الجواب الأول: أنا لا نسلم تعارض هذه الأدلة بل يمكن الجمع بينها، فهذه الطريقة هي التي ارتضاها الإمام المؤيد بالله، واستقواها الشيخ أبو الطيب الطبري ) من أصحاب الشافعي، ولم يناكر في قبولها إلا أبو إسحاق الشيرازي صاحب (المهذب)، فإنه زعم أن القياسين إذا تعارضا فلا خلاف بين الأصوليين أنه لا يجوز الجمع بينهما، فهكذا يكون حال الخبرين إذا كانا متعارضين فإنه لا يجوز الجمع بينهما بطريقة واحدة، وهذا فاسد، فإن التفرقة بينهما ظاهرة فإن كل واحد من القياسين له أصل على انفراده، والمعاني ليس لها جامع يجمعها، فلهذا بطل الجمع بينهما، ووجب فيهما الترجيح عند تعارضهما لا غير، بخلاف الأخبار فإنها ألفاظ يمكن دخول العموم والخصوص فيها، وإذا كان الأمر كما قلناه لم يمكن الجمع بينهما إذا كان أحدهما عاماً، والآخر خاصاً فافترقا.
والحجة على ذلك: هو أن كل واحد من الخبرين دليل على حياله، مستقل بنفسه، فإذا تعارضا وكان هناك طريقة تجمع بينهما وجب العمل عليها بواسطة تلك الطريقة. فأما القياسان فلا خلاف بين الأصوليين أنه لا يجوز الجمع بينهما، بل يكونان متعارضين و[لا] العمل فيهما إلا بالتساقط والرجوع إلى دلالة أخرى، أو ترجيح أحدهما على الآخر بطريقة مقوية لأحدهما.
وطريقة الجمع بين الخبرين، أما على رأي أئمة العترة: فهو أن تُحمل أخبار النهي على الكراهة، ويُحمل ما خالفها على الجواز فيجتمعان من هذه الجهة.
__________
(1) القاضي الإمام أبو الطيب طاهر بن عبدالله بن طاهر الطبري، تعمر مائة وسنتين، ونقل عن معاصريه أنه في هذا السن لم يختل شيء من فهمه، وظل يفتي ويشير إلى مواقع الصواب والخطأ ويقضي إلى أن مات. تفقه بآمل بجرجان ثم ارتحل إلى نيسابور فأخذ الفقه والحديث عن كثير من علمائها. قال عنه الشيرازي في طبقاته: ولم أر فيما رأيت أكمل اجتهاداً وأشد تحقيقاً وأجود نظراً منه. (طبقات الفقهاء، طبقات الشافعية).

وأما على رأي الشافعي: فهو أن تحمل أخبار المنع على الصحاري، وأخبار الإباحة على العمران، فيجتمعان من هذه الجهة.
وأما على رأي أبي حنيفة في الرواية المشهورة عنه: فهو أن يُحمل النهي على الاستقبال فيهما جميعاً، أعني العمران والصحاري، وتحمل الإباحة على الاستدبار فيهما جميعاً، فتكون الأخبار مجتمعة بالإضافة إلى ما ذكرناه من غير حاجة إلى القضاء بالتعارض فيها.
الجواب الثاني: أنها متعارضة ولكنا نرجح الأخبار الدالة على المنع من جهة الاحتياط الذي هو أصل في الدين، وقد قال ً: (( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك )). وقوله: (( المؤمنون وقَّافُون عند الشبهات )).
المسألة الثانية: إذا تقرر أن الأخبار دالة على المنع كما لخصناه، فهل يكون المنع حظراً أو كراهة؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن المنع في الاستقبال والاستدبار حاصل على جهة الكراهة، وهذا هو الذي صرح به الإمام القاسم، وأشار إليه الإمام الهادي في (الأحكام) بالكراهة دون التحريم، وهو الذي حصله الإمامان الأخوان: المؤيد بالله وأبو طالب للمذهب، وهو رأي الإمام الناصر، ومحكي عن أبي أيوب من الصحابة، ومن التابعين عن إبراهيم النخعي، ورواية لأبي حنيفة وأبي ثور وأحمد بن حنبل.
والحجة على ذلك: هو أن المعتمد في المنع ليس إلا النهي، وأدنى درجات النهي هو الكراهة، فأما الحظر فإنما يُعلم بدليل منفصل، فلا جرم أخذنا من مطلق المنع الكراهة دون التحريم.

