الشرط الثالث: [نجاسة](1) الخارج [من السبيلين] سواء كان معتاداً أو غير معتاد؛ لأن الاستحباب إنما هو معلق بالخارج النجس، وهذا حاصل في جميعهاً فلا فصل بين العذرة والدم، والدود والحصاة والبعرة إذا كانت ملوثة بالنجاسة، ولا فصل بين الدم والبول، والمذي والمني، فكل هذه الأشياء إذا كانت خارجة من القبل والدبر ملوثة بالنجاسة، فإنها يستحب منها الاستجمار من غير تفصيل بين أجناسها، والبحث عن النجاسات فيه صعوبة ويكفينا من ذلك تعليق الاستجمار بالخارج النجس على أي وجه خرج.
الفرع السادس: في كيفية الاستجمار بالأحجار. فليس فيه تقدير واجب على رأي أئمة العترة، وإنما المقصود منه تخفيف النجاسة وتقليلها، وكيفية الاستحباب في ذلك له وجهان:
أحدهما: أن يأخذ ثلاثة أحجار بيساره فَيُمِرَّ حجراً على صفحته اليمنى ثم يرمي به، ثم يأخذ حجراً فَيُمِرَّهُ على صفحته اليسرى ثم يرمي به، ثم يأخذ حجراً فَيُمِرَّهُ على المسربة ويرمي به.
و الحجة على ذلك : ما روى سهل بن سعد الساعدي (2) أن النبي ً قال : (( يكفي أحدكم إذا قضى حاجته أن يستنجي بثلاثة أحجار : حجرين للصفحتين وحجر للمسربة )) (3).
وليس ذلك يكون إلا على ما ذكرناه .
__________
(1) في الأصل أن الخارج سواء...إلخ وهو غير مستقيم؛ لأن المراد: نجاسة الخارج كما يوضحه ما بعده، ولعله سهو من الناسخ.
(2) أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج الأنصاري، من أعلام الصحابة، ورواة الحديث. روى عن النبي ً وعن عدد من الصحابة، روي عن الزهري، عن سهل أن رسول اللّه ً توفي وهو ابن 15سنة، وتوفي سنة 88هـ، على خلاف في ذلك. (تهذيب التهذيب ج4/221).
(3) هذا الحديث جاء في نجوم الأنظار، عن سهل بن سعد الساعدي أنه ً قال: ((يكفي أحدكم إذا قضى حاجته...)) إلخ. ورواه في الشفاء.
وثانيهما: أن يأخذ حجراً فيمره من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ثم يديره إلى اليسرى من مؤخرها إلى مقدمها، ثم يأخذ حجراً ثانياً فيمره من مقدم صفحته اليسرى إلى مؤخرها ويديرهُ من مؤخر صفحته اليمنى إلى مقدمها ثم يأخذ الحجر الثالث فيمره على جميعها مع المسربة.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال: (( تُقْبِلُ بحجر وتُدْبِرُ بحجر وتُحَلِّقُ بالثالثة ))(1).
وهذا هو الأحسن؛ لأنه مشتمل على استيعاب الأحجار الثلاثة في جميع مواضع الاستجمار،
كما أشار إليه ظاهر الحديث بقوله : ((فليستنج بثلاث أحجار)) . ولم يفصل في ذلك.
ويستحب أن لا يمس ذكره بيمينه، لما روى أبو قتادة عن النبي ً أنه قال: (( إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه ))(2).
ويكره له أن يستجمر بيمينه لما روته عائشة قالت: (( كانت يد رسول اللّه اليمنى لطعامه وشرابه، وكانت يده اليسرى للاستنجاء))
وكان الرسول ً يجعل اليمنى لما علا من الأمور كلها، ويجعل شماله لما دنى من الأمور كلها. ويكره له أن يستعين بيمينه على الاستجمار بالأحجار؛ لأن الأحاديث لم تفصل في الكراهة بين الانفراد والإستعانة باليمين، فإذا كان يريد الاستجمار من الغائط فإنه يأخذ الحجر بشماله ويستجمر بها وإن كان استجماره من البول نظرت، فإن كان الحجر كبيراً أوكان قريباً من الحائط والجدار فإنه يأخذ ذكره بشماله ويمسحه، وإن كان الحجر صغيراً أو أمكنه أن يضعه بين عقبيه أو أصابع رجليه فعل ذلك، وإن لم يمكنه ذلك جاز له إمساكه بيمينه حذراً من التلوث بالنجاسة لو أرسله، فمن أجل ذلك جاز استعمال يمينه(3).
