والحجة عليه: ما تقدم ونزيد ههنا قوله ً: (( أمطه عنه بإذخرة ))(1)، وقد سأله عن أثر من النجاسة. وقوله عليه السلام لمن سألته عن دم الحيض: (( حكيه بضلع ))(2).
ووجه الاحتجاج بما ذكرناه: هو أنه ً لم يقتصر على الماء بل أشار إلى غيره، وفي هذا دلالة على ما قلناه من استعمال غير الماء مع الماء.
الانتصار: قالوا: حديث خولة بنت يسار فيه دلالة على عدم الاستعمال.
قلنا: قد وردت أحاديث دالة على استعمال غير الماء، ووردت أحاديث دالة على عدم الاستعمال، فوجب الترجيح عند التعارض إذ لا وجه لإسقاطها مع إمكان الترجيح، ولا شك أن الأخبار الدالة على استعمال غير الماء راجحة لوجهين:
أما أولاً: فلأنها مشتملة على زيادة، والزيادة من جهة العدل مقبولة لكونها مفيدة شرعاً.
وأما ثانياً: فلأنها آكد في الدلالة على المقصود من الطهارة، من جهة أن المقصود منها حصول المصلي على أحسن هيئة وأنقى ثوب، واستعمال الأمور المزيلة للآثار فيه تأكيد لهذا المقصود الشرعي والغرض الديني، فيجب فعله لما ذكرناه.
فإن غسلت النجاسة من غير استعمال [الماء] في قلع أثرها وبقي لونها لم يحكم بطهارتها، وهو المحكي عن الشافعي وأصحابه، لأن بقاء اللون دال على بقاء عين الخمر، و إن ذهب لونها وبقي ريحها لم يحكم أيضاً بطهارته، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه يحكم بطهارته.
__________
(1) عزاه في (جواهر الأخبار) إلى (الانتصار). ثم أورد ما جاء في (التلخيص) بسنده عن ابن عباس قال: سئل النبي ً عن المني يصيب الثوب. قال: ((إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق)). وقال: ((إنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو إذخرة)). وقد روي الحديث عن ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً. ا.هـ.
(2) رواه في مسند الشافعي ج1/155، وأبو داود (393)، وفي مسند أحمد ج6/355 وغيرهم كالبيهقي وابن أبي شيبة وفتح الباري ج1/334 بلفظ: ((حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر)). وفي رواية أحمد: ((حكيه ولو بضلع)).

والحجة على ما قلناه: هو أن الرائحة كاللون، فإذا بقي ريحها فأجزاؤها باقية كما في اللون من غير تفرقة بينهما.
وإن استعمل الصابون في قلعه فلم يزل عُفي عنه لما في حديث خولة: (( ولا يضرك بعد ذلك أثره )). ولأنه هو الغاية، وبعد الاستعمال فلا حكم له، ولأَنَّا لو أوجبنا زواله بعد ذلك لم يكن إلا بالقطع، ولم يرد الشرع بالقطع للثياب لبقاء الآثار فيها. وحُكي عن ابن عمر أنه كان يستدعي بالجلم فيقطعه.
وإن غسل دم الحيض فزال بالماء لم يجب استعمال غيره عند أئمة العترة وأكثر فقهاء الأمة. وحُكي عن داود وطبقته: أنه لا يجزيه ولا يحكم بطهارته إلا باستعمال الحت والقرص، وهذا منهم تعويل على الظواهر من الأحاديث، وهو فاسد؛ فإن التعويل على المعاني أحق، وذلك لأن المقصود هو إزالة النجاسة وقلعها، فإذا حصل ذلك بالماء فلا حاجة إلى غيره، وإن بقي أثر الحيض بعد استعمال ما ذكرناه فالمستحب أن يغير لونه، لما روي أن معاذة العدوية ) سألت عائشة عن دم الحيض يبقى في الثوب، فقالت لها: (( اغسليه بالماء فإن لم يذهب فغيريه بالصفرة، فلقد كنت أحيض عند رسول اللّه ً ثلاث حيض فيبقى لونه فنلطخه بالحناء)).
