أما أولاً: فلأنه صرح أنه لو فعله لكان سُنَّة، وهذا يدل على أنه لو فعل لكان سنة فضلاً عن كونه متروكاً.
وأما ثانياً: فلأنه لو كان واجباً لم يتركه فلما تركه دل على عدم وجوبه.
فأما من أراد القيام إلى الصلاة فهل يكون واجباً في حقه أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه واجب على الرجال والنساء عند القيام للصلاة، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، القاسمية والناصرية جميعاً، وهو رأي الإمامين الأخوين المؤيد بالله وأبي طالب. ومن الفقهاء من ذهب إليه كالحسن البصري، وأبي علي الجبائي، وابن أبي ليلى، وابن عللة، ومحكي عن الحسن بن صالح.
والحجة على ذلك: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُم ْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَ مَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوْا مَاءً فَتَيَمَّمُوْا صَعِيْدَاً طَيِّبَاً}[النساء:43].
ووجه الاستدلال من هذه الآية: هو أن اللّه تعالى أوجب على من جاء من الغائط ألا يعدل عن الماء مع تمكنه منه وقدرته عليه، ولم يفصل في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين خارج وخارج، ولا بين قُبُل ودُبُر، وهذا يدل على صحة ما قلناه من وجوب الاستنجاء بالماء على الرجال والنساء لمن أراد الصلاة منهم وهو مطلوبنا.
الحجة الثانية: ما روى أبو أيوب الأنصاري، وجابر بن عبدالله، وأنس بن مالك، وهو أنه لما نزل قوله تعالى: {فِيْهِ رِجَالٌ يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا واللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ }[التوبة:108]. فقال رسول اللّه ً: (( إن اللّه أثنى عليكم يا معشر الأنصار في الطهور فما طهوركم؟ )) فقالوا: نتوضأ للصلاة، ونغتسل من الجنابة، ونستنجي بالماء. فقال: (( هو ذلكم فعليكموه )).
ووجه تقرير الحجة من هذا الخبر: هو أنهم لما ذكروا له الاستنجاء في الطهارة صوَّبه، وقال: (( هو ذلكم فعليكموه))(1). فكان دليلاً على الوجوب من وجهين:
__________
(1) أخرجه البزار عن عويمر بن خزيمة.
أما أولاً: فلأنه أدرج الاستنجاء مع الوضوء للصلاة والغسل من الجنابة، فلما كانا واجبين باتفاق فهكذا حال الاستنجاء إذ لا فارق بينها فعدم التفرقة بينها فيه دلالة على شمول الوجوب لها وهذا هو مرادنا.
وأما ثانياً: فلأنه قال: (( هو ذلكم فعليكموه)). فقوله: (( فعليكموه)). اسم فعل دال على الإغراء فكأنه قال: الزموه. كما يقال: عليك زيداً، أي الزمه. وعَليَّ زيداً أي أولنيه، وإذا كان متضمناً للأمر كما أشرنا إليه؛ فظاهر الأمر للوجوب عند أئمة العترة فحصل من ذلك: وجوب الاستنجاء.
الحجة الثالثة: ما روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) أنه قال: إن من كان قبلكم يبعرون بعراً وأنتم تثلطون ثلطاً(1) فأتبعوا الحجارة الماء(2).
ووجه تقرير هذه الحجة: هو أن الطهارات لا مجال للأقيسة فيها، ولا يضطرب فيها بالخطوات الوساع؛ لأجل ضيق مسالك المعاني والاشتباه فيها، وإنما مستندها يكون أمراً غيبياً. وإذا كان الأمر كما قلناه فيها فكلام أمير المؤمنين فيما ذكره إنما قاله عن توقيف من جهة الرسول ً. لما ذكرناه من ضيق مسالك الأقيسة عن الجُرِيِّ فيها، فلما فهم من جهة صاحب الشريعة الوجوب في غسل ما هذا حاله أطلق العبارة الدالة على الوجوب وهو الأمر، إذ لو لم يكن فاهماً للوجوب لما جاز له إطلاق ما يوهم الوجوب من غير دلالة، فهذا تقرير ما قاله أصحابنا في الدلالة على الوجوب.
__________
(1) ثلط: بثاء مثلثة فلام مفتوحين، سلح سلحاً رقيقاً. ا.هـ. لسان.