__________
(1) رواه في الشفاء. ونحوه في المهذب.
(2) تمام الحديث: ((.. وإذا أتى الخلاء فلا يتمسح بيمينه)). رواه أبو داود. وللبخاري نحو منه
.
(3) جاز هنا بمعنى انتفاء الكراهة كما جاء في حديث عائشة وأبي قتادة.
الفرع السابع: والنساء كالرجال في استحباب الاستجمار من البول والغائط، من جهة أن التكليف واحد في حقهم وحقهن، وإنما وجه الخطاب إلى الرجال ليس من أجل اختصاصهم للحكم؛ ولكن من أجل الشرف وعلو القدر عند اللّه تعالى، وما ذكرناه في كيفية استجمار الرجل في الدبر فهو في حق المرأة على سواء من غير مخالفة بينهما، وأما كيفية استجمارها [في القُبُل] فإنه مختلف لأجل اختلاف المحلين فينظر في حالها، فإن كانت بكراً وأرادت الاستجمار بالأحجار من البول فإنها تمسح بالحجر تلك الثقبة ولا تتعرض لموضع البكارة؛ لأنه مسدود تحت ثقبة البول وقد لا يصل إليه البول، فإن قدر وصوله إليه فإنها تمسح بالحجر مسحاً رفيقاً موضع البكارة وإن لم تفعل ذلك فلا حرج عليها؛ لأنه يخاف من جُري الأحجار عليه جرحه وانفتاحه لأجل التكرار، وإن كانت ثيباً فإنها إذا قعدت للبول انفتح فرجها، فإذا بالت نزل البول إلى موضع البكارة. ومدخل الذكر ومخرج الولد ومخرج الحيض فيستحب لها مسح موضع البول وموضع البكارة بالأحجار، وإن استيقنت أنه لم ينزل البول إلى مخرج الحيض لم يستحب لها مسحه واقتصرت على مسح مخرج البول لا غير. فأما الخنثى المُشْكِلُ فإنه ينظر في حاله، فإن خرج البول من كلا فرجيه استحب له أن يمسحهما جميعاً بالأحجار؛ لأنهما في حقه كالمخرج الواحد في حق الصريح، وإن كان البول خارجاً من أحدهما فالمستحب مسحه دون الآخر؛ لأن المسح إنما يتعلق بالخارج، فإذا لم يخرج منه شيء فلا استحباب في مسحه، فأما استجماره بالأحجار في الدبر فهو سواء هو وغيره من الرجال والنساء في ذلك، وأما الاستنجاء بالماء فسنفرد له باباً على حياله نذكر فيه ما يتعلق به بمعونة اللّه تعالى.
الفرع الثامن: فإن مسح دبره بثلاثة أحجار فلم يحصل النقاء زاد رابعاً، لأن المستحب هو الإنقاء، لقوله عليه السلام: (( فليستطب )) وهذه إشارة إلى الاجتهاد في التنقية . فإن حصل النقاء بالرابعة استحب له أن يزيد خامسة ليحصل الوتر لقوله عليه السلام : (( من إستحجر فليوتر )) ، ويستحب له أن يزيد في عدد الأحجار الأوتار حتى يستيقن أنه لم يبق إلا الأثر اللاصق الذي لا يخرجه إلا الماء، فمتى انتهى إلى هذه الحالة فقد زال استحباب مسحه بالأحجار وتوجه بالماء كما سنوضحه، فإن حصل الإنقاء بحجرين لم يلزمه استيفاء الثلاث عند أئمة العترة، وهو محكي عن مالك وداود من أهل الظاهر، وقال أصحاب الشافعي: يلزمه استيفاؤها. وعن بعضهم مثل قولنا.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود بالاستجمار إنما هو التنقية، فإذا كانت حاصلة بدون الثالثة فلا حاجة إلى الثالثة؛ لأن الحجرين بالإضافة إلى الكفاية كالثلاث، فكما أنه لا حاجة إلى الرابعة مع الاكتفاء بالثالثة، فهكذا لا حاجة إلى الثالثة مع الاكتفاء بالحجرين والله أعلم. وإنما قلنا: لم يلزمه استيفاء الثلاث من جهة أن المقصود قد حصل بالثنتين فلا حاجة إلى غيرهما، وتستحب له الثالثة لأجل الوتر كما قلنا في الخامسة إذا حصلت التنقية بالرابعة، ولا يمتنع استحباب الشيء من وجه، وعدم استحبابه من وجه آخر.
