضوءه صحيح إذا تيقن أنه لا خارج منهما عند غسلهما؛ لأنهما ليسا عنده من أعضاء الوضوء، وإنما هما يغسلان للنجاسة لا غير، فلا ترتيب بينهما وبين سائر أعضاء الوضوء إذ ليسا منها كما لوكانت النجاسة على ظهره أو بطنه، فإنه سواء غسلها قبل الوضوء أوبعده، فإن وضوءه صحيح من غير مراعاة ترتيب بينهما. فهذه الفوائد الخمس كلها تأتي للتفرقة بين مذهبي الإمامين: الهادي والمؤيد بالله في غسل الفرجين، هل يعدان من أعضاء الوضوء أو لا يعدان كما قررناه، والله أعلم بالصواب.

الفرع الثالث: في بيان ما يستنجى منه، وهو كل نجاسة خارجة من السبيلين معتاداً كان أو غير معتاد. فهذه قيود ثلاثة لابد من بيانها:
القيد الأول منها: أن يكون خارجاً من السبيلين، فيجب على من أراد الصلاة أن يستنجي بالماء من الغائط والبول والمني، ويجب على المرأة أن تستنجي من ذلك كله لاستوائهما فيما ذكرناه ويجب عليها أن تستنجي من الحيض، فأما دم الاستحاضة فلا فائدة في الاستنجاء منه في حقها لدوامه واستمراره.
فإن أولج الرجل ذكره في قبل المرأة ثم نزعه من غير إمناء ولا صب الماء، فهل يجب عليه الاستنجاء أم لا؟ فعلى رأي الهادي يجب عليه غسلهما جميعاً؛ لأنهما عنده من أعضاء الوضوء، وحين أولج وجب الغسل وبطلت الطهارة الصغرى؛ لأنه يتعدى الحكم ببقاء الوضوء لو كان الرجل متوضياً مع الحكم عليه بوجوب الاغتسال، فلهذا وجب عليه الاستنجاء على رأيه لما ذكرناه. وأما على رأي المؤيد بالله فالغسل وإن وجب عليه لأجل الإيلاج لكن الاستنجاء إنما يتوجه على قوله، لأجل النجاسة ولا نجاسة هناك، فلهذا توجه عليه الوضوء والاغتسال من غير استنجاء.
وهل يكون الاستنجاء من الريح واجباً أو غير واجب؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يكون واجباً، وهذا هو الذي ذكره القاسم بن إبراهيم في كتاب الطهارة، وهو الذي أشار إليه الهادي في المنتخب، وهو محكي عن محمد بن يحيى عليه السلام، وأبي العباس.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ }[المائدة:6].
ووجه الدلالة من الآية: هو أن اللّه تعالى أوجب على الجائي من الغائط التطهر والاستنجاء، ولا شك أن الاستنجاء إزالة النجو، ولم يفصل بين نجو ونجو، وفي هذا دلالة على إزالة الآثار من مواضع النجاسة، وهذا هو مرادنا بوجوب الاستنجاء من الريح؛ لأنها من جملة ما يخرج من الدبر.

الحجة الثانية: قياسية، وهو أنها عين خارجة من الدبر مجاورة للنجاسة، فيجب تطهير الموضع منها كما إذا خرج من ذلك ما يظهر أثره.
المذهب الثاني: أن الاستنجاء منها غير واجب، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة، وهو رواية محمد بن منصور، عن القاسم، والأصح من قول الهادي، وهو محكي عن الصادق، والباقر، وأحمد بن عيسى )، والناصر، وأبي عبدالله الداعي، واختيار الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب، ومحكي عن الإمام المنصور بالله، وهو رأي علماء الأمة أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً، أنه قال: (( ليس منا من استنجى من الريح )). والغرض بقوله: (( ليس منا )). أي ليس من عملنا وشأننا، وليس الغرض أنه على البرائة منه، ولكنه بالغ في نفي وجوبه كما ذكرناه.
الحجة الثانية: قياسية وحاصلها، هو أن الريح طاهرة في الأصل وما يجاورها من النجاسة لا حكم له ويعفى عنه؛ لأنه لا يُعلم له أثر ولا بلة تلحقها فلزم منها تطهير المحل كما في غيرها مما فيه بِلَّة ورطوبة.
والمختار: ما قاله الأكثر من أئمة العترة وعلماء الأمة من أنه غير واجب.
__________
(1) أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أبو عبدالله فقيه أهل البيت حج ثلاثين مرة ماشياً. له كتاب الأمالي المعروف بأمالي أحمد بن عيسى في الفقه والحديث، رواه عنه محمد بن منصور المرادي. خرج أيام الرشيد فأُخِذَ وحبس ثم تخلص واختفى بالبصرة إلى أن مات متخفياً وقد تجاوز الثمانين وعمي، وذلك سنة 247هـ، وقيل: سنة 240هـ (مقدمة البحر).