(2) رواه في الشفاء، وفي شرح التجريد. قال في نجوم الأنظار: وفيه عبدالملك بن عمير، هالك، وأشار إليه في النهاية. وأخرجه عبدالرزاق وسعيد بن منصور. ا.هـ ص31 . (خ).
المذهب الثاني: أن الاستنجاء بالماء غير واجب على الرجال والنساء، وهو المحكي عن ابن الزبير، وحذيفة بن اليمان، وسعد بن أبي وقاص ) من عيون الصحابة (رضي اللّه عنهم)، فإنهم لا يرون بوجوب الماء في غسل الفرجين، ومروي عن جماعة من التابعين، قال عطاء ): غسل الدبر محدث. وقال سعيد بن المسيب: ما يفعل ذلك إلا النساء، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه فإنهم متفقون على أن استعمال الماء غير واجب. ثم اختلف الفريقان في كيفية تقرير المسألة، فذهب أبو حنيفة وأصحابه، إلى أنها نجاسة معفوٌّ عنها إذا كانت غير متعدية للشرج فإن تعدته نظرت فإن زادت على قدر الدرهم وجب غسلها بالماء لا غير ولا يجزيه إزالتها بالحجر، وإن لم تكن متعدية للشرج وكانت في محلها كان معفواً عنها ولا يلزمه استعمال الحجر ولا الماء، ولا يجب عليه بحال، فإن فعل كان على طريق
__________
(1) أبو إسحاق سعد بن أبي وقاص، مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب الزهري، صاحب رسول اللّه ً شهد بدراً والمشاهد كلها. روى عن النبي ً، وعن خولة بنت حكيم، وروت عنه: عائشة، وابن عباس، وابن عمر، وآخرون. كان أحد الفرسان من قريش الذين كانوا يحرسون رسول اللّه ً في مغازيه، وهو الذي كوف الكوفة وتولى قتال فارس، وفتح القادسية، وكان أميراً على الكوفة لعمر وهو من أشهر رواة الحديث من الصحابة، توفي بقصره في العقيق وحمل إلى المدينة، ودفن في البقيع. واختلف في تاريخ وفاته. ولعل الأقرب أنه توفي عام 58هـ. عن 74 سنة. (تهذيب التهذيب).
(2) عطاء بن السائب بن مالك الثقفي ويقال: الكوفي. روى عن أبيه، وسعيد بن جبير والزهري، والحسن البصري، والشعبي وغيرهم. كان من كبار التابعين والفقهاء. وثقه أحمد بن حنبل، وضعفه ابن معين. قال العلامة الجرافي: قلت: كان في حفظه شيء.ا.هـ. توفي سنة 136هـ، روى له الأربعة والشيخان متابعة. (مقدمة الأزهار. تهذيب التهذيب).
الاستحباب لا غير، هذا ملخص مقالة أبي حنيفة وأصحابه، وأراد بالشرج هو غضون(1) المقعدة ومعاطفها وهو [من] شَرجَ بفتح الراء والجيم، والشين منقوطة من أعلاها، واشتقاقه: إما من شرج العيبة وهو عراها ينضم مرة وينفتح أخرى، وإما من شرج الوادي وهو منفسحه؛ لأن رأس المقعدة ضيق، والشرج ما كان منفسحاً منها إلى ما يلي الإلية، وإما من الشرج وهو اشتقاق في القوس؛ لأن المقعدة تنشق وتنفتح عند قضاء الحاجة. فهذه الاشتقاقات ممكنة في تسمية الشرج شرجاً والغرض هو ما ذكرناه. وأراد بالدرهم الذي قدر به النجاسة التي يعفى عنها في البدن والأثواب بموضع الاستنجاء فلا تجب إزالتها، فإن زادت وجب، هو الدرهم الأسود البغلي، وهو درهم يكون كحافر البغل مجوف الوسط ملفوف الطرفين، والغرض من هذا التقدير إنما هو المساحة في الطول والعرض دون السُّمْكِ فلو علت مقدار شبر أو أكثر من ذلك ولم تكن زائدة في المساحة على ما ذكرناه من قدر الدرهم لم تجب إزالتها.