__________
(1) أم الصهباء معاذة بنت عبدالله العدوية، امرأة صلة بن أشيم. روت عن علي عليه السلام وعائشة وغيرهما، وثَّقها ابن معين، وابن حبان في (الثقات)، وهي موصوفة بالعبادة. وقال ابن الجوزي: توفيت سنة83هـ. (تهذيب التهذيب ج12/479).

وإن غمس الثوب في إجانة أو طشت فيه ماء وفيه نجاسة، نظرت فإن غيرت النجاسة الماء كان ذلك الماء نجساً لتغيره بالنجاسة، وإن لم تغيره النجاسة نظرت فإن كان قليلاً إما بأن يكون دون القلتين على قول من يعتبرهما، وإما أن يكون يغلب على الظن استعمال النجاسة به على قول من يعتبره في كونه قليلاً كما مضى شرحه، فإنه يكون نجساً وإن لم يتغير ولا يطهر الثوب به، وأما على رأي الإمام القاسم والمختار الذي اخترناه، فإنه إذا كان غير متغير بالنجاسة فإنه يكون طاهراً، ويطهر الثوب.
وإن كان هناك ثوب نجس كله فغسل الغاسل نصفه، ثم عاد إلى ما بقي بعد ذلك فغسله، طهر الثوب عند أئمة العترة، وهو قول الأكثر من أصحاب الشافعي، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أنه لا يطهر.
والحجة على ما قلناه: هو أن الطهارة قد صارت مستولية على جميع أجزاء الثوب، فلهذا كان طاهراً كله.
مسألة: إذا ولغ الكلب في الإناء وجب غسله من ولوغه فيه، والولوغ يكون بلسانه، والكروع أبلغ منه، ويكون بإدخال خرطومه في الماء، وإنما يجب غسله لكونه نجساً، وهل يُعتبر فيه العدد أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه لا يعتبر العدد فيه سبعاً، وهذا هو رأي أئمة العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة عن الرسول ً أنه قال في الكلب يلغ في الإناء ( (يُغسل ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً )).
ووجه الاستدلال بالخبر: هو أنه عليه السلام خير في الغسل بين الثلاث والخمس والسبع، وفي هذا دلالة على أن السبع غير واجبة؛ لأنها لو كانت واجبة حتماً لم يكن هناك وجه للتخيير.
المذهب الثاني: أن العدد فيه يجب اعتباره وهو السبع، وهذا هو رأي الشافعي وأصحابه.
والحجة على ذلك: قوله عليه السلام: (( طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يُغسل سبعاً إحداهن بالتراب)).

ووجه الاستدلال بذلك: هو أن ظاهر الخبر دال على أن التطهير يتعلق بالسبع، فلا يجوز تعليقه بما دونه؛ لأن في ذلك مخالفة لظاهره من غير حاجة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة لما ذكروه من الحجة، ونزيد هاهنا حجة قياسية، وحاصلها: هو أنها نجاسة فلا تستحق الغسل سبعاً كسائر النجاسات، ولأنها طهارة فلا يكون العدد فيها واجباً كسائر طهارة الحدث، ولأنه حيوان سؤره نَجِسٌ فلا يشترط في التطهير منه عدد مخصوص كالكافر على رأي من يقول بنجاسة سؤرهما وإن لم يتغير به الماء كما مر تقريره.
الانتصار: يكون بإبطال ما قالوه.
قالوا: حديث أبي هريرة دال بصريحه ونصه على اعتبار الغسلات السبع فلا حاجة إلى تأويله.
قلنا: الكلام على ما أوردتموه من الخبر من أوجه:
أما أولاً: فلأن أبا هريرة قد روى خبراً آخر رواه عنه عطا. وهو قوله (ص): (( إذا ولغ الكلب في إناء أهريق وغسل ثلاث مرات )). فهذا الخبر يناقض خبركم فيجب الحكم عليهما بالتعارض والتساقط. أو نقول: خبرنا أرجح؛ لأنه هو الأقل المستيقن فيجب العمل [به].