والحجة عليه: ما نقلناه عنهم؛ ونزيد ههنا وهو أنا لو قضينا بوجوب تطهير المحل عن الريح لكان يلزم أن تطهيره إنما كان من أجل اتصال النجاسة به، فكان يلزم على هذا أن يكون ما جاورته من الأثواب نجساً كما كان في المحل فيلزم غسله وهذا لا قائل به، فيجب القضاء عليها بالتطهير كما قلناه.
الانتصار: يكون بأن ما اعتمدوه غير لازم ولا يدل على نجاسة.
قالوا: الآية في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}. دالة على وجوب التطهير على من جاء من الغائط وخرج منه شيء، ولا فصل بين خارج وخارج.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الآية لفظة عموم فتكون دالة على ما ذكرتموه، وإنما ظاهرها دال على وجوب الطهارة عقيب الجنابة، ودالة على أن من لا يجد الماء مع مجيئه من الغائط أو لامس النساء، وجب عليه التيمم عند عدم الماء، وليس فيها دلالة على وجوب الاستنجاء من الريح ولا تعرض لذكره.
وأما ثانياً: فلأن المقصود من سياق الآية، إنما هو إيجاب الطهارة على كل من أحدث حدثاً كبيراً أو صغيراً، إذا قام إلى الصلاة أن يتطهر من الحدث، والريح لا زيادة فيها على نقض الوضوء؛ لأن النقض يتعلق بالخارج فمن أين أنه إذا دل على تعلق نقض الطهارة يلزم تطهير محله ولا نجاسة فيه؟ فما قالوه تحكم لا دليل عليه.
قولهم في الاستدلال: لم يفصل بين خارج وخارج.
قلنا: في نقض الوضوء أو في تطهير محله؟
فالأول: مُسلَّم ولا ينفعكم تسليمه في تقرير ما ذكرتم.
والثاني: ممنوع وهو نفس المسألة فأقيموا دلالة عليه.
قالوا: ولأنها عين خارجة من السبيلين تجاورها النجاسة كما لوظهر أثرها وكانت مدركة بالحس.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلا نسلم أن هناك بِلَّة توجب التطهير لما قررناه من قبل في الاستدلال من أنه لو كان فيها بلة لوجب تنجيس الأثواب ولا قائل به.

وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن فيها بلة لكن اغتفر الشرع حكم هذه البلة لعموم البلوى بها كما اغتفر عندكم ما تحمله الريح وما يحمله الذباب، بل هاهنا أحق لما يظهر في الأحداث من الرخص على رأي أكثر العلماء كما قدمنا الخلاف فيه.
قالوا: بقاء الريح فيه دلالة على بقاء الأجزاء الحالَّة فيها، ولم تكن الريح من أجل اتصالها بالنجاسة، فيجب إذهاب الرائحة بالماء حتى تذهب تلك الأجزاء على جهة التبع.
قلنا: فأوجبوا غسل الأثواب؛ لأنها متصلة، وغسل ما يتصل به من الإليتين، من جهة أن السراويل والقميص وغيرهما من الأثواب متصل بها وهذا خلاف الإجماع ولا قائل به.
قالوا: أدلتنا دالة على الحظر وما ذكرتموه من الخبر والقياس دال على الإباحة، وقد تعارضا وتدافعا فيجب ترجيح أدلتنا لكونها حاظرة من جهة أن الحظر أحوط للدين، وأقرب إلى ملازمة التقوى، وقد قال عليه السلام: (( المؤمنون وقافون عند الشبهات)).
قلنا: الخبر الذي روينا أصرح بنفي الاستنجاء من الريح من إثبات الآية له، فإن خبرنا لا يحتمل تأويلاً لتصريحه بالغرض، بخلاف الآية فإنه لا ظاهر لها فضلاً عن كونها صريحة بالمطلوب، ومن جهة التعارض إنما يكون بين الآية والخبر إذا كان في الريح نجاسة يجب غسلها بالاستنجاء والخبر دال على نفي الاستنجاء، فيتعارضان لتنافي موجبيهما، ولكنا أوضحنا في الدلالة أنه لا نجاسة فيهما يجب لأجلها الغسل، فإذاً لا تعارض، وإذا كان لا تعارض فلا ترجيح.
قالوا: إنما قلنا بوجوب غسلهما لما كانا عضوين من أعضاء الطهارة كما هو رأي الهادي، ومحمد بن يحيى، وأبي العباس، وإحدى الروايتين عن القاسم، فيجب غسلهما لما ذكرناه.