فأما الشافعي رضي اللّه عنه فقد حكى عنه المزني: أن النجاسة إذا كانت دون الشرج خُيِّر بين المجفف وهو الحجر، وبين المزيل وهو الماء، وإن كانت فوق الشرج فلا تُزال إلا بالماء. وذكر المروزي من أصحاب الشافعي أن الذي حكاه المزني عن الشافعي، لا يحفظ عنه في أي شيء من كتبه، وزعم أن الشافعي قد رد على من قال بهذه المقالة، والذي يتحصل من مذهب الشافعي (رحمه اللّه) أن له في المسألة قولين:
فالقول الأول: أنه مخير بين المجفف والمزيل إذا كانت النجاسة حاصلة في باطن الإليتين ولم تنتشر إلى خارجهما، فإن انتشرت إلى ظاهرهما فلا يجزئ إلا غسلهما بالماء.
__________
(1) الغضن: بفتح الغين المعجمة وسكون الضاد المعجمة، والغضن بفتحتين: الكسر في الجلد والثوب و الدرع (من الثياب) وغيرها وجمعه غضون. ا.هـ لسان.
القول الثاني: أن المرجع بذلك إلى ما يتعارف الناس من ذلك ويعتادونه، فإن تجاوز ذلك وبلغ النادر لزمه غسله سواء لطخ الإليتين أم لم يلطخهما، وإن كان الخارج من الدبر قيحاً أو صديداً أو دماً، فإن ذلك كله غير معتاد، اجزأه الاستنجاء بالأحجار ولم يلزمه الغسل بالماء، والأول هو المعمول عليه على رأي الشافعي فهذا تقرير مقالة الفقهاء فيما يجب غسله بالماء وما لا يجب.
والحجة لهم على ما قالوه: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن )). وقوله ً: (( فليستنج بثلاثة أحجار)).
ووجه الاستدلال بذلك: هو أن الرسول ً، إنما أرشد في الاستنجاء إلى الأحجار ولم يذكر الماء، وهذا فيه دلالة على عدم وجوبه وأنه إنما يفعل على جهة الاستحباب، لما روى أبوهريرة قال: نزلت هذه الآية، وهو قوله تعالى: {رِجَالٌ يُحِبُّوْنَ أَنْ يَتَطَهَّرُوْا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِيْنَ }[التوبة:108]. إلى سائر التقدير الذي ذكره أصحابنا دلالة على الوجوب، فجعلوه دلالة على الاستحباب لأجل ما ورد عنهم من الثناء بسببه وهو أقوى ما يؤخذ للفقهاء في الاحتجاج على بطلان وجوب الاستنجاء بالماء، وسنورد ما يحتجون به في الانتصار.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة، من القول بوجوبه لما ذكروه، ونزيد ههنا حججاً ثلاثاً:
الحجة الأولى: ما روى زيد بن علي، عن: آبائه، عن أمير المؤمنين كرم اللّه وجهه عن: الرسول ً، أنه جاءته امرأة فسألته: هل يجزئ امرأة أن تستنجي بشيء سوى الماء؟ فقال: (( لا. إِلاَّ أَلاَّ تجد الماء ))(1).
ووجه الدلالة من هذا الخبر: من جهتين:
__________
(1) وهو في الاعتصام والجامع الكافي والروض النضير ج1/236.
الأولى منهما: أنها سألته بلفظ الإجزاء وقررها عليه وأجابها بما يوافقه، ولفظ الإجزاء إنما يستعمل في الواجب ولهذا يقال: هل تجزئ صلاة الظهر مجموعة إلى العصر أم لا؟ ولا يقال ذلك في النفل فلا يقال: هل تجزي صلاة الضحى أم لا؟ لأن الإجزاء هو ما يخرج به عن عهدة الأمر فلا يتأتى إلا في الواجب، وهذا يبطل كلام أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى حيث قال: إن الاستنجاء بالماء والحجر لا يجبان.
الثانية: أنه قال: (( لا. إلا ألا تجد الماء )). فمنع من استعمال غير الماء مع وجود الماء، وفي هذا دلالة على أن الحجر لا يقوم مقامه لمن أراد الصلاة وهذا هو مطلوبنا، ويبطل ما ذكرنا مذهب الشافعي حيث قال بوجوب الأحجار دون الماء، من جهة أنه لم يجعل الحجر بدلاً عن الماء إلا عند عدم الماء.
الحجة الثانية: ما روي عن عائشة (رضي اللّه عنها) أنها قالت لنساء الأنصار: (( مرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول فإن رسول اللّه ً كان يفعله وأنا استحييهم))(1).