المذهب الثاني: أن المنع على جهة الحظر في الفضاء في الاستقبال والاستدبار، وأن الإباحة في العمران جارية فيهما جميعاً، فإن فعل ذلك في الصحراء كان آثماً إذا كان ذاكراً للتحريم، وهذا الذي يشير إليه كلام الهادي في (المنتخب)(1) أعني أنهما محظوران في الفضاء والعمران، والحظر في الفضاء هو المحكي عن الشافعي، ومروي عن العباس بن عبدالمطلب، وابنه عبدالله بن العباس، وابن عمر من الصحابة (رضي اللّه عنهم) وبه قال مالك، وإسحاق بن راهويه.
والحجة على جواز ذلك في العمران: ما روته عائشة، قالت: ذُكِرَ لرسول اللّه ً أن الناس يكرهون استقبال القبلة بفروجهم، فقال: (( أو قد فعلوا! استقبلوا بمقعدتي هذه إلى القبلة )). وكان ذلك مخصوصاً بالعمران.
والحجة على حظره في الفضاء: ما رواه أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إنما أنا لكم كالوالد الشفيق فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة بغائط ولا بول)). فهذا نهي دال على المنع، ولا نعني بالحظر إلا أنه منهي عنه بكون النهي دالاً على الحظر.
والحجة لما قاله الهادي في (المنتخب) من كون الحظر عاماً في الاستقبال والاستدبار في العمران والصحاري وهو رأي المنصور بالله، هو خبر أبي هريرة فإنه لم يفصل في النهي بين العمران والصحارى، ولا بين الاستقبال والاستدبار، فيجب بقاؤه على ظاهره من غير تأويل هناك.
والمختار: ما عول عليه الأكثر من أئمة العترة من كون النهي حاصلاً على جهة الكراهة دون التحريم.
__________
(1) كتاب المنتخب في الفقه رواه محمد بن سليمان الكوفي، مطبوع عام 1993م في مجلد مع كتاب (الفنون) للهادي أيضاً.

والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر رضي اللّه عنه أنه قال: اطلعت يوماً على بيت حفصة ) فرأيت رسول اللّه ً قاعداً على لبنتين مستدبراً القبلة مستقبل الشام، فلولا أنه جائز وإلاَّ لما فعله.
لا يقال: فكيف جاز لابن عمر أن ينظر الرسول ً وهو على تلك الحالة، وهي لا تحل في حق الرسول ً لجلالة قدره وعِظَمِ محله عند اللّه تعالى؛ لأنا نقول: يحتمل ذلك وجوهاً ثلاثة:
أما أولاً: فلأن من كانت حاله مثل حال الرسول ً في تعليم الشرائع وتعريف الأحكام، فلابد من الاطلاع عليه في كل أحواله لِيُعرف منه ذلك.
وأما ثانياً: فلأنه لم يقصد النظر فيأثم بذلك، ولكنه فاجأه على تلك الحالة.
وأما ثالثاً: فلأنه لم ير له عورة، ولكنه نظر ظهره وأعالي بدنه فلا حرج عليه في رؤية ما هذا حاله.
والحجة لما ذكره الإمام المنصور بالله: ما رويناه من حديث أبي أيوب وهو قوله عليه السلام: (( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها)). وهذا عام في الاستقبال والاستدبار، وعام في العمران والصحاري، وهو ظاهر في النهي، وظاهر النهي للتحريم إلا لدلالة تدل على خلاف ذلك، كما أن ظاهر الأمر للوجوب إلا لدلالة على خلاف ذلك.
الانتصار: يكون بإبطال ما خالفه، فأما ما يحكى عن الإمامين: الهادي والمنصور بالله من أن الاستقبال والاستدبار على الحظر، ففيه نظر من وجهين:
__________
(1) حفصة بنت عمر بن الخطاب، أم المؤمنين. تزوجها النبي ً سنة ثلاث للهجرة بعد استشهاد زوجها خنيس بن حُذافة السَّهمي في أُحد، توفيت سنة 41هـ، وقيل: سنة 45هـ، عن 61 سنة، لها ستون حديثاً اتفق الشيخان على أربعة منها، وانفرد مسلم بستة.ا.هـ. ملخصاً من درر السحابة صفحة 610.