قلنا: لوسلمنا لكم كونهما عضوين من أعضاء الطهارة لم نخالفكم في وجوب غسلهما بحال، وإن سلمتم أنهما ليسا عضوين من أعضاء الوضوء فلا وجه لإيجاب غسلهما على هذه المقالة، فإذاً لا نزاع هناك قائم من جهة المعنى مع التفصيل الذي ذكرناه، لكنا قد رمزنا إلى بطلان كونهما عضوين من أعضاء الوضوء فإذاً لا وجه لوجوب غسلهما، ولهذا فإننا لا ننازع الفقهاء في وجوب غسل الفرجين، هل كان للنجاسة أوكان لأنهما عضوان من أعضاء الوضوء، لما كان هذا متفرعاً على حد القول بوجوب غسلهما وهم قد منعوه، وقد رددنا عليهم المقالة وأظهرنا الوجه المختار والحمدلله، فبطل القضاء بوجوبهما لعدم الدلالة عليه، لا من جهة المنطوق بأمر ولا ظاهر عموم ولا من المعقول مخيل ولا شبه.
مسألة: إذا(1) بطل وجوب غسلهما فهل يستحب تطهيرهما أم لا؟ والظاهر من كلام أكثر الأئمة: استحباب تطهيرهما عن الريح الخارجة من الدبر.
والحجة على ذلك: هو أن الوجوب وإن كان ساقطاً بالأدلة التي ذكرناها، فالاستحباب باق فلهذا قضوا بالاستحباب، وهل يكون الاستحباب هو الغسل أو المسح؟ فحكى الشيخ أبوجعفر عن أكثر أئمة العترة استحباب الغسل للمقعدة عن الريح؛ لأن غسل ما تحقق من النجاسات واجب للصلاة، وهكذا يكون ما ظن من النجاسات يستحب غسله أيضاً، وحكي عن القاسم: أن مسح الموضع بالماء يجزيه؛ لأن النجاسة فيه غير متحققة فلهذا كان المسح كافياً، وحكى عنه محمد بن منصور أنه قال: من لقيتُ من أهلنا كانوا يستنجون من الريح تنظيفا لا وجوباً. فهذا تصريح بالاستحباب، وليس فيه تصريح على أن الوضيفة في التنظيف هل تكون مسحاً أو غسلاً؟
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وهو أن مسح المقعدة أو غسلها من خروج الريح ليس واجباً ولا مستحباً بل يكون مكروهاً، وتدل على ذلك حجتان:
__________
(1) هذه المسألة بمثابة فرع عن سابقتها؛ لأنها جاءت أثناء التفريع على المسألة الخاصة بتعليل الاستنجاء.

الحجة الأولى منهما: قوله ً: (( ليس منا من استنجى من الريح ))(1). فظاهر هذا الخبر دال على الحظر؛ لأن ظاهره التبرؤ ممن فعل هذا الفعل، كقوله ً: (( ليس منا من غش )). وقوله: (( ليس منا من خان مسلماً أوغره )). وقوله عليه السلام: (( ليس منا من خَبَّث امرأة على زوجها ولا عبداً على سيده)). لكنا عدلنا عن كونه دالاً على الحظر لدلالة، وهو أن الإجماع منعقد على أن كل من مسح دبره من أثر الريح فإنه لا يستحق ذماً ولا يكون فاعلاً لفعل محظور، وإذا لم يكن دالاً على الحظر فلا أقل من الكراهة؛ لأنه قد تقرر كونه ممنوعاً وأدنى درجات المنع هو الكراهة، فلأجل ذلك قضينا بكونه مكروها.
الحجة الثانية: هو أن الوجوب والندب حكمان شرعيان فلابد لهما من دلالة ولا دلالة له هاهنا تدل على وجوبه ولا على ندبه، وإنما قضينا بكونه مكروهاً؛ لأنه نفي في ظاهر الخبر أنه ليس من عمله وشأنه، وأدنى ذلك: الكراهة. والعجب ممن قال من أئمة العترة بوجوبه أو ندبه مع ما في الخبر من التعرض للوعيد على فعله بقوله: (( ليس منا )) وما هذا حاله مما يتعرض فيه للوعيد فلا أقل من كونه مكروهاً، إذا لم يكن محظوراً.
__________
(1) قال في الجواهر: هكذا حكاه في الشفاء وغيره، ولم أقف عليه في شيء من كتب الحديث. وفي الهامش ما لفظه: بل هو موجود رواه ابن عساكر وغيره عن جابر بلفظ: ((من استنجى من الريح فليس منا)). لكنه ضعيف.

69 / 279
ع
En
A+
A-