وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن لها ظاهراً في العدد فإن ذلك إنما كان معتبراً على جهة العرف، وهو أن الثلاثة هي النهاية في التطهير، فذكر العدد من أجل ذلك لا من جهة كونه مرعياً على جهة الوجوب.
قالوا: قد نص على العدد فيما رويناه من تلك الأخبار، ولا يجوز أن تكون النصوصية فيها من جهة الإنقاء، فإن ذلك غير مختص بالثلاثة، وإذا بطل ذلك دل على أن اعتبار العدد من جهة التعبد كالعدد في العدة، فلهذا وجب التزامه.
قلنا: ليس المقصود في العدة براءة الرحم، ولهذا فإنه لو قال: إن تيقنت براءة رحمك فأنت طالق، وجبت عليها العدة، فلهذا كانت جارية على جهة التعبد بخلاف ما ذكرناه في الاستجمار فإن المقصود هو التنقية والتطهير، وهما حاصلان من غير اعتبار عدد، فبطل ما توهموه.
والاستجمار مشروع في السبيلين كليهما عند أئمة العترة وفقهاء الأمة لا يختلفون في ذلك.
والحجة على ذلك: هو أن الظواهر من الأخبار الدالة على الاستجمار لم تفصل بينهما كقوله ً: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن ))
وهكذا حديث سلمان وحديث خزيمة بن ثابت، فدل ذلك على استوائهما. ومن جهة القياس وهو أن الغرض بالاستجمار إنما هو تقليل النجاسة، وهذا عام فيهما جميعاً، ولأن النجاسة خارجة منهما جميعاً فوجب استواؤهما في التطهير بالأحجار، ولأنه لو وقع تردد فإنما يكون في القبل لما كانت النجاسة فيه مائعة ليس لها أثر يلصق بمحلها، والقياس جامع بينهما من جهة أن القبل أحد السبيلين خارج منه نجاسة لا يعفى عنها فاستويا في الحاجة إلى الأحجار كالدبر.
الفرع الثالث: وهل يكون المدر وغيره قائماً مقام الحجر؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجوز بغَير الحجر كالتراب والعود واللِّبْن المطبوخ وغير ذلك، وهذا هو رأي أئمة العترة وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ومالك.

والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً أنه قال : (( إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار أو ثلاثة أعواد أو ثلاث حثيات من تراب)) .
رواه الدارقطني في مسنده ولم يذكره أبو داود. ومن جهة القياس وهو أن المقصود تقليل النجاسة وهذا حاصل بغير الحجر كحصوله بالحجر، ولأنه جامد لم يعرض فيه ما يوجب الكراهة من كونه طعاماً ولا من جنس ما يتطعم فأشبه الحجر.
المذهب الثاني: أنه لا يجوز بغير الحجر، وهذا هو المحكي عن زفر، وأحمد بن حنبل، وداود وطبقته من أهل الظاهر.
والحجة على ذلك: ما تكرر في لفظ الأحاديث من اعتبار الأحجار، كحديث أبي هريرة وحديث خزيمة وغيرهما من الأحاديث فإنها دالة على تخصيص الحجر من بين سائر الأشياء الجامدة، ولا يجوز أن يقال: إنما نص على الأحجار من أجل التنقية؛ لأن ذلك غير مختص بها فلم يبق إلا أن يقال: قصد به التعبد كرمي الجمار.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة ومن وافقهم من فقهاء الأمة، وذلك لحديث ابن عباس الذي اختص به الدارقطني (1) في مسنده، والحديث وإن انفرد به واحدٌ من المحدثين فإنه مقبول باتفاق، ولأن ابن مسعود رضي اللّه عنه أتاه بحجرين وروثة فرد الروثة ولم يردها إلا من أجل النجاسة، ولهذا قال ً: (( (( إنها ركس)) )) ،
ولو كان عوضها عوداً أو غير ذلك من الأمور الطاهرة المخالفة للحجر لَقَبِلَهُ، ولهذا علل الرد بالنجاسة فدل على ما قلناه.
الانتصار: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن عمر البغدادي المعروف بالدارقطني إمام عصره في الحديث، وأول من صنف القراءات ووضع لها أبواباً. ولد سنة 306هـ بدار القطن (محلة كبيرة ببغداد). رحل إلى الشام ومصر، وروى عنه خلق وأئمة. وعاد إلى بغداد وتصدر للإقراء بها إلى أن مات سنة 385هـ. من كتبه: (السنن)، و(المختلف والمؤتلف) في الحديث و(العلل الواردة في الأحاديث النبوية). ا.هـ. ملخصاً من طبقات الشافعية لابن هداية اللّه ص102.