أما أولاً: فلأن مطلق النهي إنما يدل على الكراهة لا غير؛ لأن حقيقته المنع، وأدنى المنع إنما هو الكراهة لا غير؛ لأنه أقل مراتبه. فأما كون النهي دالاً على الحظر ومفيداً للإثم والحرج، فإنما يُعلم بدلالة منفصلة غير مطلقه، فأما مطلقه فإنما هو دال على المنع مطلقاً كما أشرنا إليه، ولا دلالة هاهنا من جهة الشرع تدل على الحظر وتأثيم الفاعل وحرجه عند اللّه تعالى، كما أشارا إليه.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: هل أُخذ الحظر من مطلق النهي أو من دلالة أخرى؟ فإن كان مأخوذاً من مطلق النهي فلا يشمله؛ لأن مطلقه للمنع لا للحظر فأحدهما مخالف للآخر في حكمه، وإن كان مأخوذاً من دلالة منفصلة فلا بد من إيرادها لننظر فيها هل تدل أم لا، وهما إنما اقتصرا على مطلق النهي من غير أمر وراءه، فلا يكون فيه حجة على أن ما ادعياه من الحظر معارض بما رواه ابن عمر من قعوده ً في بيت حفصة مستقبلاً القبلة، وبما رواه عروة بن الزبير، حيث قال ً : (( حولوا مقعدتي هذه إلى جهة القبلة )) فإذا كانا متعارضين فلابد من التساقط، أو ترجيح أحدهما على الآخر، فقد حصل غرضنا من أن مطلق النهي غير دال على الحظر بما ذكرناه.
فأما ما يحكى عن الشافعي حيث قال: بأنهما محظوران في الفضاء مباحان في العمران، فما أوردناه على الإمامين: الهادي والمنصور بالله في الحظر فهو وارد عليه.
وأما الكلام عليه(1) في التفرقة بين الأمر في الاستقبال والاستدبار حيث جعل أحدهما على الحظر والآخر على الإباحة فسيأتي تقريره في المسألة الثالثة بمعونة اللّه تعالى.
المسألة الثالثة: إذا تقرر كون النهي وارداً على جهة الكراهة بما لخصناه، فهل تكون الكراهة عامة فيهما أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الكراهة عامة في الاستقبال والاستدبار، وهذا هو رأي الأكثر من أئمة العترة كما قاله السيد الإمام أبو طالب.
__________
(1) أي: على أبي حنيفة؛ لأن هذا هو رأيه، والمشهور عنه كما سبق.

والحجة على ذلك: ما في حديث أبي هريرة من قوله عليه السلام: (( إنما أنا لكم كالوالد الشفيق فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه)). وما في حديث أبي أيوب الأنصاري من قوله عليه السلام: (( إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا ولا تستدبروا بغائط ولا بول ولكن شرقوا أو غربوا)). فهذان الخبران دالان على استوائهما في النهي كما ترى من ظاهر الحديث، فإنه لم يفصل في ذلك بين الاستقبال والاستدبار.
المذهب الثاني: أن الاستقبال غير مخالف للاستدبار وهذا هو رأي الشافعي فإنه قال: الاستقبال محظور في الفضاء وهكذا حال الاستدبار أيضاً، وهما مباحان في العمران، فخالف في حكمهما بالإضافة إلى الأمكنة كما ترى، فجعل الحظر متعلقاً بهما في الفضاء وجعل الإباحة متعلقة بهما في العمران.
والحجة على ذلك: التفرقة التي ذكرها بينهما.
أما حجته على الحظر في الفضاء فيهما جميعاً: فحديث أبي هريرة وقد رويناه من قبل، وهو قوله: (( لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها بغائط ولا بول )). فحمل هذا الحديث على الحظر في الفضاء.
وأما حجته على الإباحة في العمران فيهما جميعاً: فهو حديث عروة بن الزبير عن عائشة وحديث ابن عمر، حيث قال: (( حولوا مقعدتي إلى جهة القبلة )) لما قيل: إن قوماً يكرهون استقبال القبلة، فقال ذلك راداً عليهم مقالتهم، فخص هذه الإباحة بالعمران والأمكنة المحاط عليها بالأبنية كما ترى.