وأما ثانياً: فلأنه قد حكي أن أبا هريرة أفتى بالغسل من الكلب ثلاث مرات، وهذا يدل على أنه فهم من الخبر المذكور فيه السبع، الندب والاستحباب، إذ لا يجوز أن يحمل على مخالفة الرسول ً فيما قاله.
وأما ثالثاً: فلأنا نقول: إن هذا منسوخ لأنه تكلم حين قال: غسل الثوب من البول سبع مرات، والغسل من الجنابة سبع مرات، والصلوات فرضت خمسين، ثم نسخ جميع ذلك وهو من جملتها فلهذا كان منسوخاً.

وأما رابعاً: فلأن في بعض الأخبار: (( والثامنة بالتراب))(1). وقد اتفقنا على أن التعفير في الثامنة غير واجب، فهكذا في السبع يكون على جهة الاستحباب وهذا هو مطلوبنا بكونه مستحباً.
وأما خامساً: فلعل هذا العدد إنما أمر به في الوقت الذي أمر بقتل الكلاب حين قال: (( اقتلوا كل أسود بهيم ))(2). فجميع ما ذكرناه من هذه الأوجه كلها، دال على اعتبار بطلان العدد سبعاً.
قالوا: إحدى الطهارتين، فجاز أن يعتبر فيها العدد كالطهارة من الحدث.
قلنا: نقلب عليكم ما ذكرتموه من القياس.
إما بأن نقول: فوجب أن لا يعتبر فيها العدد سبعاً كالطهارة من الحدث.
وإما بأن نقول: فوجب أن لا يتكرر فيها وجوب الغسل كالطهارة من الحدث.
وإما بأن نقول: فوجب أن يكون الوجوب متعلقاً فيها بالمرة الواحدة، كالطهارة من الحدث.
قالوا: حكم شرعي، فوجب أن يكون العدد في السبع واجباً فيه كرمي الجمرة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن رد الطهارة إلى طهارة مثلها أولى من ردها إلى الحج، لاختلافهما وتباين أحكامهما وموضوعهما.
وأما ثانياً: فلأن ما ذكروه من الوصف، من الأوصاف الطردية الذي يستوي ثبوت الحكم ونفيه عليها، ولا يكون لأحدهما مزية على الآخر، وهذه أمارة كون الوصف طرداً لا تعويل عليه، ولهذا فإنك لو قلت: حكم فلا يتكرر عدده من جهة الوجوب كالحج.
التفريع على هذه القاعدة:
__________
(1) ولفظ الحديث ما رواه المؤيد بالله في شرح التجريد بسنده عن عبدالله بن المغفل أن رسول اللّه ً قال: ((إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب)). حكاه في الاعتصام وأصول الأحكام والشفاء.
(2) رواه أحمد في مسنده بلفظ: ((اقتلوا الأسود البهيم)). وفيه روايات بألفاظ مختلفة تشمل الأمر بقتل الأسودين: (الكلاب والحيات)، وبقتل الكلاب وبقتل الحيات بالنص على تسميتها. والبهيم: الأسود الخالص.

الفرع الأول منها: إذا ولغت كلاب كثيرة في إناء واحد، أجزأه عندنا أن يغسله مرة واحدة على رأي السيد أبي طالب وهو المختار.
فأما أصحاب الشافعي فلهم قولان:
أحدهما: أنه يغسل لكل كلب سبع مرات.
وثانيهما: وهو الذي ذكره حرملة، أن يغسل للكل منها سبع مرات، والصحيح عند أصحاب الشافعي هو الثاني، لأن الغسلات السبع كافية في الإزالة، كما لو اجتنب مرات كثيرة فإنه يكفيه غسل واحد، وكما لو تنجس الإناء ببول وعذرة وخمر، فإنه يجزيه غسلة واحدة من غير تكرير.