قالوا: أكثر الأحاديث على مراعاة الحجر، وفي هذا دلالة على أن المقصود إنما هو التعبد دون التنقية؛ لأنها حاصلة بغير الحجر.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن الاستجمار ليس من باب العبادة فيقال: إنه قصد به التعبد، ولهذا فإنه يصح ممن ليس مكلفاً كالمجنون والصبي بخلاف ما قالوه من رمي الجمار فإنه من باب العبادة، فأمكن أن يقال: فيه خصوصية الحجر لما كان عبادة فافترقا.
وأما ثانياً: فلأن السابق إلى الفهم من كون الاستجمار مشروعاً إنما هو من أجل التنقية، وهذا حاصل بغير الأحجار كحصوله بها، وليس العجب من إنكار داود وطبقته للاستجمار بغير الأحجار؛ لكونهم قد أصروا على إنكار القياس والتطلع إلى محاسن الشريعة في استنباط المعاني الدقيقة واللطائف المخيلة، فلأجل هذا جمدوا على النصوص والظواهر من غير تعرض لمعانيها، وإنما العجب ممن اعترف معنا بالقياس من علماء القياسيين كزفر وأحمد بن حنبل حيث لم يفهموا المعنى مع كونه سابقاً إلى الأفهام، وأصروا على الجمود على هذه الظواهر مع اشتمال المعاني على تسمير الأحكام بمسامير المصالح، وتضبيبها بضباب(1) المحاسن فلا عذر لهم في ذلك.
الفرع الرابع: إذا تقرر جواز الاستجمار بغير الأحجار بما ذكرناه، فلا بد من اعتبار كونه جامداً طاهراً منقياً غير مطعوم لا حرمة له ولا جزءاً من حيوان. فهذه شروط ستة لابد من إحرازها والإشارة إلى تفاصيلها:
الشرط الأول: أن يكون جامداً، فإن استجمر بمائع غير الماء كالخل واللبن والعسل وغيرها لم يجز من جهة أن النجاسة لا تزول عندنا بغير الماء من سائر المائعات، وقد قررناه من قبل فلا نعيده، ولأن ذلك يؤدي إلى التلوث بالنجاسة وكثرتها، فلا يجوز استعماله للوجه الذي ذكرنا.
__________
(1) الضبة: حديدة عريضة يضبب بها الباب والخشب، والجمع ضِبَاب. ا.هـ. لسان.

الشرط الثاني: أن يكون ذلك الجامد طاهراً، فلا يجوز الاستجمار بالروثة والعذرة لما قدمناهُ من قبل من نهي الرسول ً عن الاستجمار بالأشياء النجسة، فإن استجمر بالآجر جاز ذلك؛ لأن النجاسة قد ذهبت أجزاؤها بالنار وصار مستحجراً، وإن استجمر باللِّبْنِ الذي لم يطبخ نظرت، فإن [كان] خلطه من الأمور الطاهرة كالتبن وروث ما يؤكل لحمه جاز الاستجمار به، لكونه جامداً طاهراً، وإن كان خلطه مما يكون نجساً أو كان مضروباً بالأمواء النجسة كأبوال بني آدم، أو بالخمر أو غير ذلك، فلا يجوز الاستجمار به، فإن غسل ولم تكن النجاسة مرئية فيه طهر وجاز الاستجمار به لطهارته. وإن استجمر بحجر قد استجمر بها هو أو غيره لم يجز ذلك لنجاستها فهي كالروثة والقطعة من العذرة، فإن غسلت(1) جاز الاستجمار بها لطهارتها إذا غسلت بالماء القراح، فإن غسلت بالخَلِّ وماء الورد لم يجز الاستجمار بها؛ لأن النجاسة لا تزول بغير الماء. وحكي عن بعض أصحاب الشافعي جواز ذلك، لقوله ً: (((( الأرض تطهر بعضها بعضاً)).
ولأن المقصود إزالة عين النجاسة وقد زالت، فإن جفت النجاسة بالريح أو بطلوع الشمس عليها لم يجز الاستجمار بها؛ لأن النجاسة باقية فيها كما مر بيانه، وإن استجمر بحجر ثم وجده وشك هل جرى عليه ما يطهره أم لا؟ لم يجز له أن يستجمر به لأن الأصل بقاء النجاسة فلا وجه لاستعماله، وإن رأى وشك هل قد استجمر به أو غيره جاز له الاستجمار به؛ لأن الأصل هو الطهارة فلا تعويل على الشك في ذلك، فإن استجمر بشيء نجس أو بمائع غير الماء كره له ذلك لما ذكرناه من النهي عن استعمال النجس، وهل يجزيه عن الاستجمار أم لا؟ فيه لأصحاب الشافعي وجهان:
__________
(1) يقصد الحجر المستعملة في الاستجمار، لا ما شبهها به من الروثة والقطعة من العذرة.

