قالوا: البول يختلف حاله في الإزالة والتطهير، فمنه ما يحتاج في تطهيره إلى ماء كثير وهو بول المحرور(1)، فإن بوله ثخين أصفر له رائحة خبيثة فلا يزول إلا بماء كثير. وبول من كانت الرطوبة غالبة عليه والبلغم، أبيض رقيق لا رائحة له يزول بماء قليل، وإذا كان الأمر كما قلناه، فنقول: إن بول الجارية أصفر ثخين، وبول الغلام أبيض رقيق فلأجل هذا اختلفا في الإزالة كما قلناه.
قلنا: الموجب لغسل الثوب شرعاً كونه بولاً، وجميع الأبوال متفقة في كونها أبوالاً، فيجب اتفاقهما في الغسل من غير مخالفة بينهما.
ومن وجه آخر: وهو أن ما ذكرتموه إنما هو تعويل على اختلاف الأمزجة والأمراض والعلل وليس من الأدلة الشرعية في ورد ولا صدر، وكلامنا إنما هو في ما تناولته الأدلة الشرعية، وتدل عليه وتكون مرشدة إليه، فبطل الالتفات إليها والتعويل عليها.
ومن وجه ثالث: وهو أنكم إذا زعمتم أن البول إذا اختلف وصفه اختلف غسله، فتقولون: بأن بول المحرور يجب غسله لكونه أخبث وأقذر من بول المرطب، فَأَوْجِبُوا في بول المرطب النضح والرش كما قلتم في بول الغلام مع بول الجارية لما اختلف حالهما، وأنتم لا تقولون به فبطل ما زعموه.
فهذا ما أردنا ذكره من المسائل الشرعية من النوع الأول، وبالله التوفيق.
النوع الثاني: في بيان كيفية الغسل لما يمكن غسله من النجاسات الشرعية وفيه مسائل:
مسألة: ذهب علماء العترة ومن تابعهم من فقهاء الأمة إلى أن النجاسات إذا كانت غير مرئية فالمشروع في غسلها ثلاث مرات، لما روي عن النبي ً أنه قال: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً )). فإذا شُرع ذلك في حق النجاسة التي يشك فيها، فَلأَنْ يُشرع في النجاسة المتحققة أولى وأحق، وهل يجب العدد أم لا؟ فيه مذاهب ثلاثة:
__________
(1) المصاب بالحُمَّى.
المذهب الأول: أنه لا بد فيها من رعاية العدد في الثلاث، وهذا هو الذي نصره السيدان المؤيد بالله وأبو العباس وهو المحكي عن المتقدمين من أصحاب أبي حنيفة. فأما أبو حنيفة فالمحكي عنه: أن النجاسة إذا كانت غير مرئية غُسلت حتى يغلب على الظن زوالها، لكن التقدير من جهة أصحابه بالثلاث.
والحجة على ذلك: ما روينا من الخبر المتقدم، وهو قوله ً: (( إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس )). وظاهر النهي للتحريم، ولن يكون الغمس محرماً إلا والغسل واجباً ثلاثاً لظاهر الحديث، من غير حاجة إلى تأويله، والسبب في ذلك أنهم كانوا ينامون على غير طهارة من البول والغائط، فأمرهم الرسول ً بغسل الأيدي ثلاثاً قبل أن يغمسوها في الإناء، لتكون طاهرة مما عسى أن تمس أيديهم من تلك النجاسة.
المذهب الثاني: أنه لابد من رعاية العدد وهو سبع، وهذا هو المحكي عن الحسن وأحمد بن حنبل.
والحجة لهما على ذلك: ما روى أبو هريرة عن النبي ً أنه قال: (( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً)). فنص على هذه العدة في حق الكلب، ثم قسنا سائر النجاسات عليها والجامع بينهما، كونها نجاسة غير مرئية.
المذهب الثالث: أنه لا حاجة هناك إلى اعتبار العدة من ثلاث ولا من سبع، وهذا هو الذي حصله السيد أبو طالب لمذهب الإمامين: القاسم والهادي وهو رأيه، ومحكي عن الشافعي وأصحابه، ومحكي عن متأخري أصحاب أبي حنيفة كالكرخي، والجصاص.
