الأدب العشرون: ويستحب لمن أراد قضاء حاجته ومعه غيره أن ينحيه عنه، لما روي عن النبي ً أنه خرج يوماً لقضاء حاجة ومعه أنس بن مالك، فلما أراد الاشتغال بقضاء الحاجة قال: (( تنح عني يا أنس ))(1). ولأن ذلك(2) يناقض المروءة من جهة أنه لا يأمن عند قضاء الحاجة من صوت يُسمع منه، وليس من المروءة سماع الغير له واطلاعه عليه. فهذه الآداب كلها متعلقة بحال الاشتغال بقضاء الحاجة. والله أعلم بالصواب.
__________
(1) يؤيده ما روي عن جابر أن النبي ً كان إذا أراد البراز انطلق حتى لا يراه أحد. أخرجه أبو داود. وعن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع رسول اللّه ً في سفر، فأتى حاجته فأبعد في المذهب. قال في الجواهر: هذه رواية الترمذي، ولأبي داود والنسائي نحوه. ا.هـ.
(2) يعني قضاء الحاجة وبجانبه غيره.

---
القسم الثالث: في بيان ما يتعلق بالآداب بعد الفراغ منها
وجملة ما نذكره من ذلك آداب ستة:
الأدب الأول: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته [أن] يقول: الحمد لله الذي أذهب عني ما يضرني وأبقى لي ما ينفعني.
الأدب الثاني: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته في العمران، أن يقدم رجله اليمنى عند الخروج من الخلاء؛ لأن الخروج من الحشوش المحتضرة بالشياطين فضيلة، فلهذا كانت اليمين مقدمة فيها على اليسار بخلاف الدخول فقد قدمنا أنه على العكس من ذلك.
الأدب الثالث: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته أن يقول: غفرانك. لما روت عائشة رضي اللّه عنها قالت: كان رسول اللّه ً إذا فرغ من قضاء حاجته يقول: (( غفرانك))(1).
ووجه التخصيص في طلب المغفرة عقيب الخروج من قضاء الحاجة: إما لأنه لا يأمن التفريط في كشف العورة في الزيادة على مقدار ما تدعو إليه الضرورة، وكشفها لا محالة معصية، وإما من جهة أن هذه الحشوش محتضرة وهي أمكنة الشياطين فلا يمتنع أن يكون قد زاد في الوقوف فيها على مقدار الحاجة، فيكون ذلك وقوفاً في أمكنة الشياطين لغير حاجة، فيكون محتاجاً إلى مغفرة تلك الخطيئة، فهذا هو الوجه في اختصاص الدعاء بالمغفرة عند الخروج من الخلاء.
الأدب الرابع: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته أن لا يلين معاطفه للنهوض إلا بعد تستره وتلفعه بأثوابه، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( احفظ عورتك إلا عن زوجتك أو ما ملكتَ))(2). والكشف للعورة يعرض كثيراً عند قضاء الحاجة؛ فلهذا كان الاستحباب فيه أكثر من غيره لما ذكرناه.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده، قال: قلت يا رسول اللّه، عوراتنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: ((احفظ عورتك...)) الحديث. أورده في الاعتصام ج4/426.

الأدب الخامس: يستحب لمن فرغ من قضاء الحاجة أن يستجمر بثلاثة أحجار، لما روته عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه ً: (( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بها فإنها تجزئ))(1). وسنقرره في باب الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى.
الأدب السادس: يستحب لمن فرغ من قضاء حاجته أن يستنجي بالماء، لما روى أنس بن مالك (( أن رسول اللّه ً دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضاة، وهو أصغر إناء، فوضعها عند السدرة فقضى حاجته فخرج إلينا وقد استنجى بالماء))، ولا يجب ذلك لغير الصلاة. فأما وجوبه للصلاة فسنفرد فيه كلاماً يخصه عند الكلام في الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى، فهذا ما أردنا ذكره في بيان الآداب المتعلقة بقضاء الحاجة، ونندفع الآن في كيفية الاستجمار وذكر خصائصه، والله الموفق.
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي، وفي روايتهما: ((.. يستطيب بهن فإنها تجزيه)).