أحدهما: أنه لا يجزيه ولا بد من غسله بالماء، لأن هذه نجاسة من غير الخارج من السبيلين فلم يجزه إلا الماء كما لو وقعت نجاسة على موضع من بدنه في غير موضع الاستجمار.
وثانيهما: أنه يجزيه الأحجار، لأن هذه النجاسة تابعة للنجاسة التي على المحل، فلهذا زالت بزوالها. وهذا التردد للشافعية لما كان عندهم أن الاستجمار بالأحجار واجب، وأن الاستنجاء بالماء غير واجب في السبيلين كما سنوضحه بعد هذا بمعونة اللّه تعالى، فأما على رأي أئمة العترة من وجوب الاستنجاء بالماء، فإنه إذا استجمر بالحجر النجسة أو بمائع غير الماء كالخل وماء الورد جاز ذلك؛ لأن المقصود بذلك هو تقليل النجاسة وتخفيفها من القبل والدبر، وهذا حاصل بما ذكرناه. وإذا أراد الصلاة فلا بد من غسلها بالماء لكون الموضع نجساً فلا تكون طهارته إلا بغسله بالماء من بين سائر المائعات بخلاف تقليل النجاسات فإنه حاصل بما ذكرناه، فلا جرم حكمنا بجوازه مع تعلق الكراهة به لكونه نجساً.
الشرط الثالث: أن يكون الجامد منقياً، فإن كان غير منق كالزجاج والحديد الصقيل وما أشبهه لم يجز الاستجمار به لبعده عن الإنقاء ويؤدي إلى تكثير النجاسة وتلطخه بها، فإن استجمر بهذه الأمور الصقيلة عقيب الاستجمار بالأحجار جاز ذلك، وهو أحد قولي الشافعي. وله قول آخر: أنه لا يجوز.
والحجة على ما قلناه: هو أن معظم النجاسة قد زال بِجُرِّي الأحجار عليه فلهذا جاز إزالة ما بقي من أثرها بالأشياء الصقيلة، ويفارق ذلك ما إذا كان مستجمراً بالشيء الأملس من أول الأمر فإنه لا يجزيه ذلك؛ لأنه لا يحصل به رفع النجاسة وقلعها فافترقا. ويكره الاستجمار بالفحم عند أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي وله قول آخر: أنه يجوز.
والحجة على ما قلناه: ما ورد في خبر عبدالله بن مسعود: (( انْهَ أُمتك أن يستنجوا بعظم أو روث أو حممة )).
.إلى آخر الحديث، وقد مر فلا وجه لتكريره.

الشرط الرابع: ألا يكون الجامد مطعوماً، وهذا نحو الخبز واللحم فلا يجوز الاستجمار بهما؛ وإنما لم يجز ذلك لأن اللّه تعالى رفع من قدرهما بأن جعلهما غذاء لبني آدم وصلاحاً لأجسامهم وقواماً لها. ولا شك أن الاستجمار بهما إهانة له(1) وحط من قدره، وتنجيسه يناقض هذه القاعدة، فمن أجل ذلك لم يجز الاستجمار بهما فمن استجمر بهما فقد أتى محظوراً ويأثم بما فعله وتجزيه التوبة عن المأثم، ويكفي ذلك عن الاستجمار؛ لأن المقصود هو الرفع للنجاسة والقلع لها، وهذا حاصل وإن فعل محظوراً، كما قلناه في الوطء في زمان العدة من غير رجعة فإنه وإن كان محظوراً لأجل الطلاق لكنه موجب للحل والرجعة كما سنوضحه.
__________
(1) بهما، أي بالخبز واللحم، إهانة له، أي للغذاء الخاص ببني آدم.