__________
(1) هذا الحديث مروي عن معاذة العدوية في الاعتصام وأصول الأحكام والشفاء. قال في الاعتصام: وأخرج أحمد والترمذي والنسائي عن عائشة. وأورد الحديث بلفظ: ((.. أن يستنجوا بالماء..)). ج1/200.
ووجه الاستدلال من هذه الحجة: هو أن الأمر ظاهره الوجوب عند أئمة العترة إلا لدلالة تخصه، والصحابي إذا أطلق فقال: مروا، فليس يطلق ذلك إلا لأنه قد فهم الوجوب من صاحب الشريعة (صلوات اللّه عليه)، لأن إطلاقه لما يوهم الوجوب فيما ليس واجباً يكون تلبيساً وجناية، فدل إطلاقها للأمر على فهم الوجوب لا محالة، وفي هذا حصول غرضنا، ويؤيد ما ذكرناه من فهمها للوجوب هو أنها قد أبانت مستندها في إطلاق لفظ الأمر؛ وهو قولها: إن رسول اللّه ً كان يفعله، لما فهمت الوجوب من الفعل بقرينة قد علمتها، هذا إذا قلنا: بأن مطلق الفعل في حقه ليس دالاً على الوجوب، فقد علمت بالقرينة وجوبه بفعله ولهذا أطلقت الأمر، وذلك لا يحسن إلا عند فهم الوجوب كما قررناه.
الحجة الثالثة: من جهة القياس، وهو أنا نقول: نجاسة يمكن إزالتها بالماء على من قام إلى الصلاة من غير مشقة تلحق بذلك فكانت إزالتها واجبة كما إذا تعدت الشرج على رأي الشافعي، وكما لو زادت على قدر الدرهم على رأي أبي حنيفة، ثم نقول: طهارة تعلق بالخارج من السبيل فوجب تعليقها بقليل الخارج وكثيره كالطهارة من الحدث، ويؤيد ما ذكرناه ويوضحه؛ هو أن الخارج يوجب حكمين:
أحدهما: غسل الموضع من النجاسة.
وثانيهما: الطهارة من الأحداث، ثم إنا قد اتفقنا على أن الطهارة من الحدث تجب من القليل والكثير، وهكذا غسل الموضع يجب أن يكون معلقاً بالقليل والكثير من غير فرق.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن )). فذكر الأحجار ولم يذكر الماء فدل على أنه غير واجب.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأنه إنما عرف بما ذكره ما يتعلق بأدب الاستجمار بالأحجار ولم يتعرض للاستنجاء بالماء بنفي ولا إثبات، فلا دلالة لكم على ذلك، وليس يلزم إذا ذكر شيئاً بحكم أن يذكر ما لا تعلق للواقعة به، فقصده بيان الاستجمار لا بيان الاستنجاء، فأحدهما مخالف للآخر.
وأما ثانياً: فلأن نفي وجوب الاستنجاء بالماء عند ذكر الاستجمار بالأحجار، إنما يكون تعويلاً على المفهوم، وقد قال بإبطال مفهوم اللقب كل محصل من الأصوليين وهذا منه، فمن أين أنه إذا شرع الاستجمار بالأحجار يبطل حكم وجوب الماء؟ فلا يؤخذ حكم هذا من هذا لعدم التعلق بينهما.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( فليستنج بثلاثة أحجار)). وهذا أمر، وظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة خاصة.
قلنا: ليس في هذا إلا أنه أمر بالاستجمار بالحجر، فمن أين أنه يدل على عدم إيجاب الماء؟ وليس في الحديث تعرض لذكر الماء، اللهم إلا أن يقال: إن دلالته عليه من جهة مفهومه، وقد مر الكلام عليه فأغنى عن الإعادة.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه قال: (( عشر من سنن المرسلين)). وذكر فيها الاستنجاء(1)، وهذا يدل على كونه سنة وليس واجباً؛ لأن إطلاق السنة فيما يكون الأفضل فعله ويجوز تركه، ولو كان واجباً لما جاز تركه.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن تسميته بكونه سنة لا يمنع كونه واجباً؛ لأن المسنون ما تكرر فعله، والواجب يتكرر فعله ولا يجوز الإخلال به، فهو مسنون وزيادة.