---
الباب الرابع: في بيان حكم الاستجمار(1)
اعلم أن الاستجمار خاص في التطهير بالأحجار، والاستنجاء عام فيهما جميعاً، أعني: الاستجمار بالأحجار والاستنجاء بالماء. والاستجمار هو الاستجمار بالأحجار، واشتقاقه من أحد وجهين:
أحدهما: أن يقال: الجمرة هي الحصاة الصغيرة، وعلى هذا يكون الاستجمار استفعال من الجمرة، وهي استعمال الأحجار في تنقية النجاسة.
وثانيهما: أن يكون اشتقاقه من قولهم: جمرت النخلة إذا قطعت جمارها، فلما كان الاستجمار بالأحجار يقطع أثر النجاسة ويزيلها سمي استجماراً أخذاً له من ذلك، وكلا الوجهين لا غبار عليه، خلا أن الوجه الأول أقرب لمطابقته في لفظه، ومنه رمي الجمار أي رمي الأحجار الصغار من يدك إلى الجهة المعلومة. والاستجمار بالأحجار بعد الفراغ من قضاء الحاجة مستحب عند أئمة العترة، وفقهاء الأمة: أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، ولا يعرف خلاف في استحبابه.
والحجة على ذلك: ما روى خزيمة بن ثابت (2)
__________
(1) هذا الباب كما يلاحظه المطَّلع أقرب إلى أن يكون فصلاً من باب قضاء الحاجة السابق له، لأنه احتوى مسألتين فقط، ولم يتضمن أي فصل، ولأنه قبل كل هذا داخل في الموضوع العام لسابقه. إلا إذا أخذنا في الاعتبار أن الاستجمار باب مستقل بذاته؛ لأن بعض المؤلفين في الفقه والحديث صنفوه باباً مستقلاً.
(2) أبو عمارة خزيمة بن ثابت بن الفاكه الأنصاري الخطمي، صحابي جليل، قيل: إنه لم يشهد بدراً وشهد أحداً وما بعدها من المشاهد. كان صاحب راية خطمة يوم الفتح، وكان مع علي عليه السلام يوم الجمل، ويقال: إنه كف سلاحه وما زال كذلك يوم صفين حتى قُتِل عمار رضي اللّه عنه فسل سيفه وقاتل حتى استشهد. (وكان قد شهد لرسول اللّه ً على أعرابي في قيمة بعير. فلما سأله الرسول ً كيف شهد وهو لا يعلم؟ قال: قد صدقناك يا رسول اللّه في أخبار السماء أفلا أصدقك في ثمن بعير! فقال رسول اللّه ً: (( من شهد له خزيمة فهو حسبه )).
فأصبحت شهادته بشهادتين وعرف بعد ذلك بذي الشهادتين). (در السحابة 657).