الشرط الخامس: أن لا يكون للجامد حرمة وتلك الحرمة، إما بالإضافة إلى كونه صلاحاً لمعاش بني آدم، وهذا نحو هذه البقول من الفجل والبصل والثوم وغير ذلك، وسائر الحشائش التي [فيها] مصالح الأدوية، وصلاح الأغذية؛ فإنها وإن لم تكن لها حرمة الخبز واللحم لكنها غير خالية عن حرمةٍ لما لها من الاتصال بالأغذية والتفكه لبني آدم؛ فلأجل هذا جرت مجرى السكر والسفرجل والرمان فلا يجوز الاستجمار بها لما قررناه، وإما بأن تكون حرمته لنفعه في الدين، وهذا نحو أن يستجمر بما فيه من الكتب قرآن، أو من حديث رسول اللّه ً، أو من علم الفقه أو علم التفسير أو غير ذلك مما يكون له تعلق بالدين ونفع فيه، فإنه لا يجوز الاستجمار به لما له من الحرمة التي رفع اللّه شأنها، وعظم قدرها وأمرها، وإما أن يكون شرفه لنفاسة ثمنه وعلو قدره، وهذا نحو الاستجمار بقطعة من ذهب أو فضة، أو نافجة مسك أو عنبر، أو قطعة ياقوت أو خرقة من ديباج، أو غير ذلك من الأشياء الغالية في أثمانها، فما هذا شأنه يكره الاستجمار به لما فيه من السرف والمخيلة، وقد نهي عن ذلك؛ فإن فعل ذلك كره له لما ذكرناه، ولا يلزمه إعادة الاستجمار؛ لأن الغرض المطلوب حاصل بما ذكرناه وهو قلع آثار النجاسة وقطعها.

الشرط السادس: ألاَّ يكون جزءاً من حيوان متصلاً به، وهذا نحو أن يستجمر بيده أو بيد الغير أو بذنب حمار أو عصفورة حية، فما هذا حاله لا يجوز له الاستجمار به لماله من الحرمة فأشبه العظم، وإن استجمر بقطعة من صوف نظرت فإن نتفها من حيوان بالقرب منه كره له ذلك لما فيه من إيلام الحيوان وإتعابه وإن حصلت في يده من غير إيلام للحيوان جاز ذلك؛ لأنها رافعة للنجاسة قالعة لأثرها فجاز بها كالحجر، ولا يجوز الاستجمار بجلد الميتة قبل الدبغ لكونه نجساً فأشبه الميتة والروثة، وإن دبغ لم يجز الاستجمار به عند أئمة العترة خلافاً للفقهاء فإنهم جوزوا ذلك لكونه طاهراً عندهم وقد قررنا حكم هذه المسألة فأغنى عن الإعادة، وقد حُكي عن الشافعي عن(1) حرملة والبويطي أن الاستجمار به غير جائز، وإن كان طاهراً؛ لأنه في معنى الرِّمة وقد نهي عنها، فما جمع هذه الشروط جاز الاستجمار به.
الفرع الخامس: في بيان ما يستجمر منه. ويستجمر من كل نجاسة خارجة من السبيلين ملوثة بالنجاسة معتادة كانت أو غير معتادة، فهذه شروط ثلاثة لا بد من بيانها:
الشرط الأول: أن تكون خارجة من السبيلين، وهذا نحو البول والغائط.
أما الغائط فالحجة على الاستجمار منه: ما روى أبو هريرة، عن الرسول ً: (( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستنج بثلاث)).
وأما البول فالحجة عليه :
ما روى ابن عباس رضي اللّه عنه عن النبي ً أنه مر على قبرين فقال : (( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه عن بوله)).
وفي رواية أخرى : (( لا يستبرئ )) .
فإن قال قائل : فكيف قال عليه السلام : (( وما يعذبان بكبير))؟
والمعذب لا يعذب إلاَّ على كبيرة إما كفراً وإما فسقاً، وكل واحد منهما معدود في الكبر، فكيف نفى عنه الكبر، وما كان صغيراً فلا عقاب عليه؟
فجوابه: أن يقال فيه تأويلان:
__________
(1) في الأصل: في حرملة والبويطي.