الفرع الثاني: إذا وقع الإناء الذي ولغ فيه الكلب في ماء قليل، تنجس الماء ولم يطهر الإناء على رأي الأكثر من العترة وأكثر الفقهاء، فأما على رأي الإمام القاسم بن إبراهيم، وهو المختار عندنا، فإنه ينظر في الماء، فإن كان متغيراً بالنجاسة كان نجساً ولم يطهر الإناء، وإن كان الماء غير متغير طهر الإناء والماء جميعاً؛ لأن الماء غير نجس، والإناء لا ينجس أيضاً.
وإن وقع الإناء في ماء كثير لم يكن الماء نجساً لكونه كثيراً. وكل على رأيه من العلماء في حد القليل والكثير، كما قدمنا تفصيله. وهل يطهر الإناء مع فرض كون الماء كثيراً، فيه خمسة أقوال محكية عن الشافعي.
أولها: أنه طاهر لأنه لو ولغ فيه الكلب وهو في هذه الحالة لم يكن نجساً، فهكذا إذا ولغ فيه من قبل ثم وضع في ماء كثير.
وثانيها: أنه يحتسب ذلك مرة واحدة في طهارة الإناء ولابد من ست مرات بناءً على قوله: إنه لا بد من سبع في ولوغ الكلب في الإناء.
وثالثها: أنه يحتسب بذلك ست مرات؛ لأن ذلك أبلغ من ورود الماء عليه ست مرات ولابد من غسلة سابعة بالتراب.
ورابعها: أنه يُنظر فإن أصاب الكلب الإناء نفسه احتسب بذلك غسلة، وإن أصاب الكلب الماء الذي في الإناء نجس الإناء تبعاً للماء، احتسب به هاهنا سبعاً.
وخامسها: أنه ينظر فإن كان الإناء ضيق الرأس لم يطهر، وإن كان واسعاً طهر.

والمختار: هو الأول على رأي أئمة العترة، لأنه إذا كان حاصلاً في ماء كثير فقد طهر؛ لأن النجاسة غير ظاهرة فيه فوجب القضاء بطهارته.
الفرع الثالث: إذا ولغ الكلب في إناء فغسل وانفصل الماء إلى إناء آخر وهو غير متغير، فهل يحكم بطهارة الماء أم لا؟ فيه كلام، فعلى ما ذكره الإمام أبو طالب ينجس المجاور الأول، وعلى كلام المؤيد بالله ينجس المجاور الأول والثاني، والمجاور الثالث طاهر باتفاقهما جميعاً، فإذا جمعت في إناء واحد وجب الحكم عليه بكونه نجساً؛ لأنه ماء قليل وقد اتصلت به النجاسة فنجسته سواء كان متغيراً أو غير متغير، لأن الماء إذا كان قليلاً ثم وقعت فيه نجاسة فإنه يكون نجساً وإن لم يتغير كما مر تقريره.
وأما على رأي الإمام القاسم وهو المختار فإنه ينظر، فإن كانت هذه الغسالات متغيرة بالنجاسة فهي نجسة، وإن كانت غير متغيرة بالنجاسة فهي طاهرة لظواهر الأخبار التي قدمناها.
فأما الشافعي فله في ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الغسالات السبع في ولوغ الكلب نجسة عند انفصالها.
وثانيها: أنها كلها طاهرة.
وثالثها: أن السابعة طاهرة وما قبلها نجس، وهو الصحيح عند أصحابه، فإذا ضُمت السابعة إلى ما قبلها كان الجميع منها نجساً؛ لأن الطاهر مغلوب بالنجس فلهذا كان نجساً.
الفرع الرابع: في التراب، هل يكون واجباً في الغسل من ولوغ الكلب أم لا؟ والذي عليه علماء العترة: أنه غير واجب، وهو قول أبي حنيفة.
والحجة على ذلك: هو قياسه على سائر النجاسات بجامع كونها نجسة، ولأنه لا أثر له فيحتاج إلى غير الماء كسائر النجاسات التي لا أثر لها.