الفرع التاسع: في بيان حكم الاستجمار بالأحجار، وقد ذكرنا في أول هذه المسألة أنه واجب مطلقاً على رأي الشافعي، وأنه ليس واجباً على الإطلاق على رأي أئمة العترة وأبي حنيفة، ومهدناه بالأدلة فأغنى عن الإعادة، والذي نذكره هاهنا، هو ما نعرض له من الأحكام باعتبار أحواله وذلك يقع على خمسة أوجه:
أولها: أن يكون واجباً، وهذا إنما يكون في حال عدم الماء، فيتطهر المحدث بالأحجار على جهة الوجوب على رأي أئمة العترة.
والحجة على ذلك: ما في خبر عائشة (رضي اللّه عنها): (( فليستطب بثلاثة أحجار ... ))
وقوله في خبر أبي هريرة : (( فليستنج بثلاثة أحجار )) والأمر هاهنا دال على الوجوب بقرينة، وهو أنه إذا كان عادماً للماء وأراد الصلاة بعد مجيئه من قضاء الحاجة فإن المأخوذ عليه التنقي من النجاسات والأقذار، ولن يكون كذلك إلا بما ذكرناه من الاستجمار بالأحجار الثلاثة، فلأجل هذا حملناه على الوجوب في هذه الأخبار بهذه القرينة.
وثانيها: أن يكون مستحباً، وهذا إنما يكون مع وجود الماء معه؛ لأن في الماء كفاية عن التطهير بالأحجار، لكن الأخبار وردت بالاستجمار فحملناها على الاستحباب، من جهة أن مطلق الأمر دال على الطلب، وأقل ما يطلب في الأوامر الشرعية أن يكون مستحباً، فلا جرم حملناه على الاستحباب.
وثالثها: أن يكون محظوراً، وهذا نحو أن يستجمر بالخبز أو باللحم أو غير ذلك مما يكون له حرمة عند اللّه تعالى، فما هذا حاله يكون محرماً يأثم فاعله، وإن فعله عالماً بقبحه استغفر اللّه تعالى من الإثم الذي واقعه.
ورابعها: أن يكون مكروهاً، وهذا نحو الاستجمار باليمنى لما رويناه من حديث عائشة، وحديث أبي قتادة في نهيه عن الاستجمار باليمين، وأقل مراتب النهي المنع، وأقل المنع الكراهة إلا لقرينة.
وخامسها: أن يكون مباحاً، وهذا نحو أن يحصل النقاء بالحجر الواحدة فيزيد الثانية أو يحصل بالثنتين فيزيد الثالثة(1) فإن كل ما زاد على مقدار التنقية فهو مباح في حقه إن شاء فعله وإن شاء تركه. فهذه هي أحكام الاستجمار بالإضافة إلى ما يعرض من أحواله.
__________
(1) تأنيث الحجر هنا يخالف الأصل فيه وهو التذكير، كما مر في كلام المؤلف وفيما أورده من الأحاديث ولم نقف على استواء التذكير والتأنيث فيه، ولعل تأنيثه جاء هنا باعتباره بمعنى الجمرة أو المسحة كما سبق في الفرع الثامن. والله أعلم.
الفرع العاشر: ليس المقصود من الاستجمار هو إزالة الأثر بحيث تزول عنه الرائحة، وإنما المقصود هو إزالة ما تناوله الأحجار من الآثار النجسة فأما زوال الرائحة فإنما يكون بالماء، والاستقصاء في الاستجمار إنما يليق بمذاهب الفقهاء، لأنهم لا يوجبون الاستنجاء بالماء، فأما على رأي أئمة العترة فإن الاستنجاء بالماء واجب لمن أراد الصلاة، فهو وإن وقع تقصير في الاستجمار فإن الماء يزيل ما كان متبقياً من تلك الآثار ويقطع مادة تلك الروائح.
مسألة: الذي عليه أئمة العترة وفقهاء الأمة من الصحابة (رضي اللّه عنهم) والتابعين الأكثر منهم، على أن البول يكره من الإنسان قائماً.
والحجة على ذلك: ما روي عن الرسول ً، (( أنه نهى أن يبول الرجل قائما ))،
وقد ذكرناه من قبل إلا من علة، وقد ذكرنا وجه الرخصة في ذلك من أجل العلة، وحكي عن أبي هريرة من الصحابة، وعن الشعبي (1) وابن سيرين (2) من التابعين، الترخيص في ذلك وإن لم يكن هناك علة.