التأويل الأول: أن غرضه بقوله: (( وما يعذبان بكبير )) ,
أي عندهما، بل هي كبيرة عند اللّه تعالى، وإن ظناها صغيرة، فرب معصية يعتقدها العاصي صغيرة وهي عند اللّه كبيرة، ومثل هذا ربما يسنح في هذه المعصية، فإنه ربما وقع فيها التساهل لكثرة اعتيادها وتساهل أكثر الخلق فيما هذا حاله فيظنونه صغيراً وهو عند اللّه كبير، ويؤيد هذا أن مقادير الثواب والعقاب مستندها أمر غيبي عند اللّه تعالى فلا يؤمن أن يعتقد في بعض المعاصي الصغر وهو كبير عندالله تعالى.
التأويل الثاني: أن يقال: إن هذه المعصية صغيرة على ظاهرها، لكنه إنما عذب عليها لما لم يكن لصاحبها ثواب تكون مكفرة في جنبه، فلا جرم عوقب عليها؛ لأن المعاصي الصغائر مثل الكبائر في استحقاق العقوبة عليها، لكن دل الشرع على كونها مكفَّرة في جنب الثواب الذي يكثر عليها، فإذا فرض(1) من لا ثواب له يكفرها، استحق العقوبة عليها.
وتستجمر المرأة من دم الحيض؛ لأنه أدخل في التقذير من البول؛ ولأنه خارج من مخرج الحدث فأشبه البول، وأما دم الاستحاضة فلا فائدة في الاستجمار عنه لدوامه وتكرره.
وهل يُسْتَجْمَرُ من المني إذا خرج أم لا؟ فالذي يأتي على مذهب أئمة العترة أنه يستجمر منه لكونه نجساً كما قررناه من قبل فهو كالبول، فأما على رأي الشافعي فلا وجه للإستجمار منه؛ لكونه طاهراً حكاه ابن الصباغ في (الشامل)، ولا يستجمر من خروج الريح؛ لأنه لم يلحق المحل تلوث بالنجاسة لكونها طاهرة(2) فلا وجه للاستجمار منها.
__________
(1) بمعنى: إذا فعلها.
(2) الأقرب لكونها عديمة الأثر؛ لأن الطهارة والنجاسة لا يوصف بأيهما إلا ما كان محسوساً، بصرف النظر عن كونها ناقضة للوضوء عند أهل المذهب، فذلك ليس لنجاستها بل لخروجها من مخرج الحدث، ويؤكد هذا عدم وجوب الاستنجاء منها لدى كثير من الأئمة وجمهور الفقهاء.

وإن انفتحت نُقبة(1) من تحت السرة وانسد المسلك المعتاد فهل يتوجه الاستجمار أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه غير مشروع فيما هذا حاله؛ لأنها نجاسة خارجة من غير المعتاد فلم يستجمر لأجلها، كما لو خرج الدم والقيء من مواضعهما.
وثانيهما: أنه يتوجه الاستجمار؛ لأنه موضع يخرج منه الغائط فأشبه الدبر، وهذا هو الأقرب لأن الغرض المقصود في توجه الاستجمار إنما كان من أجل النجاسة ولا عبرة بالمخرج، فلهذا توجه الاستجمار وإن لم يكن من مخرجه المعتاد.
الشرط الثاني: أن يكون الخارج ملوثاً بالنجاسة، فإن خرجت حصاة من الدبر أو دودة أو بعرة نظرت، فإن كانت عليها رطوبة استحب الاستجمار؛ لأنها نجاسة خارجة من الدبر فأشبهت الغائط، وإن لم يكن عليها رطوبة لم يستحب الاستجمار على رأي أئمة العترة، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه يجب من ذلك الاستجمار.
والحجة على ما قلناه: هو أنه لا بلل يصحبها فلم يستحب منه الاستجمار كالريح الخارجة، وهو الأصح من قولي الشافعي، ويستحب الاستجمار من المذي والودي والدم الخارج من الذكر؛ لأن هذه الأمور كلها نجاسة خارجة من الإحليل فأشبهت البول، وإن خرجت رائحة من الذكر فلا وجه لاستحباب الاستجمار منها؛ لأنها طاهرة فأشبهت الريح الخارجة من الدبر.
__________
(1) هي بضم النون، وهي الفتحة التي يحدثها البيطار تحت سرة الدابة. ا.هـ لسان.

66 / 279
ع
En
A+
A-