وحكي عن الشافعي أنه واجب لقوله ً، في حديث الغسل من الكلب: (( إذا ولغ في الإناء اغسلوه سبعاً إحداهن بالتراب ))، وفي حديث آخر: (( أولاهن بالتراب)). وقد تكلمنا على ضعف الخبر، وإفساد التعلق به في إيجاب السبع فأغنى عن الإعادة.

ثم إنه محمول عندنا على الاستحباب في التنظيف عن ولوغه وتبعيداً عن مخالطته ومخامرته بما ذكرناه من التغليظ في غسل ما ولغ فيه؛ لأنهم كانوا يعتادونها ويألفون مخالطتها في أكثر أحوالهم، كما كان الجاهلية يفعلون، فورد الشرع في أول الإسلام بالبعد منها والتقذير لأحوالها(1).
والغسل بالتراب هل يكون أحد السبع على رأي الشافعي، وهل يكون أولاً أو آخراً أو وسطاً، فالأمر فيه قريب، وحكي عن بعض أصحاب الشافعي أن الأفضل فيه أن يكون قبل السابعة ليرد عليه ما ينظفة(2). وحكي عن الحسن البصري وأحمد بن حنبل أن الثامنة تكون بالتراب.
الفرع الخامس: على رأي الشافعي في قدر التراب، وفي قدره وجهان:
أحدهما: ما يقع عليه اسم التراب؛ لأنه أطلق في الحديث من غير تقدير له.
وثانيهما: أنه لا بد من أن يكون مستوعباً لمحل الولوغ؛ لأن النجاسة شاملة له ومتصلة به.
وهل يقوم غير التراب مقامه أم لا؟ فيه عندهم وجهان:
أحدهما: أنه تعبد لا يعقل معناه فلا يقوم مقامه غيره من الصابون والأشنان، وغيرهما من المنظفات.
وثانيهما: أنه يعقل معناه؛ لأن المقصود به التنظيف عن تقذير الكلب فيلحق به ما هو مثله أو أبلغ منه.
وإن خُلط التراب بغيره فهل يجزي أم لا؟ فيه وجهان:
أحدهما: أنه يجزي؛ لأنه هو المقصود.
وثانيهما: أنه لا يجزي؛ لأنه غير مطهر.
وإن بال الكلب على الأرض فجرى عليه الماء سبع مرات، فهل يحتاج إلى تراب أم لا؟ فيه وجهان؛ الأصح منها أنه لا يحتاج إلى تراب؛ لأن نفس الأرض كلها تراب.
مسألة: قد ذكرنا فيما سبق نجاسة المني ودللنا عليه، وإذا كان نجساً فهل يجب غسله أو يجزي فيه الفرك؟ فيه مذهبان:
__________
(1) رأينا تقديم جملة (كما كان الجاهلية يفعلون) بعد جملة (في أكثر أحوالهم) لتكون بعيدة عن فهم معناها على عكس حقيقته، كما كانت عند مجيئها بعد جملة: (فورد الشرع في أول الإسلام بالبعد عنها والتقذير لأحوالها).ا.هـ.
(2) أي: على الغسل بالتراب.

المذهب الأول: أنه لا يطهر إلا بالغسل، وهذا هو رأي أئمة العترة، ومحكي عن مالك.
والحجة على ذلك: ما قدمناه من خبر عمار، وهو قوله ً: (( إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني)). فأخبر أنه يجب غسله كما في غيره من تلك النجاسات التي ذكرها في الخبر.
الحجة الثانية: قياسية، وهي أنه مائع نجس فلا يجزي فيه إلا الغسل كالبول، أو أنه نجس فلا يجزي فيه الفرك كسائر النجاسات، أو نقول: مني فلا يجزي فيه إلا الغسل، كما لو كان رطباً، وعلى [رأي] أبي حنيفة فإنه قال بوجوب غسله إذا كان رطباً.
فأما الشافعي فقد قدمنا أنه عنده طاهر فلا يحتاج إلى طهارة بفرك ولا غسل.