والحجة على ذلك: ما روى ابن عمر رضي اللّه عنه: أنه كُتِبت الصلاة خمسين ، والغُسل من الجنابة سبع مرات، وغسل الثوب من النجاسة سبع مرات، فلم يزل رسول اللّه ً يَسأل حتى جُعلت الصلاة خمساً، والغُسل من الجنابة مرة، وغَسل الثوب مرة واحدة(1). فهذا تقرير هذه المذاهب بأدلتها.
__________
(1) أخرجه أبو داود، وحكاه في (جواهر الأخبار).
والمختار: ما قاله الإمام أبو طالب من أن رعاية العدد غير معتبرة في النجاسة، ويدل عليه ما قدمناه، ونزيد هاهنا حجتين:
الحجة الأولى: هو أن الغرض من التطهير إنما هو إزالة النجاسة وقلعها عن الثوب وغلبه الظن في ذلك، ولا شك أن المرة الواحدة كافية في تحصيل غلبة الظن، فيجب الاعتماد عليها إذ لا دلالة على ما وراءها من جهة الشرع كما سنقرره بعد هذا.
الحجة الثانية: هو أنه تطهير بالماء من نجاسة فلا يعتبر فيه العدد، دليله: ما له عين مرئية.
الانتصار لما قلناه: يكون بإبطال ما اعتمدوه.
قالوا في إيجاب الثلاث: قوله ً: (( إذا استيقظ...)) الحديث.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فليس في ظاهر الحديث ما يدل على الإيجاب من لفظ ولا غيره، فلا يكون لكم في ظاهره دلالة.
قالوا: فيه النهي وهو دال على التحريم، فإذا كان الغمس محرماً كان الغسل الذي هو تركه واجباً.
قلنا: لا نسلم أن النهي دال على التحريم بل أقل مراتبه الكراهة، وهي أدنى درجات المنع، والتحريم إنما يثبت بدلالة أخرى، كما أن أدنى درجات الأمر الطلب، والوجوب معلوم بدلالة أخرى.
وأما ثانياً: فلأن الخبر إنما ورد على جهة الاستحباب دون الوجوب، وكلامنا إنما هو في الوجوب، ويدل على الاستحباب أنه قال في آخر الخبر: (( فإنه لا يدري أين باتت يده )). فدل ذلك على أن تعين النجاسة غير حاصل، وهذا مما يؤكد الاستحباب.
قالوا في إيجاب السبع لكل نجاسة: ورد عن النبي ً أنه أوجب من ولوغ الكلب أن يُغْسَل سبع مرات فتجب في كل نجاسة بجامع النجاسة.
قلنا: عما ذكرتموه جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم أن الكلب يغسل من ولوغه سبع مرات، وسنقرر عليهم مسألة على حيالها تدل على بطلان العدد فيه بمعونة اللّه تعالى.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا ذلك في الكلب فلا نسلمه في غيره؛ لأن للكلب زيادة في التقذير الذي ذكرناه فبطل ما توهموه.
مسألة: قد ذكرنا فيما سلف أن الماء المستعمل في إزالة النجاسة بعد الحكم عليه بالطهارة كالغسالة الثانية على رأي الإمام أبي طالب، والغُسَالَةِ الثالثة على رأي الإمام المؤيد بالله، يكون مستعملاً لا محالة، فلا يجوز أن يُزال به الحدث، ولا يُزال به النجس على رأي الأكثر من علماء العترة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي.
فأما على المختار وهو قول المؤيد بالله، فيجوز ذلك في حقه وقد مر الكلام عليه باستيفاء فأغنى عن الإعادة.
والذي نريد ذكره هاهنا، إنما هو الكلام في نجاسة الغسالات وطهارتها وفيه مذاهب ثلاثة:
المذهب الأول: أن الغُسالة الأولى نجسة، وهذا هو رأي الإمام أبي طالب وهو محكي عن أبي حنيفة.
والحجة لهما على ذلك: هو أن المقصود به(1) إزالة النجاسة فلما أزيلت به كانت منتقلة إليه فوجب الحكم عليه بكونه نجساً.
المذهب الثاني: أن الغسالة الأولى والثانية نجستان، وهذا هو رأي الإمام المؤيد بالله.
والحجة له على ذلك: ما في ظاهر الخبر وهو قوله: (( فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثا ً)). فلولا أن الأولى والثانية نجستان وإلا لما أمر بالثلاث.
المذهب الثالث: رأي الشافعي، وقد حكي عنه قولان:
أحدهما: أن الغُسالة الأولى تكون نجسة، وهو الذي حكاه الأنماطي.