المذهب الثالث: أن الاستقبال منهي عنه على جهة العموم فيهما، وأن الاستدبار يباح على جهة العموم فيهما، وهذا هو رأي أبي حنيفة المشهور عنه، والتفرقة بين مذهب الشافعي وأبي حنيفة، هو أن الشافعي يجعل العموم فيهما بالإضافة إلى الأمكنة بين العمران والصحاري فيكون الحظر عاماً فيهما في الفضاء، والإباحة عامة فيهما في العمران، وأما أبو حنيفة فإنه يجعل العموم فيهما بالإضافة إلى الأحوال، فالاستقبال منهي عنه فيهما، والاستدبار مباح فيهما جميعاً.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة أن الكراهة عامة فيهما جميعاً في العمران والصحاري، وفي الاستقبال والاستدبار جميعاً من غير تفرقة بينهما بحالة ولا جهة كما قاله أبو حنيفة والشافعي (1).
والحجة على ذلك: ما قدمناه، وهو أن المعتمد في ذلك الخبران المرويان عن أبي هريرة وأبي أيوب الأنصاري في حكم الاستقبال للقبلة والاستدبار لها، والمعلوم من ظاهرهما أنهما لم يفصلا في ذلك بين جهة وجهة، ولا بين حالة وحالة، فيجب إجراؤهما على ظاهرهما من غير تأويل، فمن أراد تأويلاً أقام عليه حجة ودلالة غير معرضة للاحتمال والتأويل فالظاهر هو أدنى متمسك في حق المجتهد حتى يرد ما يغيره وينقله عن ذلك الظاهر لدلالة شرعية، والله أعلم بالصواب.
الانتصار لما ذكرناه في الاختيار إنما يكون بإبطال ما عداه.
قالت الشافعية: معتمدنا فيما ذكرناه من التفرقة بين العمران والصحاري إنما هو حديث أبي هريرة، وحديث عروة بن الزبير، وحديث ابن عمر، فإنها متعارضة ولا يمكن الجمع بينها إلا بما ذكرناه من التفرقة بين العمران والصحاري، فيكون الحظر متعلقاً بالفضاء فيهما جميعاً، وتكون الإباحة فيهما متعلقة بالعمرانات من غير حاجة إلى النسخ، من جهة أن النسخ يحتاج إلى التأريخ ولا دلالة على التاريخ(2).
قلنا: عما ذكروه جوابان:
__________
(1) يقصد: لا كما قاله أبو حنيفة والشافعي.
(2) لمعرفة السابق المنسوخ والمتأخر الناسخ.

أما أولاً: فلأن ظاهر النهي: المنع، وأدناه: الكراهة، فلم حملتموه على الحظر من غير دلالة في الفضاء فيهما جميعاً؟ وظاهره أيضاً دال على المنع من الإستدبار، فلم قلتم: إنه على الإباحة؟ فالنهي شامل لهما جميعاً.
قالوا: إنما حملنا الأحاديث على الحظر في الصحاري والإباحة في العمران جمعاً بين الأحاديث لئلا يؤدي إلى تناقضها، ولم نحملها على النسخ؛ لأنه لم يُعلم التاريخ بينها.
قلنا: الجمع بينها: بأن يُحمل النهي على الكراهة، والإباحة على الجواز، أولى من حملكم، من جهة أن دلالة النهي على الكراهة هو اليقين المتحقق في حقه دون الحظر كما مر بيانه، وحمل حديث عروة وابن عمر على الجواز أيضاً فيهما جميعاً من غير تخصيص.
وأما ثانياً: فلأن ما قلتموه تحكم لا مستند له، من جهة فرقكم في النهي بين الصحاري والعمران من غير دلالة ومن جهة إباحتهما في العمران، والنهي متناول لهما جميعاً. وما هذا حاله، تفرقة من غير دلالة فلا وجه لها، وكان الحق إبقاء النهي على عمومه فيهما جميعاً.
قالت الحنفية: إنما حملنا النهي على الاستقبال فيهما جميعاً؛ لأنه لم يفصل فيه بينهما حيث قال: (( لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول))، وحملنا الإباحة على الاستدبار فيهما جميعاً، من جهة أن الاستقبال مخالف للاستدبار، لما في الاستقبال من إسقاط الحرمة بالمقابلة بالفروج بخلاف الاستدبار فإنه لا مجاهرة فيه بهتك الحرمة وإسقاطها، فمن أجل ذلك حكمنا بالتفرقة بينهما.