قال: سئل رسول اللّه ً عن الاستطابة فقال: (( بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ))(1). وفي حديث آخر: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن ))(2). وهذان الخبران دالان على كونه ندباً، وروت عائشة رضي اللّه عنها عن الرسول ً أنه قال: (( إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطب بهن )).
وعن ابن عباس رضي اللّه عنه أنه قال: قال رسول اللّه ً: (( إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب)))) .
وتقرير الدلالة من هذه الأحاديث على الاستحباب من وجهين:
أحدهما: أن يقال: إن ظاهر الأمر وإن كان للوجوب لكن الإجماع منعقد على كونه مستحباً، فيجب حمله على الاستحباب لأجل هذه القرينة، وهذا هو الذي نصرناه في الكتب الأصولية بالأدلة، وقررنا قاعدة فهم الوجوب من ظاهره.
وثانيهما: أنا نقول: الأمر حقيقته الطلب لا غير، وهو نص فيه، فأما كون ذلك الطلب مانعاً من النقيض فيكون واجباً، أو غير مانع عن النقيض فيكون مندوباً، فإنما يُعلم بدلالة منفصلة غير ظاهرة، وإذا كان الأمر فيه كما قلناه، فظاهر هذه الأخبار الأمر، فيجب أن يكون مطلوباً وأدنى درجات الطلب هو الندب، فمن أجل ذلك قضينا بكونه مندوباً، فالحق أن مطلق الأمر نص في الطلب لا محالة، فأما كون ذلك المطلوب مندوباً أو واجباً فيحتاج إلى دلالة منفصلة لما يعرض من دلالته على الندب أو على الوجوب من الاحتمال(3)، فأما كونه للطلب فلا يعرض فيه شيء من الاحتمال.
__________
(1) جاء في الحديث المشهور عن سلمان أن رسول اللّه ً نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم. أخرجه أبو داود والترمذي. وهو مروي بعدة ألفاظ ومن عدة طرق.
(2) أورده في البحر والجواهر وحكاه في أصول الأحكام والشفاء.
(3) لعل صواب العبارة أن يقال: لما يعرض من احتمال في دلالته على الندب أو الوجوب.

مسألة: وهل يكون الاستجمار بالأحجار واجباً أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه ليس واجباً، وهذا هو قول أئمة العترة لا يختلفون فيه وهو رأي أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: ما قررناه من قبل من الأخبار فإنها دالة على الندب، إما بطريق الإرشاد كقوله: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن)).
وإما بطريق الأمر كما رويناه عن عائشة وابن عباس، والإجماع منعقد على استحبابه، فلهذا وجب حمل الأمر عليه إذ لا دلالة على حمله على الوجوب. ولا يكفي ظاهر الأمر في وجوبه فإن الأمر إنما يدل بظاهره على مطلق الطلب لا غير وهو ساكت عن الوجوب والندب إلا بدلالة خارجة عن ظاهره.
والحجة الثانية: قياسية، وهو أنها نجاسة فلم تجب إزالتها بالأحجار، أو نجاسة فعفي عنها لعدم الإيجاب كالدم اليسير.
المذهب الثاني: أن إزالتها واجب(1) بالأحجار، وهذا هو مذهب الشافعي.
والحجة على ذلك: ظواهر تلك الأخبار التي رويناها فإنها موجهة بصيغة الأمر، والأمر للوجوب بظاهره ومن ادعى خلاف ظاهره أقام دلالة على ذلك.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من عدم الوجوب فيه لما قالوه، ونزيد هاهنا وهو أنا لو قدرنا وجوبه كما زعموه لم يكن إلا من أجل الصلاة، وكون العبد مأخوذاً بالتطهر لأدائها، والماء كاف عندنا في وجوب الإزالة، فلا حاجة إلى إيجاب إزالته بالأحجار كما ظنوه، وسنقرر وجوب الإزالة بالماء عند الكلام في إيجاب الاستنجاء بمعونة اللّه تعالى.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في وجوبه.
قالوا: ظواهر الأوامر التي وردت في الاستجمار دالة على الوجوب فيجب القضاء بظواهرها من غير حاجة إلى تأويلها.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن ظاهر الأمر للوجوب وإنما ظاهره اقتضاء الطلب من غير تعرض لوجوب ولا ندب، وإنما يُعلمان من دلالة منفصلة على مطلقِهِ.
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل المؤلف اعتبر كلمة (واجب) صفة لخبر محذوف تقديره (أمر واجب).

وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا أن ظاهره دال على الوجوب لكنا نخصه بدلالة القياس، وهو أن المقصود هو رفع النجاسة للصلاة، والماء هاهنا كاف عن الأحجار فلا حاجة بنا إلى إيجابها، فبطل ما توهموه.
قالوا: نجاسة لا تلحق المشقة بإزالتها فتجب إزالتها كما لو كانت متفاحشة في الكثرة والتقذير.
قلنا: إن هذه لها مزيل وهو الماء عندنا فلا تجب إزالتها بالإحجار، وما ذكروه إنما يكون وجهاً في الوجوب إذا كان على رأيهم في عدم وجوب الاستنجاء بالماء وسنقرر وجوبه.
التفريع على هذه المسألة:
الفرع الأول منها: لا يجوز الاستجمار بعظم ولا روث عند أئمة العترة، وهو قول الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن النبي ً، (( أنه نهى عن الاستجمار بالروث والرِّمة ))(1)، وفي حديث جابر: (( نهى النبي ً أن يُستنجى بعظم أو بعر )).
وحكي عن أبي حنيفة أنه جوز ذلك خلا أنه قال: إنه يكره.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من ذلك التخفيف، وذلك يحصل بالعظم والروث.
__________
(1) الرِّمَّة بكسر الراء: العظام البالية، وبضمها: ما بقي من قِطَعِ الحبل. والمقصود هنا الأول. ا.هـ لسان (ملخصاً).

والمختار: ما عول عليه علماء العترة من حظره ويدل عليه ما قالوه، ونزيد ههنا، وهو ما رواه عبدالله بن مسعود قال: قدم وفد من الجن على رسول اللّه ً فقالوا: يا محمد انْهَ أُمتك أن يستنجوا بعظم أو روث أو حممة فإن اللّه جعل لنا فيها رزقاً، فنهى عنه الرسول ً. وقوله عليه السلام حين ألقى الروثة: (( إنها ركس ))(1)، وفي حديث آخر أنه قال: (( إنها رجس )) وفيه دلالة على أن كل ما كان نجساً فلا يجوز الاستنجاء به، وروي عنه عليه السلام أنه نهى عن الاستجمار بالعظام وقال: (( إن فيه طعاماً لإخوانكم من الجن ))(2)، ومن جهة أن الروثة نجس فلا تزال به النجاسة كالماء النجس، ومن جهة أن العظم من جنس ما يتطعم به فلا يجوز الاستجمار به كاللحم، وفي حديث أبي هريرة أنه قال: (( نهانا رسول اللّه ً أن نستنجي برجيع أو عظم ))(3)، وفي حديث سلمان: أنه نهى عن الاستجمار بالروث والرِّمة(4). فهذه الأخبار كلها دالة على المنع من الاستجمار بالروث والعظم، وما كان ممنوعاً منه فلا وجه لجوازه.
__________
(1) تقدم في النجاسات. والركس: رجيع الدواب أو شبيه بالرجيع وهو الروث، ومنه رَكَسْتُهُ بمعنى: رَدَدْتُهُ.ا.هـ لسان (ملخصاً).
(2) عن ابن مسعود قال: قال رسول اللّه ً: ((لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن))
قال في الجواهر: هذه رواية الترمذي. وفي رواية للنسائي: ((إن رسول اللّه ً نهى أن يستطيب أحدكم بعظم أو روثة)).
(3) عن أبي هريرة قال: اتبعت النبي ً وقد خرج لحاجته فكان لا يلتفت، فدنوت منه فقال: ((ابغني أحجاراً أستنفض بها ولا تأتني بعظم ولا روثة)).
(4) ولفظ الحديث: عن سلمان قيل له: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل..لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم.

الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم في ذلك.
قالوا: المقصود من الاستجمار هو تخفيف النجاسة عن القبل والدبر، وهو حاصل بالعظم والروث، فيجب القضاء بجوازه مطلقاً.
قلنا: هذا فاسد لأمرين:
أما أولاً: فلأن ما ذكروه إنما كان صحيحاً لو لم يرد الشرع بالمنع منه، فأما مع كون الشرع قد منع منه بما ذكرناه من هذه الأخبار، فلا وجه لما قالوه من أن المقصود منه التخفيف.
وأما ثانياً: فلأن ما قالوه يبطل بالماء النجس فإنه يحصل منه(1) التخفيف من النجاسة، ولم يجز استعماله بحال.
قالوا: النهي عنه إنما كان من أجل حق الغير وهو أنه زاد للجن، وما هذا حاله فإنه يجوز استعماله كالماء المغصوب فإنه يجوز التوضؤ به لما كان متعلقاً بحق الغير.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم صحة الوضوء بالماء المغصوب، وقد قدمنا المسألة وذكرنا ما فيها فأغنى عن الإعادة.
وأما ثانياً: فلأنه لم ينه عنه لأجل تعلق حق الغير به، وإنما نهي عنه لعينه وهو أنه طعام، والماء المغصوب نهي عنه لحق الغير فافترقا، فبطل الاستجمار بالعظم من جهة كونه طعاماً، ولهذا فإنه لا يجوز الاستجمار به للمالك له، ويبطل الاستجمار بالروث لما كان نجساً فأشبه الماء النجس.
الفرع الثاني: هل يعتبر العدد فيما يستجمر به أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه غير معتبر، وعلى هذا يجوز بالحجر الواحد والحجرين ولا يجب ذلك، وهذا هو الظاهر من مذهب القاسم والهادي فإنهما لم يذكرا في ذلك عدداً منحصراً، وهو محكي عن أبي حنيفة ومالك.
والحجة على ذلك : ما رواه أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال : (( من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ))(2).
فأطلق الوتر ولم يقيده بالثلاث، وفي ظاهره دلالة على جواز الاستجمار بالحجر الواحد لكونها وتراً.
__________
(1) في الأصل: فإنه يحصل من التجفيف في النجاسة.
(2) أخرجه أبو داود، وأورده في البحر.

الحجة الثانية: من جهة القياس، وهو أنه إزالة النجاسة عن السبيلين فلا يُشترط فيه عدد كالماء.
المذهب الثاني: أنه لا بد من رعاية العدد وهو الثلاثة، وهذا هو الذي حصله السيد أبو العباس من مذهب الهادي حيث قال: الاستجمار بالأحجار يستحب، وقال: ثم يمسح بأحجار، والأحجار جمع، وأقل الجمع ثلاثة، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رواه سلمان الفارسي عن رسول اللّه ً أنه قال: (( ثلاثة أحجار ينقين المؤمن)). وحديث خزيمة بن ثابت عن رسول اللّه ً قال: سئل رسول اللّه ً عن الاستطابة فقال: (( بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع)). وإلى اعتبار العدد في الاستجمار يشير كلام الناصر.
والمختار: ما قاله السيدان الأخوان من عدم اعتبار العدد في الاستجمار لما قالوه، ونزيد ههنا، وهو خبر عبدالله بن مسعود ليلة الجن، أنه جاءهُ بحجرين وروثة فألقى الروثة وقال ً: (( إنها ركس)). واقتصر على حجرين، فدل ذلك على عدم اعتبار العدد. ومن جهة القياس، وهو أن المقصود بالاستجمار إنما هو تنقية النجاسة فوجب أن لا يُعتبر فيه العدد كالماء.
الانتصار: يكون باعتراض ما أوردوه من ذلك.
قالوا: الأخبار التي رويناها فيها دلالة على اعتبار العدد.
قلنا: عما ذكروه جوابان:
أما أولاً: فلأنا لا نسلم أن لهذه الأحاديث التي رووها في اعتبار العدد ظاهراً معتمداً عليه في اختيار العدد، من جهة أن هذه الأخبار ظاهرها دال على استعمال الأحجار الثلاثة في السبيلين جميعاً وهم لا يقولون بذلك، وإنما يستعمل لكل واحد منهما ثلاثة أحجار على الوجوب، ومن جهة أنهم قد قالوا: بجواز الاستجمار بالحجر الواحد له ثلاثة أحرف وليس في ظواهر الأخبار ما يُشعر به، فبطل تعلقهم بظواهر هذه الأحاديث فيما زعموه من اعتبار العدد.

65 / 279
ع
En
A+
A-