__________
(1) أبو عمرو عامر بن شراحيل بن عبدالشعبي من همدان. كان فقيهاً، وراوية للحديث، وعالماً بالمغازي والسير. قال مكحول: ما رأيت أعلم بسنة ماضية من عامر الشعبي. وقال ابن سيرين لأبي بكر الهذلي: الزم الشعبي فلقد رأيته يستفتى وأصحاب رسول اللّه في الكوفة. مات سنة 104هـ، وقيل: سنة 107هـ. عن 82 سنة. (طبقات الفقهاء 82).
(2) ابن سيرين: أبو بكر محمد بن سيرين مولى أنس بن مالك، من فقهاء التابعين في البصرة، سمع أبا هريرة وابن عمر وابن الزبير وأنس بن مالك من الصحابة، روى عنه قتادة. سبى خالد بن الوليد أباه سيرين وبعث به إلى عمر بن الخطاب فوهبه لأبي طلحة، فوهبه أبو طلحة لأنس بن مالك فكاتبه على أربعين ألفاً (ثمن حريته) فأدَّاها. قيل عنه: كان ورعاً في الفقه، وفقيهاً في الورع. توفي في تسع من شوال سنة عشر ومائة للهجرة. (طبقات الفقهاء).
والحجة لهم على ذلك: ما روي عن النبي ً، (( أنه أتى سُباطة(1) قوم فبال فيها قائماً))،
وما روي عن أمير المؤمنين أنه بال قائماً، وروي عن عمر أنه فعل ذلك، فكل واحد من هؤلاء قد فعله وفيه دلالة على أنه غير مكروه؛ لأنه الظاهر فيما يفعل أنه على جهة الاختيار، ولا يقدم على كونه مفعولاً لعلة إلا لدلالة، ولا دلالة هاهنا على اعتراض مرض أو غيره من العلل في إباحة ذلك.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة وغيرهم من فقهاء الأمة ويدل عليه ما قالوه، ونزيد ههنا، وهو أنه قد ورد تَأكِيْدان من جهة الشارع، وهو ما ذكرناه من نهيه عنه غير مرة، وروت عائشة قالت: (( ما بَالَ رسول اللّه ً قائماً منذ أنزل عليه القرآن)).
وعن عائشة أنها قالت: من حدثك أن رسول اللّه بال قائماً فلا تصدقه. وفي بعض الأحاديث: فكذبه(2). ومن جهة أن البول قاعداً أقرب إلى ستر العورة، ولأنه إذا بال قائماً لا يأمن من الترشيش ببوله، فهذه الأحاديث كلها دالة على المنع منه وكراهته.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في ذلك.
قالوا: روي عن الرسول ً أنه أتى سُبَاطَةَ قوم فبال فيها قائماً، فظاهر هذا الحديث دال على الإباحة والإطلاق من غير عذر، فمن ادعى عذراً فيه فعليه إقامة الدلالة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فإن ما ذكروه دال على الإباحة والجواز، وما رويناه من الأحاديث دال على المنع والكراهة فيتعارضان، فإذا تعارضا فلا بد من الترجيح، ولا شك أن خبرنا قد عمل عليه أكثر الأمة من الصحابة والتابعين، فما هذا حاله فهو راجح على غيره ممن ليس له هذه الخاصة.
ومن وجه آخر: وهو أن خبرنا دال على الكراهة والمنع، وخبركم دال على الجواز، والعمل على الكراهة أحوط؛ فلهذا غَلَّبْنا جانب الكراهة، كما لو تعارض حديثان وأحدهما دل على الحظر. والآخر دال على الإباحة، كان جانب الحظر أحق كما مر غير مرة.
__________
(1) السُّباطة: الكناسة وقد سبقت.
(2) بقية الحديث السالف.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أنه لا تعارض بينهما، فإنه يمكن الجمع بينهما، وهذه طريقة مستقيمة عند النظار من الأصوليين أنه مهما أمكن الجمع بين الأخبار كان أحق من الحكم بالتعارض، لأن في الجمع بين الخبرين عملاً بهما معاً، وفي الترجيح والتعارض إهمال أحدهما والعمل على الآخر. وبيان طريقة الجمع بينهما هو أن نقول: إن خبرنا كان من غير علة بل كان مطلقاً، وخبركم كان من أجل علة كانت من وجع كان في مأبضه(1)، فلهذا بال قائماً، وإذا كان الأمر كما قلناه كنا قد عملنا على الحديثين جميعاً من غير إبطال لأحدهما.
قالوا: روي عن أمير المؤمنين (كرم اللّه وجهه) وعمر أنهما بالا قائمين، والصحابي إذا فعل فعلاً فليس للاجتهاد فيه مدخل، فإنما يفعله عن توقيف من جهة الرسول ً.