وثانيهما: أنها تكون طاهرة إذا لم تكن متغيرة بالنجاسة، وهو الصحيح عند أصحابه.
والمختار في ذلك: تفصيل نشير إليه، وحاصله أنا نقول: الغُسالة لا يخلو حالها إما أن تكون متغيرة بالنجاسة أو لا، فإن تغيرت بالنجاسة فلا خلاف في كونها نجسة، لقوله عليه السلام: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه)). ولأنها قد اكتسبت جزءاً من النجاسة فيجب أن يكون حالها كحالها في النجاسة.
__________
(1) أي: بماء الغسالة.
وإن لم تكن متغيرة بالنجاسة فهي طاهرة كما هو الأصح من قولي الشافعي كما حكيناه عنه، وهو الذي يأتي على رأي الإمام القاسم بن إبراهيم في أن الماء لا ينجس إلا بالتغير، وهذا عام في كل صورة.
والحجة على ذلك: ما قدمناه من الأصل والقاعدة، وهو قوله ً: (( خلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو طعمه)). وهذا لم يتغير شيء من أوصافه فيجب الحكم عليه بالطهارة.
الحجة الثانية: حديث الأعرابي الذي بال في المسجد فأمر الرسول من صب عليه ذنوباً، فلو كانت الغسالة تنجس لكان في ذلك تكثير للنجاسة في المسجد، فدل ذلك على طهارتها.
واعلم بأن كل من قال بنجاسة الماء القليل وإن لم يتغير فإن قياس مذاهبهم: هو نجاسة الغُسالة لا محالة من جهة أن النجاسة قد اتصلت بها وإن لم تكن مغيرة لها، والعجب من الشافعي حيث قال بطهارتها مع أنها قد اتصلت بالنجاسة، وقياس قوله: نجاستها.
الحجة الثالثة: أن من جملة هذه الغسالة: البلل الباقي في الثوب، وهو طاهر إجماعاً بعد انفصالها عنه عند الحكم بطهارة المحل، فيجب أن تكون طاهرة أيضاً لكونه ماء واحداً.
فحصل من مجموع ما ذكرناه هاهنا أن الواجب غسلة واحدة، وأن ماء الغسالة طاهر إذا لم يتغير بالنجاسة، وأن الغسلات الثلاث إنما هي على جهة الاستحباب وقد قررناها بأدلتها.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه حجة لهم.
قالوا في نجاسة الغُسالة الأولى: هو أن المقصود منها إزالة النجاسة، فيجب أن تنتقل إليها فتكون نجسة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلأن ما ذكرتموه مجرد دعوى ليس فيه إشارة إلى دلالة توجب ما ذكرتموه فلا يُعَرَّجُ عليه.
وأما ثانياً: فلأنا نقول: غُسالة قصد بها إزالة النجاسة فيجب الحكم عليها بالطهارة كالغُسالة الثالثة على جميع الأقوال.
قالوا: ماء غُسِلَتْ به النجاسة فكان نجساً كما لو انفصل قبل تطهير المحل.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فلا نسلم ما ذكرتموه، بل ولو انفصل قبل تطهير المحل فإنه يكون طاهراً؛ لأن التعويل في نجاسته إنما يكون على تغيره بالنجاسة، فإذا لم يتغير فهو طاهر بكل حال، سواء انفصل قبل التطهير أو بعده.
وأما ثانياً: فهب أنا سلمنا هذا الأصل، فالتفرقة بينهما ظاهرة من جهة أن الباقي في المحل نجس، فلهذا كان المنفصل عنه نجساً بخلاف ما نحن فيه فإن الباقي في المحل طاهر، فلهذا كان المنفصل مثله.
ووجه ثالث: وهو أن النجاسة إذا لم تظهر عليه صار مغلوباً بالطهارة فلهذا كان طاهراً، وإذا ظهرت عليه صار مغلوباً بالنجاسة، فلهذا كان نجساً.
قالوا: النجاسة لا تخلو من محل فإذا انتقلت من الثوب وجب حصولها في الماء، وفي ذلك كونه نجساً بالاتصال بها.
قلنا: هذا ساقط لأمرين:
أما أولاً: فلابد من محل خلا أنه يسقط حكمها بالاستهلاك كما سقط حكم الخمر بالانقلاب(1).
وأما ثانياً: فكما لا يخلو الماء من النجاسة على زعمكم، فالمحل المتنجس غير خال عنها أيضاً، ثم إنا قد حكمنا بطهارة المحل بعد انفصال الماء عنه فهكذا حال الماء، فبطل ما ظنوه.