المذهب الثاني: أنه إذا كان رطباً وجب غسله، وإذا كان جافاً فتطهيره يكون بالفرك من غير غسل، وهذا هو رأي أبي حنيفة وأصحابه.
والحجة على ذلك: ما في حديث عائشة رضي اللّه عنها وهو أنها قالت: (( كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه ً وهو في الصلاة))(1).
ووجه الاحتجاج بالخبر: هو أنا قد دللنا على نجاسته بما مر تقريره، ولكن الخلاف في كيفية التطهير، فلو كان الغسل فيه واجباً لغسلته؛ لأنه أقرها على تركه ولم ينكره عليها، فدل ذلك على أن التطهير في حقه إنما هو بالفرك لا غير.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة من وجوب غسله.
__________
(1) هذا الحديث جاء في مهذب الشافعية، وفي التلخيص نحوه عن ابن خزيمة والدارقطني والبيهقي أن عائشة قالت: ربما حتته من ثوب رسول اللّه وهو يصلي، ورواه ابن حبان عن عائشة، وهناك روايات أخرى عن عائشة بلفظ: كنت أفرك المني من ثوب رسول اللّه فيصلي فيه. وهذه الرواية لأبي داود. قال في (جواهر الأخبار) في نهاية استقرائه لروايات من هذا الحديث، ما لفظه (تنبيه): استغرب النووي هذه الرواية ولم يعزها لأحد في شرح المهذب. والله أعلم.ا.هـ.

والحجة على ذلك: ما ذكرناه عنهم، ونزيد هاهنا وهو أن البول والمني يخرجان من مخرج واحد وهو الإحليل، فوجب(1) تطهيرهما بالغسل على سواء كالحيض والنفاس، ولأنه إذا تقرر كونه نجساً فالفرك لا ينقي النجاسة كما لا ينقي البول من الثوب ودم الحيض، ولأن الفرك إنما يزيل ما كان غليظاً منه، فأما البلة فهي باقية لا يطهرها الفرك، كما أن الفرك في حق العذرة لا يطهرها لَمَّا كان لا ينقي إلا غليظها دون بلتها.
الانتصار: قالوا: حديث عائشة صريح في تطهيره بالفرك.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهر الخبر إلا أنها فركته فمن أين أنها لم تغسله كما يُفعل في العادة، فإن من أراد غسل نجاسة غليظة فإنه يبدأ بفركها قبل غسلها تقليلاً من نجاستها لا أنه يكتفي بالفرك، فهكذا ما فعلته عائشة من ذلك.
وأما ثانياً: فإنا نقول: أخبِرُونا عن الفرك حين اشترطتموه في المني، هل هو مزيل لنجاسته أو مخفف لها؟ فإن كان مزيلاً لها فيجب أن يزيلها، وإن كان رطباً وأنتم قد أوجبتم غسل ما كان منه رطباً، وإن كان مقللاً للنجاسة حصل مرادنا من بقاء النجاسة، فيجب إزالتها بالغسل؛ لأن قليل ما كان نجساً غير معفو عنه فتجب إزالته كما تجب إزالة كثيره.
قالوا: روي عن رسول اللّه ً أنه قال لعائشة: (( إذا رأيت المني يابساً فحتيه ، وإن كان رطباً فاغسليه))(2). فظاهر الخبر دال على رطبه ويابسه، وفي هذا دلالة على ما قلناه من أنه إذا كان يابساً فحته كاف في تطهيره.
__________
(1) في نسخة [و]: فيجب.
(2) قال ابن الجوزي في (التحقيق): هذا الحديث لا يعرف بهذا السياق وإنما نقل أنها - يعني عائشة - كانت تفعل ذلك. رواه الدارقطني وأبو عوانة في صحيحه وأبو بكر البزار، كلهم من طريق الأوزاعي، عن عمرة عن عائشة. ا.هـ . ملخصاً من (جواهر الأخبار).

60 / 279
ع
En
A+
A-