قلنا: إن كان احتجاجكم بعمل الصحابة لكونهم ناقلين له عن الرسول ً فما أجبنا به عن الخبر الأول أجبنا به عن الخبر الثاني من غير مخالفة، لأن مستندهما هو الرسول ً فجوابنا عليه ما مر، وإن كان احتجاجكم على ذلك من جهة كونه عملاً من جهة الصحابة (رضي اللّه عنهم) فعنه جوابان:
أما أولاً: فنقول: الصحابي ليس حجة معتمدة، وقد قررنا هذه المسألة في الكتب الأصولية.
وأما ثانياً: فنهاية الأمر أن يكون مذهباً للصحابي، ومذاهب المجتهدين لا تلزم بعضهم لبعض، وإنما المعتمد ما كان من جهة صاحب الشريعة صلوات اللّه عليه.
قالوا: خبرنا وافق حكم العقل، وخبركم ناقل عما قضى به العقل من الإباحة، فخبرنا معتضد بحكم العقل فيجب أن يكون راجحاً على غيره.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن العقل إنما دل على الإباحة بشرط أن لا يرد مغير لحكمه، فليس دالاً على الإباحة مع وجود المغير، فكيف يكون عضداً للخبر وقوة مع أنه غير دال على ما دل عليه الخبر لما قررناه من كون دلالة العقل على الإباحة مشروطة بعدم المغير لها.
__________
(1) المأبض: الركبة أو المفصل من كل شيء وقد تقدم.
وأما ثانياً: فخبرنا ناقل عن حكم العقل، والعمل على الناقل أحق من العمل على المبقي، من جهة أن أحكام الشريعة أكثرها على الانتقال عن حكم العقل، والعمل على الغالب من عادة الشرع أحق من العمل على النادر، من جهة أن النادر لا حكم له لندوره وقلته. فهذا ما أردنا ذكره من حكم الاستجمار بالأحجار وما يعرض من آدابه، وبالله التوفيق.
---
الباب الخامس: في بيان حكم الاستنجاء بالماء
اعلم أن النجو هو جعر السبع(1)، والنجو أيضاً: ما يخرج من بطن ابن آدم، والاستنجاء: استفعال، وفي اشتقاقه وجهان:
أحدهما: أن يكون مأخوذاً من النجو. فيقال: نجا الغائط عن نفسه ينجوه نجواً، واستنجى إذا مسح موضع الغائط ومكان النجو أو غسله(2).
وثانيهما: أن يكون مأخوذاً من قولهم: نجوت الشجرة إذا قطعتها، وكأن الآدمي لما كان يقطع عن نفسه آثار تلك النجاسات، قيل لفعله ذلك: استنجاء، وكلا الوجهين لا غبار عليه خلا أن الوجه الأول أقرب إلى ملائمة الغرض ومطابقة المقصود. وقد حكي عن العتبي(3) أنه قال: إنه مأخوذ من النجوة، وهي ما ارتفع من الأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها، وهذا وإن كان محتملاً لَكِنْ فيه بعد، ويرى عليه أثر التكلف.
مسألة: الاستنجاء هو إزالة أثر الغائط والبول بالماء، ولا خلاف في أنه غير واجب لمن لم يرد الصلاة.
والحجة على ذلك: ما روت عائشة (رضي اللّه عنها) أن الرسول ً بال يوماً فقام عمر خلفه بكوز من ماء فقال: (( ما هذا يا عمر))؟ فقال: ماءٌ تتوضأ به، فقال: (( ما أمرت كلما بلت أن أتوضأ فلو فعلت ذلك لكان سُنَّة))(4). فدلالته على سقوط الوجوب من وجهين:
__________
(1) جعر: بجيم مفتوحة فعين مهملة ساكنة، فراء مهملة: نجو كل ذات مخلب من السباع، وما تيبس في الدبر من العذرة. ا.هـ لسان.
(2) قال ابن منظور في لسان العرب: والنجو ما يخرج من البطن من ريح وغائط، وقد نجا الإنسان والكلب نجواً وأنجا فلان إذا جلس على الغائط. ويقال: أنجا الغائط نفسه ينجو. وفي الصحاح نجا الغائط نفسه، والنجو: العذرة نفسه، والاستنجاء والاغتسال بالماء من النجو والتمسح بالحجارة منه. ا.هـ لسان.
(3) بهذه النسبة عدة أشخاص. راجع الأعلام 4/201.
(4) أورده في نجوم الأنظار للعلامة عبدالله بن الحسن بن يحيى الهادي القاسمي، وفي الشفاء، وأخرجه أبو داود.