مسألة: إذا كانت النجاسة خمراً لها عين مرئية فهل يعتبر في غسلها عدد أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أنه يجب اعتبار العدد فيها، وهذا هو الذي ذكره السيد أبو العباس وقرره لمذهب الإمامين: القاسم والهادي، وهو الظاهر من مذهب المؤيد بالله، ومعنى اعتبار العدد فيما عينه مرئية، هو أن غسله حتى تذهب عينه يُعد مرة واحدة، ويجب بعد ذلك مرتان اثنتان من جهة أن المرة الأولى لا معنى لاعتبار العدد فيها، بل زوالها بعد مرة واحدة وإن تكرر فيه الغسل مراراً كثيرة.
__________
(1) يقصد: بالاستحالة.
والحجة على ذلك: ما روي عن النبي ً، أنه لما سألته أسماء بنت عميس ) عن دم الحيض يكون في الثوب، فقال لها: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء ثم لا يضرك بعد ذلك أثره))(2).
ووجه الاحتجاج بهذا الخبر: هو أنه أمرها بالحت أولاً وهو الفرك باليدين، ثم أمرها ثانياً بالقرص، والفرصة: قطعة صوف يدلك بها الشيء(3)، ثم أمرها ثالثاً بالغسل بالماء، وهذه ثلاث دفعات، لأن المعنى: حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم اغسليه بالماء ، وهذا دليل على ما ذكرناه من اعتبار العدد في الغسلات.
المذهب الثاني: أنه لا يعتبر العدد إنما الاعتبار بزوال العين، فإذا زالت فلا حاجة إلى غسلتين بعده. وهذا هو رأي الإمام أبي طالب، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والشافعي وأصحابه.
__________
(1) أم عبدالله أسماء بنت عميس بن معبد الخثعمية، من أشهر راويات الحديث، وهي زوج جعفر الطيار (ابن أبي طالب)، وهاجرت معه إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وبعد استشهاده في مؤته تزوجها أبو بكر، وبعد وفاته تزوجها الإمام علي، وعاشت بعد استشهاده. حدَّث عنها: ابنها عبدالله بن جعفر، وسعيد بن المسيب، وعروة، والشعبي. (در السحابة).
(2) عن أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى رسول اللّه ً فسألته عن المرأة يصيب ثوبها من دم الحيض؟ فقال: ((تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه)). أخرجه الستة. والحديث كما أورده المؤلف هو بلفظ رواية النسائي أن امرأة استفتت النبي (ص) عن دم الحيض يصيب الثوب، قال: ((حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه وصلي فيه )). هكذا في (جواهر الإخبار).
(3) جاء في هامش الأصل تعليقاً على هذا التعريف ما لفظه: الفرصة بالفاء: قطعة صوف تتتبع بها المرأة آثار الحيض، ولا مدخل لذكرها هاهنا، فأما القرص (بالقاف) فهو جمع الثوب بالأصابع وغسله. والله أعلم. ا.هـ.
والحجة على ذلك: ما في حديث عمار من قوله عليه السلام: (( إنما تغسل ثوبك من الغائط والبول)). ولم يذكر العدد ولا فصل بين ما نجاسته مرئية أو غير مرئية، وفي هذا دلالة على بطلان العدد في النوعين جميعاً كما قدمنا.
والمختار: ما عول عليه السيد أبو طالب ومن تابعه من الفقهاء.
والحجة على ذلك: هو أن المقصود من النجاسة المرئية إنما هو عينها، فإذا زالت العين فهي التي يتعلق بها حكم التنجيس، فلهذا قلنا ببطلان شرط العدد.
الانتصار: يكون بإبطال ما جعلوه عمدة لهم.
قالوا: حديث أسماء دال على اعتبار العدد.
قلنا: عنه جوابان:
أما أولاً: فلأنه ليس في ظاهره ما يدل على تكرر الغسلات، وإنما قال: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه )). فالحت عبارة عن الحك باليدين من غير غسل، والقرص عبارة عن استعمال الفرصة من غير غسل، ولم يذكر هناك إلا غسلة بالماء لا غير، فلا حجة لكم في ظاهره على تكرر الغسلات.
وأما ثانياً: فلأنه قال في آخره: (( ثم اغسليه بالماء )). ولم يذكر عدداً، فدل ذلك على بطلان العدد.