وأما ثانياً: فقد يجوز إطلاق المسنون على الواجب، ولهذا ذكر من جملتها الختان، وهو واجب في حق الرجال والنساء، ولهذا فإنه يقال: سن رسول اللّه ً فيما سقت السماء العشر، على أنا نقول: المراد بالأمر الاستجمار بالأحجار عند عدم الماء فإنه واجب كما مر بيانه.
__________
(1) روي بلفظ: ((عشر من الفطرة)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والبيهقي وفيه رواية ((عشر من السنة)).
قالوا: إنما توجبون الاستنجاء لأجل الصلاة لكونه عضواً من أعضاء الوضوء، والله تعالى يقول في آية الوضوء: {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوْا وُجُوْهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوْا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}[المائدة:6]. فذكر الأعضاء ولم يذكر الاستنجاء، وهذا فيه دلالة على أنه غير واجب ولا عضو من أعضاء الطهارة.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأن كونهما عضوين من أعضاء الطهارة، سنوضحه بكلام يخصه ونذكر ما هو الأولى بمعونة اللّه تعالى.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا كونهما ليسا بعضوين من أعضاء الطهارة، فإيجاب غسلهما إنما كان من أجل النجاسة التي هي لاحقة بهما، ثم نقول: قد يجب في الوضوء مالم تدل عليه الآية كغسل اللحية، ومسح الأذنين، والمضمضة والاستنشاق، فليس يلزم إذا لم يذكر في الآية ألا يكون واجباً بدليل غير الآية فبطل ما توهموه.
قالوا: نجاسة يسن الاحتراز منها فلم تجب إزالتها كالدم اليسير.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم نجاسته، بل هو طاهر فلا يمكن القياس عليه بجامع النجاسة فقد مر ما فيه فلا نعيده.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا نجاسته، فإنه إنما يعفى عنه لما فيه من المشقة بالاحتراز عنه وكثرة البلوى به، بخلاف الاستنجاء فافترقا.
مسألة: في التفريع:
الفرع الأول: وإذا تقرر وجوب غسلهما بالأدلة النقلية التي ذكرناها، فهل يجب غسلهما لكونهما نجسين، أو لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن وجوب غسلهما إنما كان لأنهما عضوان من أعضاء الطهارة كالوجه، وهذا هو رأي الهادي وأولاده، ولا أعرف أحداً قبل الهادي قال بهذه المقالة(1).
والحجة على ذلك: قوله ً للأنصار: (( يا معشر الأنصار إن اللّه أثنى عليكم في الطهور فما طهوركم ))؟ قالوا: نتوضأ للصلاة ونغتسل من الجنابة ونستنجي بالماء. فقال: (( هو ذاكم فعليكموه )).
ووجه الاستدلال بما ذكرناه: هو أن اسم الطهور واقع على هذه الأعضاء كلها، ومن جملتها الاستنجاء بالماء، فلما كان الوجه واليدان والرجلان من أعضاء الوضوء وجب في الاستنجاء مثله، ويؤيد هذا التقرير هو أنه عليه السلام لما قال: (( ما طهوركم ))؟ فسروه بما قالوه وجعلوا من جملته الاستنجاء، ثم حثهم على فعله بقوله: (( هو ذاكم فعليكموه )) على جهة الإغراء لهم على فعله والاهتمام به والحث عليه، وهذا يوضح كونه من أعضاء الوضوء.
الحجة الثانية: قياسية، وحاصلها أنا نقول(2): عضوان يؤديان بالماء فيجب أن يكونا من أعضاء الوضوء كالوجه واليدين، أونقول: عضوان لا تكون الصلاة مجزية من دون غسلهما مع التمكن، فيجب كونهما من أعضاء الوضوء كاليدين والرجلين.
المذهب الثاني: وهو أن وجوب غسلهما إنما كان من أجل إزالة النجاسة لا من جهة كونهما عضوين من أعضاء الطهارة، وهذا هو رأي المؤيد بالله وهو رأي أكثر العترة.
__________
(1) جاء رأي الهادي في كتابه (المنتخب) ما لفظه: ((قلت، (السؤال من محمد بن سليمان الكوفي): فالاستنجاء فريضة من فرائض الوضوء؟. قال الهادي: نعم، أكبر فرائض الطهور)). ا.هـ ص24.
(2) بلسان الهادي لا المؤلف كما قد يفهم من استخدامه ضمير المتكلم.