قلنا: العموم بالنهي شامل لهما في ظاهر الأحاديث، فلا حاجة إلى التفرقة بينهما بما ذكروه من القياس؛ لأن هتك الحرمة حاصل بالاستدبار كحصوله بالاستقبال من غير تفرقة، ولأنه قعود فيه إفضاء بالفرج نحو القبلة من غير عذر، فوجب أن لا يكون مباحاً كالاستقبال. فحصل من مجموع ما ذكرناه حمل النهي على الكراهة فيهما جميعاً من غير تفرقة، من جهة أن الكراهة هي الأصل خلافاً لما قاله الشافعي، وأن النهي شامل للاستقبال والاستدبار بعمومه، خلافاً لما قاله أبو حنيفة، وأنا أجرينا الأدلة الشرعية على ظاهرها من غير تحكم بتخصيص من غير دلالة، فلهذا كان ما قلناه أرجح على(1) غيره.
قال الإمام القاسم بن إبراهيم: والفضاء أشد كراهة، وإنما كان أدخل في الكراهة لأوجه خمسة:
أما أولاً: فلأن الفضاء أعظم تكشفاً وأظهر في إفضاء الفروج إلى القبلة من العمران، لما يحصل في العمرانات من الستر بالجدرات بخلاف الفضاء.
وأما ثانياً: فلأن الفضاء كله يجوز أن يكون موضعاً للصلاة والعبادة، وليس كذلك حال هذه الكُنُف(2)، فإنها قد صارت مواضع لقضاء الحاجة من البول والغائط، فلهذا عظمت الكراهة فيها.
وأما ثالثاً: فلأن هذه الفضاءات ليست مخصوصة بكونها مقاعد للشياطين، بخلاف هذه الكنف فإنها صارت مقاعد للشياطين، ولهذا قال عليه السلام: (( إن هذه الحشوش محتضرة)). يعني أنها تحضرها الشياطين وتسكنها، وأكثر ما تكون واقفة فيها، فلهذا كانت أدخل في الكراهة من أجل ذلك.
__________
(1) لعل الصواب: أرجح من غيره. حيث تأتي (من) بعد صيغة (أفعل) للتفضيل.
(2) مفردها: كنيف، وهو المتخذ لقضاء الحاجة في العمران.

وأما رابعاً: فإن الفضاء أوضع، فالانحراف فيه عن القبلة أيسر على صاحبه وأسهل بخلاف هذه الكنُفُ فإن الانحراف فيها يكون فيه صعوبة لمّ‍ا كان محاطاً عليها بالأبنية وربما تعذر في بعض الحالات الانفتال عن جهة القبلة، لما كان مبنياً مستقراً لا يمكن الانحراف عن القبلة إلا بهدمه وخرابه، فلهذا فارق العمران بما ذكرناه.
وأما خامساً: فلأن الفضاء أشد اختصاصاً بالنهي؛ لأن العرب لم يكونوا يتخذون هذه الكُنُف، وإنما حدثت في الأمصار والأقاليم والمدن، فكان الخطاب من جهة الرسول ً مختصاً بها؛ لأنها هي المألوفة المتعارف عليها، فلا جرم كان الفضاء أشد كراهة لاختصاصه بالنهي لهذه الأوجه التي يحتملها كلام القاسم كما أوضحناه.
المسألة الرابعة: إذا ثبت كون الكراهة عامة في الاستقبال والاستدبار كما قررناه، فهل يكون ذلك خاصاً في الكعبة، أو يكون عاماً فيها وفي بيت المقدس؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول منهما: أن النهي عام على جهة الكراهة في القبلتين جميعاً استقبالاً واستدباراً كما مر تقريره في حق الكعبة، وهذا هو الظاهر من مذهب أئمة العترة، وقد صرح به الإمام المنصور بالله، وهو رأي أبي حامد الغزالي من أصحاب الشافعي.
والحجة على ذلك: ما روى معقل بن أبي معقل الأسدي، عن رسول اللّه ً (( أنه نهى عن استقبال القبلتين بغائط أو بول )).
المذهب الثاني: أن ما ذكرناه من كراهة الاستقبال والاستدبار إنما هو خاص في الكعبة دون غيرها، وهذا هو الذي ذكره بعض أصحاب الشافعي كأبي نصر بن الصباغ صاحب (الشامل) والعمراني صاحب (البيان).
والحجة على ذلك: هو أن معظم الأحاديث إنما هي واردة في شأن القبلة، ولا شك أن القبلة المعهودة إنما هي الكعبة؛ لأنه السابق إلى الأفهام عند إطلاقه فيجب أن يكون محمولاً عليه، وتأولوا حديث معقل بن أبي معقل على أحد وجهين، ووجهوا له تأويلين:

63 / 279
ع
En
A+
A-