قالوا: إزالة النجاسة يتعلق بها حكمان:
أحدهما: إزالة العين.
وثانيهما: إزالة الحكم. فإذا زالت العين فلابد من إزالة الحكم، وليس ذلك إلا بغسلتين، وهذا الذي نريده بإيجاب العدد في غسل النجاسة.
قلنا: عن هذا جوابان:
أما أولاً: فالذي يلزم من النجاسة، هو غسلها للصلاة فإذا كانت مرئية فلا بد من إزالتها وإن كانت غير مرئية فلا بد من غسلها، فمن أين أنها إذا كانت مرئية فلا بد من غسلها بعد إزالة عينها، ولم تدل على ذلك دلالة من جهة الشرع؟ وفيه وقع النزاع.
وأما ثانياً: فلأن المفهوم من عناية الشرع في غسل النجاسة إنما هو بإزالة عينها، ولهذا قال: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء )). يقرر أن المقصود إنما هو الإزالة للعين، فإذا زالت فلا عناية هناك في غسلها، فبطل ما توهموه في ذلك.
مسألة: إذا كانت النجاسة خمراً أو بول مبرسم أو محرور(1) أو غير ذلك من النجاسات التي تغسل فتبقى آثارها، فهل يجب إبلاء العذر في إزالتها بشيء غير الماء، من الصابون والأشنان والإذخر والسدر وغير ذلك مما يكون قالعاً لأثرها أم لا؟ فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن ذلك واجب، وهذا هو رأي أئمة العترة لا يختلفون فيه، وهو الذي نص عليه المؤيد بالله في كتابه (الزيادات)(2) وتخريج القاضي زيد للقاسم وحكاه في (الزوائد)(3) عن القاسمية.
والحجة: ما رويناهُ من حديث أسماء، حيث سألته ً، عن دم الحيض، فقال لها: (( حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه)). فدل ظاهره على أنه أمرها باستعمال شيء غير الماء مما يكون مزيلاً لأثر الدم وهذا هو مطلوبنا.
المذهب الثاني: لا يجب استعمال غير [الماء]، وهذا هو [الذي] ذكره الناصر والأخوان في الشرحين(4) والمنصور بالله.
__________
(1) البرسام: بالكسر علة يهذى فيها. ا.هـ قاموس. والمحرور: المصاب بالحمى، والمعنيان متقاربان.
(2) في الفقه منه خمس نسخ مخطوطة بمكتبة الجامع الكبير بصنعاء.
(3) كتاب في الفقه.
(4) شرح التجريد للمؤيد بالله، وشرح التحرير لأبي طالب، منها عدة نسخ مخطوطة بمكتبة الأوقاف.
والحجة على ذلك: ما رواه أبو هريرة أن خولة بنت يسار ) أتت النبي ً، فقالت: يا رسول اللّه ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه فكيف أصنع؟ قال: (( إذا طهرت فاغسليه ثم صلي فيه )). قالت: فإن لم يخرج الدم؟ قال: (( يكفيك الماء ولا يضرك أثره ))(2). فهذا نص في عدم الاستعمال في أثر النجاسة.
والمختار: ما عول عليه علماء العترة.
__________
(1) خولة بنت يسار صحابية. راوية للحديث. روت عن النبي ً، وروى عنها أبو سلمة بن عبدالرحمن كما في الاستيعاب. وهناك شك لدى أصحاب التراجم بأنه قد تكون هي وصحابية أخرى اسمها خولة شخصية واحدة، لأن إسناد حديثهما واحد. قال ابن حجر: لا يلزم من كون الإسناد إليهما واحد مع اختلاف المتن أن تكونا واحدة...إلخ. راجع (الإصابة)، و(الاستيعاب)، و(أعلام النساء).
(2) قال العلامة ابن بهران في (جواهر الأخبار) بعد أن أورد هذا الحديث: هكذا في (الانتصار)، وأخصر منه في (المهذب) ثم أورد لفظه عن (التلخيص)، ثم قال: رواه أحمد وأبو داود في رواية ابن الأعرابي، والبيهقي من طريقين عن خولة، وفيه ابن لهيعة، قال إبراهيم الحربي: لم نسمع بخولة بنت يسار إلا في هذا الحديث، ورواه الطبراني في الكبير من حديث خولة بنت حكيم وإسناده أضعف من الأول .ا.هـ ملخصاً.